رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

المسلم بين الإيمان الحق.. والتأسلم (19)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
والحقيقة أن الشيخ علي عبد الرازق لم تهبط عليه الليبرالية فجأة، ولم يكن كتابه وليدًا لفكرة طارئة، وإنما هو ومنذ نشأته الأولى كان واحدًا من مؤسسي تيار ليبرالي تبلور في إطار مجموعة من الشبان المستنيرين قبيل ثورة 1919 وما بعدها، فقد كان علي عبد الرازق وشقيقة مصطفى عضوين في مجموعة ليبرالية تضم د. محمد حسين هيكل، ومحمود عزمي وعزيز، ود. منصور فهمي وغيرهم، وكان الأب الروحي لهذه المجموعة أحمد لطفي السيد، ولكي نطل على بعض أفكار هذه المجموعة نستمع إلى شفيق غربال وهو ينعي هيكل: “,”تحدث محمد حسين هيكل عن زيارته لباريس هناك، فقال: ومرت الأيام وأنا أرى في مدينة النور ألوانًا من الحياة تفسح أمام النظر أفق التفكير، وتزيد الإنسان إيمانًا بحرية العقيدة والرأي، وبأن التعصب ذميم، وأن أول واجب للإنسان أن يديم البحث عن الحقيقة“,”.
ويمضي د. غربال: “,”لقد ترجم هيكل أجزاءً من كتاب روسو وأهداها إلى مصر الحرة، إلى القلوب الخفاقة بمعاني الحرية والعدالة والإخاء“,” [مجلة اللغة العربية – (مجموعة 1962) – كلمة شفيق غربال في تأبين الدكتور هيكل – صـ212 وما بعدها].
كما أصدر شقيقه الشيخ مصطفى مجلة السفور لتدعو الى التحرر في فهم الدين. [لمزيد من التفاصيل حول دور هذه المجموعة راجع: د.رفعت السعيد – عمائم ليبرالية [2002] صـ111 وما بعدها]، هذا هو الرجل والكتاب فماذا عن التداعيات، يتحدث محمد أركون عن الكتاب قائلاً: إنه “,”كان يمثل موقفًا راديكاليا أبعد من أن يكون بحثًا عن نصوص دينية تحرم الكهنوت والاستبداد، كما فعل من سبقوه كما أنه أعمق وأبعد من مجرد محاولة التوفيق بين نصوص الشريعة ومبادئ الحضارة الغربية، بل هو أول دراسة للحقيقة الدينية وارتباطها بشرعية السلطة السياسية، كما أنه أول نقد يظهر التضامن التاريخي بين الفكر الثيولوجي ومجموعة البني السياسية والسلطوية التي استخدمت الأديان في بناء كل الإمبراطوريات“,” [مجلة تحولات – العدد الرابع – [1991] مقال لمحمد أركون بعنوان فك الارتباط ما بين اللاهوت والسلطة] ولعل هذه الفكرة الجوهرية التي أثارت الضجيج الزلزالي الصدى في المجتمع المصري والعربي والإسلامي في هذه الفترة، فإذ تعرض الشيخ لهجوم من أنصار الخلافة تحركت شخصيات وقوى ليبرالية للدفاع عنه، فأصبحت القضية كما يقولون في أيامنا قضية رأي عام.. ونقرأ في مجلة “,”الهلال“,” “,”أن كل أمة إسلامية حرة لها انتخاب من تريده حاكما عليها، وسواء كان الأستاذ علي عبد الرازق قد وفق في أن يستند في نظريته إلى الدين- كما يعتقد- أو لم يوفق فإن هذه النظرية تتفق وأصول الحكم في القرن العشرين الذي يجعل السيادة للأمة دون سواها من الأفراد مهما كانت ولادتهم وميزاتهم الأخرى“,” [الهلال – يوليو 1925] ويكتب سلامة موسى “,”لعلي عبد الرازق الحق في أن يكون حرًّا يرتئي ما يشاء من الآراء دون أن يقيد بأي قيد سوى الإخلاص“,” [الهلال – أكتوبر1925] وتكتب مجلة المقتطف “,”إننا نعتقد أن كل ما قاله حضرة القاضي علي عبد الرازق وأمثاله قرين الصواب، وخال من الخطأ، وكذلك فإن قيام بعض المفكرين ووقوفهم موقف الانتقاد والشك يشحن الهمم ويغري بالبحث والتنقيب“,” [المقتطف. أغسطس 1925] ويجب أن نضع كل هذه الكتابات في إطار وضع شائك فقد تكاثرت على نطاق مصر والبلاد العربية في ظل الدعوة لمؤتمر الخلافة التي روجها بعض الأزهريين لحساب فؤاد، وهو المؤتمر الذي انتهى إلى الفشل في إطار هذا الضجيج وتحديدًا في مايو 1926.
لكن ما يستحق التوقف والدراسة المتأنية هو أن أشد لطمه وجهت إلى الكاتب والكتاب جاءت من سعد زغلول الزعيم ذي المهابة ورئيس الحزب الذي يفترض البعض أنه كان على الدوام حزب الليبرالية المصرية.. ويكتب سعد زغلول: “,”قرأت كثيرًا للمستشرقين ولسواهم فما وجدت من طعن منهم في الإسلام بحدة كهذه الحدة في التعبير على نحو ما كتب الشيخ علي عبد الرازق.. فعرفت أنه جاهل بقواعد دينه بل لبسيط من نظريته“,”، راجع لمزيد من المعلومات حول موقف سعد زغلول ضد الكتاب [د. غالي شكري - النهضة والسقوط في الفكر العربي الحديث – صـ244 وما بعدها] كما أسرع الشيخ محمد نجيب المطعني بإصدار كتاب يناقض به كتاب الإسلام وأصول الحكم ويقول فيه: إن الشيخ علي عبد الرازق أراد به أن يعطل الأداة التي بها يمكن إحداث التغيير والتطور في الإسلام، كما أنه يقضي في آخر الأمر إلى إنكار الشريعة ذاتها“,” [محمد محمد حسين – المرجع السابق صـ85] وتتعالى نبره التهديد والتحريض فيكتب رشيد رضا “,”لا يجوز لمشيخة الأزهر أن تسكت عنه لئلا يقول هو وأنصاره أن سكوتهم عنه إجازة له أو عجز عن الرد عليه“,” [المنار – 21 يونيو 1925 – مجلد 26 – صـ104] وينتفض الشيخ الخضر حسين ليصدر كتابًا بعنوان “,”نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم“,” ثم يهديه بكتابة تحريضية إلى “,”خزانة حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر الأعظم برجاء التفضل بالقبول“,” ثم “,”والصلاة والسلام على النبي وآله وكل من حرس شريعته بالحجة والحسام“,” كما أصدر الشيخ الطاهر عاشور كتابًا بعنوان “,”نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم“,” [1344 هـ].
وقبل أن نتحول إلى ردود الفعل الرسمية وتداعياتها يتعين أن نتوقف عند مفارقة ظلت تمثل لغزًا استوجب تحليلات عديدة، فالحزب الذي ساند أحد مؤسسيه وهو الشيخ علي عبد الرازق هو حزب الأحرار الدستوريين الذي جرى تصنيفه على الدوام على أنه المدافع والممثل لمصالح كبار الملاك العقاريين، وهو الحزب الذي كان منذ بدايته الأولى وعلى يدي أحمد لطفي السيد [حزب الأمة] الذي كان يرفض أي فعل فاعل ضد الاحتلال منذ مطالع القرن مطالبًا بأن تبدأ مصر رحلة الاستقلال عبر مسيرة طويلة وممتدة تستهدف نشر الأخلاق والنهوض بالأسرة، ثم تصادم في شكله الجديد [الأحرار الدستوريين] مع سعد زغلول وانحاز إلى الملك فؤاد، وحاول قدر استطاعته أن يلجأ إلى أيه تسوية مع الاحتلال.. هذا الحزب ساند الكتاب والكاتب بينما سعد زغلول يقف ضده.
وهذه الظاهرة ظلت على الدوام معلقة أمام المؤرخين والسياسيين الى أن تولى محمد محمود باشا رئاسة الحزب، فانهال بقبضة قوية على كل مقولات الديمقراطية، بحيث تناقض تماماً مع أفكار ومقولات مؤسسية، ولكن الأمر لم يزل بحاجة إلى دراسة أكثر تدقيقًا لفهم حقيقة هذا التناقض.
ولم يزل زلزال “,”الإسلام وأصول الحكم“,” قادرًا على التحرك.