الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

"معركة المياه".. ماذا نحن فاعلون؟!(1)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ارتقت الدبلوماسية المصرية - الإفريقية إلى درجة رفيعة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، في ظل رئاسة الزعيم عبد الناصر، الذي حدد في “,”فلسفة الثورة“,” ثلاث دوائر أساسية لإستراتيجية المصالح الوطنية المصرية العليا: الدائرة العربية، والدائرة الإفريقية، والدائرة الإسلامية.
وكانت التوجهات التحررية المصرية قد جعلت من مصر ودورها الريادي محلاًّ لاحترام الشعوب المقهورة، والمتطلعة للاستقلال والحرية.
فاحتضنت القاهرة كفاح قادة التحرر فيها، وفتحت لهم قلبها الدافئ، وأسبغت عليهم الحماية، وساعدتهم بالمال والعتاد والدعم السياسي والدبلوماسي، ورعت آمالهم في الانعتاق من عبودية المستعمر، ومن استغلاله لثروات القارة البكر، إفريقيا “,”السوداء“,”، التي أشرقت عليها شمس الحرية، وهو ما جعل لبلادنا مكانة مرموقة، تلُفها الهيبة ويُحيطها التقدير، في أرجاء القارة البازغة، وتعانقت الأيدي المصرية والإفريقية في مواجهة الاستعمار الغربي، ومن أجل البناء والتنمية؛ الأمر الذي حفظ لنا مصالحنا في القارة الناهضة، وحمى شريان الحياة الأول والأخير لنا، نهر النيل الخالد، من عبث العابثين، وأحقاد المأجورين، وساعدنا نحن أيضًا بدعم كفاحنا في معارك البناء والتقدم.
والحقيقة أن “,”عبد الناصر“,” لم يخترع هذا البُعد، الإفريقي، في السياسة الخارجية المصرية، ولا في تعيين دوائرها الإستراتيجية، فهو أمر مستقر في عرف “,”الدولة“,” المصرية الوطنية التاريخية، منذ وعت كينونتها وتحددت تخومها.
ثم إن هذا البعد تبلور في عصر “,”محمد علي“,” وبنيه، خاصة “,”الخديوي إسماعيل“,”، الذي مدَّت مصر في عهده سيطرتها على كامل “,”الساحل الإفريقي“,” الذي يقع على البحر الأحمر، وكل ساحل بلاد الصومال الذي يقع على المحيط الهادي، وبلاد “,”هرر“,”، (المنطقة الخلفية لميناءي “,”زيلع“,” و“,”بربرة“,”)، الواقعتين على خليج عدن، كذلك قامت مصر بضم منطقة “,”دارفور“,” الشاسعة إلى السودان نفسه، “,”حتى أصبحت حدود الممتلكات المصرية“,”، كما يقول الدكتور “,”محمد صبري السوربوني“,” في سفره العظيم عن “,”الإمبراطورية المصرية في عهد إسماعيل“,”: جنوبًا، تصل حتى منطقة “,”البحيرات العظمى“,” في “,”أوغندا“,”، و“,”أوينورو“,”، و“,”خط الاستواء“,”... أي وادي النيل بأكمله.
لم يكن لمصر أطماع استعمارية من وراء هذا القصد على الإطلاق، وإنما سعت إلى إطلاق موجة هائلة من التقدم والنهوض في كل بقعة وطأتها أقدام المصريين، الذين أنشأوا المدن الجديدة والاستحكامات العسكرية ونقاط المراقبة والمشافي والمدارس والإدارات الهندسية والبحثية، ونشروا العلوم والمعرفة أينما حلّوا، وبلغ من تعاظم الوجود المصري في إفريقيا أن بلغ عدد أعضاء الجالية المصرية، في “,”هرر“,”، على سبيل المثال، عام 1884، أربعة عشر ألف وخمسمائة فرد، ما بين مدني وعسكري، ارتبطوا بالمصاهرة مع أعداد كبيرة من أهالي البلدان التي وصلوا إليها، ناشرين بذور الحضارة أينما وضعوا أقدامهم.
ثم أتى حين من الدهر، فترهلت الدولة المصرية، بدءًا من وصول الرئيس الأسبق “,”السادات“,” إلى كرسي الحكم، فأدار ظهره لدور مصر التاريخي وسط “,”البيئة الطبيعية“,” لها: المحيط العربي والإفريقي، موليًا وجهه شطر الغرب، وعلى رأسه السيد الأمريكي وطفله المدلل.. إسرائيل!.
وكان طبيعيًّا، والحال هكذا، أن تنال القارة الإفريقية الإهمال والنسيان، الذي وصل ذروة غير مسبوقة في عهد الرئيس المخلوع، “,”حسني مبارك“,”، حتى تحول إلى شعور عدائي كاره للقارة السمراء، ولكل من عليها وما فيها، وخاصة بعد المحاولة الفاشلة التي قامت بها بعض الجماعات الدينية لاغتياله في “,”أديس أبابا“,”.
وبلغ من خطورة تراكمات الإهمال ونظرة الاستعلاء، التي تعامل بها الحكام المصريون، وبرعونة بالغة، ودون أي اعتبار للتأثيرات الخطيرة على أمن مصر من جرائها، أن وزير الخارجية الكيني، قبيل ثورة يناير 2011، صرّح -في غضب- من الطريقة المهينة التي يتعامل المسئولون الرسميون في مصر معهم بأنهم “,”ينظرون إلينا كأننا مجموعة من القرود التي تتقافز على أشجار الغابات في إفريقيا!“,”.
ومن نافل القول أن الإهمال الذي وسم ممارسات حكم مبارك في ملف المياه وإفريقيا استمر وتفاقم في عهد “,”مرسي“,” و“,”إخوانه“,”، الذين لا يوجد على خريطتهم المعرفية مكان لغير تركيا وحماس والتنظيم الدولي للجماعة وخطط “,”الأخونة“,” و“,”التمكين“,”... إلخ!، على الرغم من أن “,”هشام قنديل“,”، رئيس ما يسمّى بـ“,”مجلس الوزراء“,”، كان مسئولاً بصفته وزيرًا للري، وبصورة مباشرة، عن ملف المياه المصري، على مدى سنوات قبل تكليفه بموقعه الحالي. أي أنه يعرف معرفة اليقين خطورة الإهمال في التفاعل مع هذه القضية الحسّاسة ومشكلاتها!
وللأسف الشديد فإن تراخي المسئولين، قبل الثورة وبعدها، أوصلنا إلى هذه اللحظة البائسة التي لم يعد المصريون فيها قادرون على تأمين قطرة ماء يروون بها ظمأهم ويسدون بها عطش أراضيهم!.
لقد حلت عليهم لعنة الإله؛ لأنهم سمحوا بـ“,”تلويث مياه النيل“,” المقدس، فامتدت إليه أيدي الآخرين، نازعةً منهم مفتاح النماء، وعنهم شريان حياتهم، وسر الوجود!.
فماذا نحن فاعلون؟!:
سؤال اللحظة الفارقة الذي يستوجب التفكير العميق؛ حتى نخرج من الكارثة المحدقة بأقل الخسائر!