الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

70 عاما من الإثراء.. رحلة البابا شنودة في بلاط صاحبة الجلالة

البابا شنوده الثالث
البابا شنوده الثالث
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

عاش البابا شنودة الثالث ثمانية وثمانون عاماً، قدم خلالها العديد من الإسهامات الروحية والثقافية؛ محاولاً من خلالها تنشئة الكبار والصغار على كلمات وتعاليم الكتاب المقدس.

ومما لا شك فيه أنه قد نجح بالفعل في غرس أقدامه في عقول قبط مصر، بكلماته المكتوبة والمسموعة منها، فيمكننا القول بكل أريحية أنه لم يسبق لأي بطريرك من بطاركة كنيسة الإسكندرية أن يحظى بهذا الكم من الشهرة والشعبية، على المستوى المحلي أو حتى الدولي.

وكان أحد أهم الوسائل التي اعتمد عليها البابا شنودة الثالث في تنشئة شعبه هي الكتابة؛ فكان معلم الأجيال شاعراً وكاتباً وصحافياً؛ فترأس تحرير مجلتين كنيستين وهما (مدارس الأحد والكرازة) وخلال رحلته في الحياة كان متمكناً جداً من قلمه، وتحرص «البوابة نيوز» خلال هذه السطور على عرض رحلة البابا شنودة الثقافي ورحلته في بلاط صاحبة الجلالة.

القراءة هي السر

وتبدأ قصة كل كاتب ماهر بحب القراءة حيث كانت هي صديقه الوحيد بعد أن سافر به أخيه رافائيل إلي دمنهور، حيث نشأ الطفل نظير هناك بلا صداقة وبلا لهو ولعب الأطفال، وربما شاءت هذه الظروف في جعل الطفل نظير يدخل في عالم التفكير والتأمل الباطني في سن مبكر؛ فانفتح له أفاقٍ قد لم يكن يصل لها إذا كان طفلاً كباقي الأطفال.

وقال البابا شنودة الثالث في مقطع فيديو مسجل له أنه بدأ حياة القراءة في سن مبكر في مرحلة الابتدائية عن طريق الغوص في الصحف اليومية؛ فأكد أن هذا الأمر جعل عقله ينمو أكبر من سنه، وبمرور السنوات أصبح نظير قاريٍ في شتي العلوم الإنسانية والطبيعية منها فقال في ذات الفيديو إني بقيت عامين بدون مدرسة ولكني ربحت القراءة الغزيرة لكل كتاب يقع فى يدى وقد قرأت خلال هذين العامين فى الأدب والاجتماع وحتى الطب... فتكونت عندي كمية هائلة من المعلومات فى سن صغيرة جدا بين 11 و13 سنة تقريباً.
 

وتابع البابا شنوده قائلاً: إن القراءة تحولت إلى عادة نفسية وعقلية وهو الأمر الذي ساعدني في حياتي مساعدة كبيرة، وتسببت هذه العادة فى عادة أخرى وهي أنني رحت أجلس مع الأكبر مني سنا كأخي الأكبر وأصحابه.. فكنت أعرف وأجمع من المعلومات ما يتجاوز سني وكنت أقرأ الصحف فى الابتدائية وأحفظ خطب مكرم عبيد فى السياسة ودفاعاته فى المحاكم لأن مرافعته كانت أدبا رفيعاً، و بشكل عام ألتهم كل ما كان يقع تحت يدي من كتب.

وبدأ أولى خطواته في الكتابة عندما كان في الثانوية العامة حيث بدأ في كتابة الشعر، أو كما يقول هو «ما كنت أسميه شعرًا»، لبعض الوقت، إلى أن تتلمذ على يد أحد الكتب القديمة فى الشعر، وهو كتاب «أهدى سبيل إلى عِلميّ الخليل» للأستاذ محمود مصطفى، وبدأ يتعلم البحر والقوافي ونظم الشعر المختلفة في فترة الأجازة، إلي أن أصبح متمكناً من شعره وذكر البابا شنوده أنه قد حفظ بعدها ما يقرب من 10 آلاف بيت من الشعر العربي، وكانت وأول قصيدة يكتبها كانت عام 1939م عن طفولته بعنوان «أحقا كان ليّ أم فماتت»، واستمر بعد ذلك باستخدام شعره في كثير من المناسبات عندما كان طالباً في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، حيث كان تُثير كلماته إعجاب وتهليل زملاءه.

وخلال انخراطه في الخدمة الكنسية، شارك الشاب نظير جيد بالكتابة في أول عدد من مجلة مدارس الأحد الذي نشر في أبريل عام 1947م، وكان تُصدر مجلة مدارس الأحد في كل شهر، او ما يُقارب 10 أعداد خلال العام الواحد، وكان يرأس تحريرها الصحفي مسعد صادق لبيب، وفي نوفمبر 1949م تولى نظير جيد رئاسة تحرير المجلة عقب اعتقال مسعد صادق واستمر في قيادتها بالكتابة والتحرير لمدة خمس سنوات.

وخلال هذه السنوات كتب نظير جيد في مجلة مدارس الأحد عشرات المقالات المتنوعة حيث بلغ عددها 150 مقالاً مختلفاً تناول خلالها الحياة الروحية في المسيحية، بجانب دراسات فى إصلاح الكنيسة وتاريخها ومشاكل الشباب القبطي في ذلك الوقت، وتناول حياة وجهود معلمه حبيب جرجس عقب رحيلة خلال هذه المقالات أيضاً، كما كان مستمراً في نشر قصائده الشعرية، حيث كتب ما يقرب من 25 قصيدة مختلفة، واكتسبت مقالاته التي كتبها بعنوان «انطلاق الروح» شهرة واسعة، ما شجعه على جمعها في أول كتاب له.

كارنية نقابة الصحفيين لقداسة البابا



الموت عن العالم

قرر نظير جيد أن يترك صراعات وملذات الحياة خلفه ويلتصق بحياة التنسك والتعبد والوحدة مع الله؛ فترهب باسم أنطونيوس السرياني، وقام الأنبا ثاؤفيلس رئيس الدير بإسناده المكتبة الاستعارية والمخطوطات في دير السريان إلى قداسته وهو راهب، بعد أن تركها القس مكارى السريانى (الأنبا صموئيل أسقف الخدمات العامة)، وظل عشر 10 سنوات في الدير دون أن يغادره، ولم يجف قلم البابا شنودة في هذا الوقت حيث أستمر قلم البابا شنودة في الكتابة والتعبير؛ فكان يكتب الشعر الروحاني ويكتب تأملاته وحتي أنه كان يترجم المخطوطات الآبائية، بجانب كتابته نبذات تعريفية عن الأعياد المسيحية في المناسبات الكنسية.

ولجمال كلماتها ومعانيها تم تلحين الكثير من قصائده الروحية فيما بعد وأصبح الكثير منها ترانيم شهيرة، نذكر منهم قصيدة «قلبي الخفاق» أشهر هذه القصائد، ونشر بعضها أيضاً فى ديوان يحمل اسم «البابا» صدر عام 2012م من تقديم الكاتب الدكتور محمد سالمان نشر، ويضم نحو 38 قصيدة ومقطوعة ويضم نحو 600 بيت شعري، كتبها البابا على مدار نحو سبعين عاماً.

ومرت السنوات ورسم أسقفاً للتعليم والبحث العلمي بيد البابا كيرلس السادس في عام 1962م، ليبدأ رحلة بحثية جديدة، وجاءت له فكرة أن ينشأ مجلة، يتناول من خلالها الأمور الروحية والطقسية واللاهوتية مستعرضاً علوم الكنيسة، وبالفعل أنشأ مجلة الكرازة المعروفة في الوسط الكنسي، وصدر العدد الأول من مجلة الكرازة في يناير 1965م.

وفى أكتوبر 1974 تحولت إلى مجلة الكرازة إلي أسبوعية، وفى هذه الفترة اختلف شكل ومضمون «الكرازة»، فقد تحولت من صوت للكلية الإكليريكية يرأسها أسقف التعليم إلى صوت للكنيسة القبطية ككل، فبدأت في نشر أخبار الإيبارشيات والأحداث والاحتفالات الكنسية، بجانب نشر قرارات بطريرك الكنيسة ومجمعها المقدس وكان ذلك تحت رئاسة البابا شنودة الثالث.

باعتباره رئيساً لتحرير مجلة «الكرازة»، منحت نقابة الصحفيين البابا شنودة عضوية النقابة عام 1966م، فكان من أوائل الصحفيين المنضمين لها حيث حمل رقم عضوية 156، وبذلك أصبح البابا شنوده أول بطريرك في التاريخ يؤسس مجلة أسبوعية ويكون عضواً في نقابة الصحفيين، وفي نفس العام دُعي البابا شنودة لندوة في نقابة الصحفيين تحت عنوان «إسرائيل في المسيحية» و تحولت المحاضرة إلى مؤتمر شعبي حضره أكثر من 12 ألف مواطن.

وبعد 5 سنوات رسم الأنبا شنودة بطريركاً لكنيسة الإسكندرية في عام 1971م خلفاً للبابا كيرلس، وايماناً بموهبته بعد عدة أشهر من هذا الحدث زاره مصطفى بهجت بدوي رئيس مجلس إدارة جريدة الجمهورية، ومعه أحمد حمروش عضو مجلس الإدارة المنتدب، وطلبا منه تحرير مقال أسبوعي يُنْشَر في الجريدة صباح كل أحد، وقد كان. ونشرت المقالات تباعاً، في الصفحة الثالثة من الجريدة في كل يوم أحد.

وكان المقال الأول «بين الصمت والكلام»، ونشر في يوم الأحد 28 /11 /1971  وطبعت الجريدة مائة ألف نسخة زيادة لتغطى حاجة الجماهير، وكان المقال الثاني عن التواضع (5 /12)، ولاقت المقالات إقبالًا شديدًا من القراء، مسلمين ومسيحيين، وكانت كلها عن الفضيلة، لا تتعرض للعقائد اللاهوتية إطلاقاً وتوالت زيادة ما يُطْبَع من إعداد.

وكان آخر مقال نُشِر في هذه المجموعة هو «رحلة الخبر إلى أذنيك» وفى يوم 9 يوليو 1972، وأعتذر بعدها على استكمال مقالاته في الجريدة وقال البابا شنودة في حديث له متلفز، أنه قد طالبني الكثير بأن أنشر هذه المقالات في كتاب. 

وفي الثمانينات جمعت مقالات البابا شنوده في الجمهورية البالغة 32 مقالاً ونشرت في كتاب «كتاب مقالات روحية نشرت في جريدة الجمهورية للبابا شنودة الثالث» بقلم القمص يوحنا البراموسي، كاهن الكنيسة القبطية في فينا.

وكتب البابا شنوده أيضاً العديد من المقالات في جريدة أخبار اليوم، حيث بدأ بكتابة أول مقال بتاريخ 2 ديسمبر 2005 تحت عنوان «الآخر.. مَنْ هو الآخر؟ ما علاقتك بالاخر؟»، وكنا اخر مقال لقداسته تحت عنوان "الشهوة: أنواعها وخطورتها" بتاريخ 1 سبتمبر 2017، وبلغت عدد هذه المقالات 84 مقالاً.

وبالتوازي مع جريدة أخبار اليوم كان يكتب أيضاً لجريدة الأهرام حيث بدأ بكتابة أول مقال له تحت عنوان، " حياة الإيمان" بتاريخ 29 يوليو 2006، واستمر بالكتابة رغم مرضه الشديد وعمره الذي تخطى الثمانين، لينتهي بآخر مقال له حول الله تحت عنوان " الله غير المحدود" 19 فبراير 2011م.

وطوال هذه السنوات أيضاً لم ينسي مجلة الكرازة حيث ظل رئيس تحريرها إلى أن أنتقل عن عالمنا، وخلال هذه العقود أيضاً كتب عشرات المقالات الروحانية، وبجانب مجلة الكرازة وعالم الصحافة، لم ينسى أول وسيلة تواصل بين البشرية وهي كتابة الكتب، فسعي البابا شنوده لكتابة ونشر علومه الكنسية عبر العديد من الكتب خلال حياته، حيث قام معلم الأجيال بتأليف 140 كتاباً متنوعاً تناول من خلاله غالبية المواضيع الهامة التي تشغل الشارع القبطي اللاهوتية والتاريخية والروحية أيضاً، نذكر منها سلسلة كتب «اللاهوت المقارن» وسلسلة كتب التأملات التي تتعدى 25 كتاباً تناول من خلالها تأملاته في نصوص الكتاب المقدس، فضلاً عن الكتب التي تناول بها خبرات حياته الشخصية مثل «خبرات فى الحياة» من جزئين.

وأخذت كتب البابا شنودة طابع البساطة حيث معظمها غير عميق مقارنة ببعض ما كتبه آباء معاصرون، مثل الأب الراحل متى المسكين، ولعل البابا أراد من ذلك أن تصل هذه الكتب لكافة فئات الشعب، وحظي سلسلة كتب «سنوات مع أسئلة الناس» شهر واسعة أيضاً لسعيه للإجابة علي الأسئلة التي تدور في ذهن الشاب المسيحي، وكان غرضه الأول هو التعليم ولعل مقولته الشهيرة حول التعليم، كانت الهدف الخفي من إصداره معظم كتبه، حيث كان يقول: «صدقوني أكثر ما يتعب كنيستنا حاليا هو عدم تواضع التعليم، كل خادم يأتي بفكر جديد فى تأملاته أو من قراءاته يحاول أن يجعله عقيدة ويدرِّسه للناس، وهناك نوع من الكتَّاب يروق لهم إلغاء المفهوم السائد، ليقدموا بدلا منه مفهوما جديدا وكأن الواحد منهم قد اكتشف ما لا تعرفه الكنيسة كلها». 

فبجانب ثقافته ووسائله الكتابية؛ كانت شخصيته الكاريزماتية هي السبب الرئيسي في شهرته الواسعة؛ فكانت لدي البابا شخصية براقة ممزوج بخليط من خفة دم الصعيدي الأصيل وبين صرامة العسكري الدقيق، وبين ثقافة وآفاق الفيلسوف المتأمل في بحور المعرفة؛ حيث أوجدت هذه الشخصية الفريدة حالة من العشق في قلوب أقباط مصر المسيحيين والمسلمين منهم؛ فنجد المسلمون يلقبونه بابا العرب لوطنيته، ونجد المسيحيين يلقبونه بـ معلم الأجيال؛ فيمكننا أن نتخيل حجم تغلغله في قلوب الأقباط عندما تجد عظاته المسجلة و المتلفزة منها متواجدة في هواتف غالبيتهم حتى من لم يُعاصروه من الأساس.

 

البابا شنودة الثالث