الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

إبراهيم نوار يكتب: هكذا تكلم أيزنهاور فى المسألة النووية.. لا لمنع انتشار التكنولوجيا النووية.. نعم لإخلاء العالم من أسلحة الدمار الشامل

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

هناك خلط كبير فى أدبيات السياسة النووية فى العالم بين منع انتشار السلاح النووى، ومنع انتشار التكنولوجيا النووية، وهو خلط يراد به حرمان الدول النامية من امتلاك المعرفة النووية، التى هى جزء من المعرفة البشرية، وتكريس احتكار عدد قليل من القوى العالمية للتكنولوجيا والأسلحة النووية معا.
هذا الخلط يتناقض مع طبيعة المعرفة، التى لا يجب أن تخضع للقيود، كما يتناقض مع طبيعة حرية المنافسة الاقتصادية فى العالم، نظرا لأنه ينطوى على فرض قيود على توطين التكنولوجيا النووية والصناعات المرتبطة بها، كما أنه يتناقض مع الحق فى العدالة والمساواة بين الأمم. إن تقسيم العالم إلى «أمم شريرة» لا يجب أن تمتلك التكنولوجيا النووية، لأن فى ذلك تهديد لغيرها، و«أمم طيبة» من حقها أن تمتلك كلا من التكنولوجيا والأسلحة النووية. هذا تقسيم ذو طابع عبودى إستعمارى، يبرر قهر الشعوب وإذلال الأمم.
ويخبرنا التاريخ بلا خجل بأن من تدعى نفسها «أمة طيبة» هى الدولة الوحيدة فى العالم، حتى الآن، التى استخدمت السلاح النووى ضد مدنيين عزل بلا تمييز فى هيروشيما ونكازاكى، حينما كانت الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها.
وحش القوة النووية
فى خطابه الشهير بالأمم المتحدة عام ١٩٥٣ حذر دوايت أيزنهاور من إطلاق وحش القوة النووية فى العالم، وخاطب مواطنيه، كما خاطب العالم محذرا من أن الارتكان إلى القوة النووية كضمان لتحقيق الأمن، هو وهم كاذب لا فائدة منه. وذكر مواطنيه بأنهم فى وقت ما تمتعوا بزهو احتكار القوة النووية، لكن ذلك الوقت لم يطل، بل ذهب إلى أفول بسرعة، لتصبح القوة النووية ميدانا للمعرفة ينهل منه عدد قليل جدا من الدول، لكنه أعلن نبوءته ويقينه بأن الدول التى لديها المعرفة بأسرار القوة النووية، سوف تشرك معها غيرها، وربما فى النهاية يشترك فيها الجميع، ودعا العالم للخروج من الغرفة المغلقة للرعب النووى، إلى فضاء حر تكون فيه القوة النووية طريقا لتحقيق السلام والرخاء لكل الشعوب.
بكلمات أيزنهاور فى خطابه عن «الذرة من أجل السلام»: «غاية بلادى هى مساعدة العالم على الخروج من الغرفة المظلمة للرعب النووى إلى النور، وأن نجد طريقا تستطيع البشرية فى كل مكان أن تتحرك من خلاله بعقلها ووجدانها وروحها فى اتجاه السلام والسعادة والحياة الأفضل».
كانت هذه الكلمات قبل ثمانى سنوات تقريبا من خطاب الوداع السياسى الذى ألقاه فى نهاية فترة حكمه الثانية فى يناير ١٩٦١ الذى أطلق فيه تحذيره الشهير من خطورة «صعود قوة التجمع الصناعى العسكرى»، وهى القوة المتوحشة التى يبدو إنها تمكنت من اختطاف السياسة الأمريكية، والدفع بها إلى الغرفة المظلمة للرعب النووى التى كان هو قد دعا إلى الخروج منها.
ما يحدث الآن من تطورات فى منطقة الشرق الأوسط على صعيد السياسات النووية، يجعلنى أستحضر خطاب أيزنهاور «الذرة من أجل السلام- Atoms for Peace»، وإعادة قراءة سطوره وما بين السطور، لمحاولة فهم طبيعة الخيار النووى فى الشرق الأوسط، وعلاقته بالسلام والرخاء. وأعتذر لكل من يعرفون دوايت أيزنهاور فقط من خلال المبدأ المعروف باسمه فى تاريخ الدبلوماسية العالمية، وهو المبدأ الذى بدأ تطبيقه بالتدخل فى الشرق الأوسط! وأظن أن ذلك الرجل قدم عمليا رؤية عبقرية لمستقبل أفضل للعالم فى خطابه عن القوة الذرية والسلام.
حتمية الخيار النووى
فى تاريخ البشرية لحظات فارقة، تعيد رسم حروف كتابة التاريخ، وتؤدى إلى تغيير قواعد لعبة الحياة، وتغيير القيادة، وأحيانا تغيير اللاعبين أنفسهم، وتغيير اتجاه المسار الذى تسير فيه الشعوب. 
امتلاك المعرفة النووية هى واحدة من هذه اللحظات، ومن المستحيل احتكارها بواسطة قلة من الدول، خصوصا وأن تلك التى تحتكرها تعمل على استخدامها وسيلة لفرض الهيمنة، والتحكم فى مصير غيرها. 
ولأن المعرفة النووية نتاج عمل عقلى، فمن المستحيل تقييدها فى غرفة مظلمة مغلقة، هكذا أثبتت تجربة باكستان والهند، ومن المفيد تأمل تلك التجربة من أكثر من جانب؛ فالهند سعت إلى امتلاك القوة النووية بعد هزيمة قواتها فى مواجهة حدودية مع الصين عام ١٩٦٢، واعتقدت قيادتها السياسية أن امتلاك القوة النووية هو «ضمان وجود» وليس لمجرد «أمن الحدود».
لكن امتلاك الهند للقوة النووية فى سياق عسكرى، أصبح تهديد وجود لجارتها فى شبه القارة الهندية، باكستان، التى كانت حتى وقت قريب جزءا منها، فما كان من القيادة السياسية الباكستانية إلا إنها سعت هى الأخرى لامتلاك القوة النووية، باعتبارها «ضمان وجود» فى مقابل القوة النووية للهند. وقد امتلكت باكستان ومن قبلها الهند ومعها دول أخرى منها إسرائيل وكوريا الشمالية وإيران مفاتيح القوة النووية، رغم كل القيود والموانع التى أقامها النظام العالمى من خلال دبلوماسية منع الانتشار النووى.
نجاح هذه الدول، وربما غيرها أيضا فى الحاضر أو فى المستقبل، يؤكد نبوءة أيزنهاور بأن التكنولوجيا النووية ستكون متاحة للمشاركة مع بعض الدول الأخرى، بل ربما مع جميع دول العالم، وأنه لا جدوى من سباق التسلح النووى، لأن التفوق الكبير فى فى عدد الرءوس النووية بواسطة دولة من الدول، لا يشكل فى حد ذاته مانعا يحول دون احتمال تعرضها لدمار مادى وضحايا بشرية ضخمة فى حال تعرضها لاعتداء مفاجئ.
 


ونحن نستخلص من كلام أيزنهاور هنا نتيجتين: الأولى هى حتمية الخيار النووى والثانية هى حتمية توجيه ذلك الخيار فى مسار سلمى، وإذا أردنا دمجهما معا فى استنتاج واحد فسوف نقول: «حتمية الخيار النووى السلمى»، إن الخيار النووى العسكرى عبث لا فائدة منه، ولا قيمة له، فلا وجوده ضمان للأمن، ولا استخدامه ضمان لاستمرار الحياة؛ فالقوة النووية فى استخدامها العسكرى المطلق هى فناء ماحق، وما بعدها هو ما يطلق عليه العلماء «الشتاء النووى»، الذى تختفى فيه معالم الحياة.
طريق للسلام والرخاء
أدخلت إسرائيل إلى الشرق الأوسط سباق القوة النووية العسكرية، ومن ثم فإن الخيار النووى فى دول المنطقة الطامحة إلى التقدم اصطبغ هو الآخر بصبغة عسكرية منذ اليوم الأول، وعلى الرغم من أن الخيار النووى يبدأ تقليديا بإقامة مفاعل للأبحاث ذات الطابع السلمى، فإن المجهود الذى لا تتوقف عنه إسرائيل فى جعل القوة النووية العسكرية درعها الأخيرة لتحقيق أمنها المطلق، قد أدخل مسار تاريخ المنطقة بأكملها فى عنق زجاجة ضيق، مما أطلق وراءه تقلصات حادة وعنيفة، عبرت عن نفسها فى صراعات وحروب مستمرة بدأت عام ١٩٤٨ ولم تتوقف حتى الآن، ليس على صعيد العلاقات بين الشعوب والدول العربية وإسرائيل فقط، ولكن على صعيد خريطة العلاقات داخل المنطقة بأكملها، سواء بين الدول والشعوب العربية وغير العربية، أو فى داخل هذه الدول أو فى علاقاتها جميعا بالعالم الخارجى.
لقد أدت القوة النووية العسكرية ليس إلى مجرد انسداد مسار السياسة والتاريخ، ولكن أيضا إلى حدوث احتقان متعدد الأبعاد والمستويات أفقيا ورأسيا، يصعب علاجه بدون تغيير المسار، أو كسر عنق الزجاجة، بغير ذلك سينفجر الشرق الأوسط كله مرة واحدة ولن تفيد سياسات «إدارة الأزمة» فى شىء.
أيزنهاور فى خطابه الشهير قال: «لا يكفى أن نمنع وجود المواد النووية فى أيدى العسكريين، إنما يجب علينا أن نضع هذه المواد فى أيدى أولئك الذين يعرفون كيف ينزعون عنها غلافها العسكرى، ويجعلونها ملائمة للاستخدام فى فنون صناعات السلام».
وقد كانت هذه دعوة صريحة إلى نزع القوة النووية العسكرية تماما، وتحويل التكنولوجيا النووية إلى ميراث عالمى مشترك لتحقيق التقدم والسلام والرخاء، كان من المفترض أن يكون ذلك هو دور «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، التى كانت المولود الشرعى لخطاب أيزنهاور، لكنها تحولت بعد اختطاف المجمع الصناعى العسكرى للسياسة فى الولايات المتحدة إلى مجرد ناد مغلق، تقوده الدول التى تريد الهيمنة على العالم، وينحصر دورها الرئيسى فى التفتيش على الدول المنضمة إلى معاهدة حظر الانتشار النووى، حتى لا تتجاوز عتبة التخصيب النووى إلى ما بعد المرحلة الابتدائية.
قال أيزنهاور: «إن الولايات المتحدة تعرف أن تحويل المسار المخيف فى استخدام القوة النووية إلى الاتجاه العكسى أى من الاستخدام العسكرى إلى السلمى، فإن هذه القوة التدميرية الرهيبة يمكن أن تكون بمثابة هبة من السماء لخير البشرية، إن الاستخدام السلمى للقوة النووية هو أقرب من أن يكون مجرد حلم نحلم به للمستقبل».
والآن، وبعد ٧٠ عاما من خطابه «الذرة من أجل السلام»، جدير بدول الشرق الأوسط والبشرية جمعاء أن تعيد النظر فى خيار القوة النووية العسكرية، بل وأن تحد من سباق التسلح، لأن أيا منهما لن يحقق السلام أو الرخاء، وإنما يخلف وراءه المزيد من الحطام والشقاء. 
دوايت أيزنهاور، المقاتل الذى حارب وبرع فى فنون تنظيم القوات وإعدادها للقتال، الذى فتح روما وخلصها من حكم الفاشيست، وتولى تنظيم الهجوم الأخير على قوات النازى من نورماندى إلى أسوار برلين، يعرف الحرب حق المعرفة، وهو لم يخطئ عندما تكلم ضدها، ودعا لأن تحقق بلاده ما تريد «عن طريق الاتفاقيات وليس الحروب»، وأن تكون «بناءة لا هدامة». ومع إدراكه لأوضاع العالم فى ذلك الوقت، وكانت أفضل بكثير مما هى عليه الآن، فإنه دعا لسرعة الأخذ بتلك الرؤية، لأن خطورة عامل الوقت تفرض علينا أن نستطلع كل فرصة تلوح فى الأفق لتحقيق السلام، مهما كانت معتمة أو ضيقة.