الأربعاء 15 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

إبراهيم نوار يكتب: الحوت السعودى والرهان الأمريكى.. الخيار النووى فى الشرق الأوسط حقيقة تتنفس.. فلماذا ترفض أمريكا توطين التكنولوجيا النووية فى السعودية؟

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

انطلق الحوت السعودى الضخم إلى مياه عميقة، بعيدا عن نفوذ الولايات المتحدة التقليدى على السياسة الخارجية السعودية، لكن الولايات المتحدة تسعى لجذبه إلى مياه ضحلة، ليسهل عليها اصطياده، فهل تنجح أم يواصل الحوت السعودى إبحاره فى المياه العميقة؟
إن انطلاق الحوت السعودى الضخم اقتصاديا وماليا ودبلوماسيا، فى المياه العميقة من شأنه توليد قوة هائلة تسهم فى تكريس معادلة توازن جديد للقوى فى الشرق الأوسط على مبادئ حسن الجوار، وعدم العداء، والحوار والتعاون من أجل تحقيق الرخاء لشعوب المنطقة والسلام العادل.
هذا التوازن المنشود سيظل ناقصا طالما كانت القوة النووية السلمية العربية ضلعا ناقصا من أضلاعه، خصوصا فى ظل احتكار إسرائيل للسلاح النووى، وتقدم البرنامج النووى الإيرانى، واحتماء تركيا بالمظلة النووية لحلف الأطلنطى باعتبارها عضوا فيه، ومن ثم فإن علاقة العالم العربى مع دول الجوار غير العربية ستظل فى حالة خلل هيكلى بدون امتلاك قوة نووية سلمية مستقلة، من خلال توطين التكنولوجيا النووية. 
وإذا كانت السياسة الخارجية السعودية تتبنى الآن نهجا شجاعا فى الحوار مع إيران ومع إسرائيل، فإن الحوار من موقع القوة هو الضمان الوحيد لنجاحه، لأن الحوار هو مجرد البداية على الطريق الصحيح لتسوية النزاعات واختلاف المصالح، لكنه ليس الضمان لتحقيق تسوية عادلة لها.
الضمان الرئيسى لتحقيق نتائج إيجابية، عادلة غير عدائية فى الحوار هو أن يكون من موقع القوة، وليس من موقع الضعف؛ فإن الحوار من موقع الضعف يغرى الأطراف الأخرى بتحقيق مكاسب من طرف واحد، أو نتائج غير متوازنة، حتى لو كانت على أساس لعبة غير صفرية.
أهمية توطين التكنولوجيا النووية
القمة العربية الأخيرة فى جدة لم تتناول مسألة توطين التكنولوجيا النووية، مع أنها تحدثت عن توطين تكنولوجيا إنتاج الغذاء. ولم تتناول القمة الدعوة إلى إخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، مع أن هذا يمثل شرطا أساسيا للاستقرار فى المنطقة والحد من الدور العدائى من جانب إسرائيل ضد جيرانها. 
وعلى الرغم من أن إعلان جدة، لم يأت على ذكر أى من القضيتين، توطين التكنولوجيا النووية السلمية، وإخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، فإن مياها كثيرة تجرى فى بحر كل منهما إقليميا من خلال قنوات دبلوماسية وعسكرية، تسعى من خلالها الولايات المتحدة إلى تأكيد تحيزها لإسرائيل فى رفض امتلاك إيران للسلاح النووى، ورفض امتلاك السعودية للتكنولوجيا النووية السلمية وفى القلب منها توطين تكنولوجيا دورة الوقود النووى الكاملة، من إنتاج الكعكة الصفراء إلى إنتاج الوقود النووى. التكنولوجيا النووية السلمية لم تعد مسألة رفاهية اقتصادية، بل إنها أصبحت لازمة أساسية من لوازم المنافسة التكنولوجية والاقتصادية بين دول العالم، ونظرا لأن نادى الدول النووية الرسمية، ومعها إسرائيل يسعى لاستمرار احتكار أسرار التكنولوجيا النووية، فإن المملكة السعودية قررت ألا تستسلم لهذا التوجه، وأن تبدأ خطواتها الأولى فى مجال توطين التكنولوجيا النووية، وهو ما تعتبره الولايات المتحدة وإسرائيل خروجا على الخط الذى رسمته لمعادلة توازن القوى فى الشرق الأوسط.
ومن ثم فإنها تحاول باستماتة منذ عدة أشهر اصطياد الحوت السعودى الضخم فى مياه ضحلة، بما يؤمن مصالحها ومصالح إسرائيل، وانحيازها لمجهود عسكرى محتمل تخطط له ضد إيران. وتتكون تلك المياه الضحلة من عنصرين أساسيين: الأول هو تكريس مبدأ نتنياهو "السلام مقابل السلام" وليس "الأرض مقابل السلام"، والثانى هو إشراك السعودية إلى أقصى حد ممكن فى منظومة عسكرية ضد إيران تحت غطاء تحقيق الأمن الإقليمى، ترجمة للرؤية الأمريكية - الإسرائيلية بأن إيران هى التهديد الرئيسى للسلام والأمن فى الشرق الأوسط.
تكثيف التعاون العسكرى
يهدف التعاون العسكرى الأمريكى- الإسرائيلى فى جوهره إلى توجيه رسالة ردع إلى إيران، وفتح طريق لتعاون مماثل على نطاق واسع مع الدول العربية، وعلى رأسها السعودية من أجل بناء "قوة ردع أمريكية - إسرائيلية - عربية" فى مواجهة إيران، يمكن أن تصل إلى حد القيام بعمل عسكرى لمنعها من امتلاك سلاح نووى، والقضاء على أنشطتها "المزعزعة للاستقرار" فى الشرق الأوسط، كما تقول الولايات المتحدة وإسرائيل، وضمان أمن الملاحة البحرية فى الممرات المائية الدولية فى الشرق الأوسط، مضيق هرمز، وباب المندب، وقناة السويس ومضيق جبل طارق. 


وقد نشطت هذه السياسة العسكرية فى الشرق الأوسط منذ مارس الماضى على خلفية عاملين، أحدهما تكتيكى، وهو ارتفاع مستوى تهديد إيران وحلفائها الإقليميين للقوات الأمريكية فى سورية والعراق ومضيق هرمز وشمال المحيط الهندى والبحر الأحمر، والثانى استراتيجى يتعلق بإعادة بناء معادلة توازن القوى فى الشرق الأوسط بعد الاتفاق التاريخى فى مارس الماضى باستئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران الذى تم بوساطة صينية.
وفى هذا السياق شهدت الأشهر الأخيرة زيارات مهمة قام بها وزير الدفاع الأمريكى لويد أوستن، ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلى، وقائد القيادة الأمريكية المركزية الجنرال مايكل كورييلا إلى إسرائيل، كان الهدف منها رفع درجة التنسيق العسكرى الأمريكى فى الشرق الأوسط، مع التركيز بشكل خاص على إجراء مناورات مشتركة لاستعراض القدرة على توجيه عمل عسكرى ضد إيران يستهدف منشآتها النووية. 
وقد كشفت الصحافة الإسرائيلية فى الأيام الأخيرة جانبا من العرض الذى تقدمت به الولايات المتحدة لإسرائيل بالمشاركة فى خطة تدريبات عسكرية مشتركة لهذا الغرض. وذكرت التسريبات التى نشرها الإعلام الإسرائيلى أن حكومة نتنياهو تتشكك فى طبيعة الغرض منها، وتخشى أن تكون جزءا من مناورة تهدف للحد من قدرة إسرائيل على القيام بعمل عسكرى منفرد ضد إيران. وذكر تقرير لمراسل موقع "أكسيوس" الأمريكى فى تل أبيب أن القيادة الإسرائيلية رفضت العرض. وأظن أن الرفض يعود أساسا إلى عدم رغبة القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية فى تبادل المعلومات الاستخباراتية والمعلومات اللوجستية والعسكرية الحساسة مع القيادة العسكرية الأمريكية فى هذا الخصوص، والمحافظة على قدرتها المستقلة فى القيام بعمل عسكرى ضد إيران. ذلك أن إسرائيل تعتبر نفسها المرجعية الأساسية للنشاط العسكرى الأمريكى فى الشرق الأوسط، وأنها بمعنى أوسع من ذلك هى الدليل الاستراتيجى الإقليمى للولايات المتحدة فى المنطقة.
هذا لا يعنى أن إسرائيل تستطيع بالفعل أن تقوم بعمل عسكرى منفرد ضد إيران؛ فهناك جدل سياسى وعسكرى كبير وعلى أعلى المستويات فى هذا الشأن داخل إسرائيل نفسها.
وربما كان ممكنا حتى يوم التاسع من مارس الماضى افتراض أن المملكة السعودية يمكن أن تشارك، ولو بشكل غير مباشر من خلال ترتيبات لوجستية أو غيرها فى مثل هذه الخطة الأمريكية المقترحة، لكنها وبعد استئناف العلاقات مع إيران، والتقدم على طريق إقامة علاقات إقليمية ودولية مستقلة عن القرار الأمريكى، فى إطار سياسة خارجية جديدة تجاه المنطقة والعالم، ليس من المتوقع أن تنضم إلى مثل هذه الخطة العسكرية الأمريكية. 
ولذلك فإن زيارة الجنرال مايكل كورييلا الأخيرة للرياض فى ١٧ مايو الحالى، بعد زيارته إلى إسرائيل، تكشف أن هناك إصرارا أمريكيا على رهان اصطياد الحوت السعودى، بأى شكل من الأشكال، سواء فى التنسيق ضد إيران أو فى التطبيع مع إسرائيل، وهو رهان وإن كان صعبا، إلا أن الإصرار الأمريكى قد يؤدى إلى إثارة المزيد من التوتر وعدم الاستقرار فى الشرق الأوسط.
الرد السعودى
وفى مواجهة سعى الولايات المتحدة لتحقيق تقارب مع السعودية فى مسألتى التنسيق ضد إيران والتطبيع مع إسرائيل، فإن المملكة السعودية تسعى من جانبها للحصول علي مساعدة أمريكية حقيقية فى نقطتين مركزيتين، الأولى هى أن تمارس واشنطن ضغطا كافيا على إسرائيل لقبول حل الدولتين للقضية الفلسطينية، والبدء فى إجراءات عملية لتحقيق ذلك، والثانية هى أن تقدم واشنطن مساعدات للبرنامج النووى السلمى السعودى، بما يكفى لإطلاق دورة الوقود النووى الكاملة بدون ممارسات قهرية أمريكية (عقوبات)، وأن تكف واشنطن نهائيا عن معارضتها لذلك.
وقد أكدت القمة العربية الأخيرة فى جدة على أهمية القضية الفلسطينية بوصفها القضية المركزية فى السياسة العربية، وتلك رسالة صريحة يجب أن تفهمها جيدا القيادتان الإسرائيلية والأمريكية. لكن بيان قمة جدة لم يذكر شيئا يتعلق بتوطين التكنولوجيا النووية فى السعودية أو فى العالم العربى، كما أنه لم يتناول مسألة إخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، وهو ما يمثل شرطا أساسيا للقضاء على التوتر وعدم الاستقرار وإحلال السلام فى الشرق الأوسط. ومع أنه ليس من المتوقع أن تحدث قريبا انفراجة أمريكية - سعودية قريبا فى كل من المسألتين الفلسطينية والنووية فى الشرق الأوسط، مع انشغال الولايات المتحدة داخليا فى الاستعداد للانتخابات الرئاسية، وخارجيا فى الحرب الباردة ضد كل من روسيا والصين، فإنه من المفيد أن نعيد طرح رؤية الرئيس الأمريكى دوايت أيزنهاور بشأن حق كل دول العالم فى الحصول على التكنولوجيا النووية السلمية، ومنع انتشار الأسلحة، وليس التكنولوجيا، النووية، وهو ما سنتناوله فى مقال تال بإذن الله.