السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

البابا شنودة الثالث.. نقطة حبر فى  سن القلم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

الحكايات عنه لا يمكن أن يأتى  يوم وتنتهي، فهى  تنهمر كالشلال وتزدهر كالحدائق فى  فصل الربيع، وتفيض كالأنهار وقت الفيضان، وترسم البسمة على الوجوه، ولم لا فصاحبها ذو الوجه الطفولى  والضحكة المنيرة والحس الكوميدى  المغلف بالحكمة فى  كل كلمة كان ينطق بها.

فى  أحد الأيام تلقيت دعوة لحضور حفل إفطار الوحدة الوطنية الذى  كان ينظمه قداسة البابا شنودة الثالث فى  شهر رمضان على مدار سنوات طويلة، وشعرت حينها بفخر كبير، فها أنا المحرر الذى  يخطو خطواته الأولى فى  بلاط صاحبة الجلالة قاب قوسين أو أدنى من لقاء هذا الرجل العظيم.

وفى  اليوم المحدد للحفل ذهبت سيرًا على الأقدام من مقر الجريدة التى  كنت أعمل بها، أمنى  نفسى  بأننى  سأنعم بمصافحة قداسة البابا، بل وأخذتنى  أحلام اليقظة إلى شاطئها البعيد وتخيلت أننى  سأجلس بجانبه وأتحاور معه فى  كل شئ، فى الشعر والأدب والصحافة، وكلما أردت المغادرة سوف يطالبنى  بالبقاء، حتى استيقظت من حلم يقظتى  هذا على صوت فرامل إحدى السيارات التى  كادت تدهسنى وانا أهيم فى  سماء هذا العظيم.

وصلت إلى قاعة الاحتفال قبل موعد الإفطار بوقت كاف، وكنت أظن أننى  أتيت مبكرًا، ولكننى  فوجئت بزحام شديد، عشرات الشخصيات من كل الأطياف، شيوخ وأساقفة وقساوسة وشخصيات عامة وصحفيين ومشاهير من كل صوب وحدب، ومع هذا الزحام جلست وحيدا أنعى  حظي، وبدأ حلمى  بلقاء البابا شنودة الثالث عن قرب يتبدد شيئا فشيئا، نعم أراه هناك جالسا فى  وسط مائدة بيضاوية كبيرة للغاية ويلتف حوله يمينا ويسارا كبار الائمة والشيوخ، وهناك من يهمس له، ومن يتحدث معه ومن يمنحه ورقة فى  يده، ومن يقتنص منه تعليقا كوميديا فتنفرج اساريره ويضحك فتعلو ضحكات المحيطين به.

ظللت أراقبه من بعيد وابتسم حينما أرى ابتسامته بل وتعلو ضحكتى حينما يضحك رغم أننى  لا أسمع ولا أعرف على ماذا يضحكون، وانصت جيدًا حينما يهمس لأحد المقربين منه وكأنه يهمس لى  ويحدثني، حالة من التوحد ولقاء الأرواح انتابتنى وتملكت مني، وكأنى بالفعل أجلس بجواره، هنا عاد لى  الأمل من جديد أننى  سأنعم بالوقوف معه ولو للحظات بالجلوس بجواره ولو لثوانٍ، بالسلام عليه ولو سريعا.

أفقت مرة أخرى على صوت بعض الجالسين حولى وهم يقولون حان موعد الإفطار، وبدأ الجميع يتناول الطعام إلا أننى  ظللت أنظر إلى مائدته، استيقظت مرة أخرى ولكن هذه المرة على صوت مصور زميل بنفس الجريدة وهو ينبهنى  بوصوله، فطلبت منه تصوير كل شئ وخاصة قداسة البابا ومن يجلس معه من الشيوخ الاجلاء.

عقب الإفطار ألقى قداسة البابا كلمة رحب خلالها بالحاضرين، وفى  نهايتها قال إنه فى  انتظار أسئلة الحضور مكتوبة وسوف يجيب عليها جميعها، وأمسكت بالقلم والورقة وبدأت أكتب بدون أن ادرى  ما اكتبه، وكان شخصًا آخر تملكنى  وبدأ يسطر ما يجول فى  عقله بل وعقلى أنا.

كتبت فى  نصف الصفحة: بعد التحية والتقدير وتقبيل  الأيادى يا قداسة البابا، وبدأت الكلمات تنهمر على السطور لتصبح رسالتى  ليست مجرد سؤال انتظر إجابته من البابا.

وأبلغته فى  رسالتى أننى  أكتب الشعر مثله، ولكن "بالعامية"، وأهديته قصيدة وطلبت منه أن يبلغنى  برأيه فيها، بل وتجرأت أكثر وقلت له أننى أحلم بأن يقولها بصوته، وقلت له إن القصيدة تحمل عنوان "نقطة حبر فى  سن القلم"، ثم كتبت القصيدة، وجاءنى  أحد الأشخاص وأخذ منى  ما كتبت ومن غيرى  ما كتبوا، وقام بتسليم كل الأوراق للأستاذ هانى عزيز رئيس جمعية مصر السلام وهو أحد المقربين من قداسة البابا.

بدأ هانى  عزيز فى إلقاء الأسئلة على قداسة البابا من خلال ما وصل إليه من أوراق، وبدأ البابا يرد على هذه الأسئلة بحكمته وخفة ظله، حتى أمسك هانى  عزيز بورقتى، نعم ورقتى، فأنا أعرفها جيدا، وبدأ يتلو ما فيها ولكنه لم يكملها. ومرت لحظة ظننتها كالدهر، هل يعقل أن هانى عزيز سوف يلقى بورقتى فى  سلة المهملات؟، ولكننى  أفقت على صوت هانى عزيز وهو يوجه كلمته للبابا قائلًا "الحقيقة صاحب الورقة دى  مش باعت سؤال يا قداسة البابا، هو عايز رأى  قداستكم فى  حاجة معينة"، ثم أعطى  الورقة للبابا الذى  بدأ يقرأ ما فيها، وهنا انتابتنى  رعشة غريبة وتوتر شديد، حتى فرغ البابا من قراءة رسالتي، وفوجئت به وهو يقول: "الرسالة دى  من الاستاذ الصحفى عزت البنا وهو كاتب قصيدة باللغة العامية وأنا قريتها وهى  عجبتنى  جدًا"، هنا تحولت رعشتى  إلى سعادة بالغة وظننت أن الأمر انتهى إلى هذا الحد، واننى  نعمت بأكثر مما كنت أتمنى وأحلم، ولكن يبدو أن المفاجأة أكبر بكثير، فقد اضاف البابا قائلًا: "ممكن الأستاذ عزت يشرفنا هنا وكلنا نسمع منه القصيدة اللى عنوانها عجبنى  جدا وهو نقطة حبر "

بين المائدة التى  يجلس عليها قداسة البابا وبين المائدة التى أجلس عليها بضعة أمتار فى  الغالب لا تزيد على عشرين مترًا، قمت من مكانى  وسرت فى  هذا الطريق وكأنه عشرون كيلو مترًا، وشعرت ان أعين الجميع تراقبني، وبدأ قلبى  يرتجف، إلى أننى  فى  الخمسة أمتار الأخيرة، قلت لنفسى حلمك قد تحقق سوف تنعم بلقائه عن قرب، بل وستلقى  قصيدة من أشعارك أمامه وأمام هذا الجمع الغفير من رجال الدين الإسلامى والمسيحى بالإضافة إلى المشاهير من الإعلاميين وكبار الشخصيات العامة، وبالفعل وصلت إلى قداسته وقمت بتقبيل يده، فنظر إلى وقال وهو يبتسم "حافظ ولا تاخد الورقة؟"، فأجبته وأنا أضحك "لا.. حافظ يا قداسة البابا".

وبدأت ألقى قصيدتى  قائلًا:

نقطة خبر فى  سن القلم

رافضة الصبر على اللى  انظلم

عايزة تفك من أسرتها

مين قاللها؟

تنزف كل كلام دمها

مش هتعيش تأنى  مالم

ترجع تانى  جوه القلم

وجع بوجع.. ألم بألم

حلو الكره للى  اتظلم

أما الحر فحلمه كبير

نقطة حبر غريقة فى  بير

يمكن يجى  عليها اليوم

تبقى فى  كلمة وليها تأثير.

 

لحظة صمت لثوانٍ  قليلة، وبعدها بدأ البابا يصفق، فضجت القاعة بالتصفيق، لأجد نفسى  فى  قمة السعادة، ثم قبلت يده مرة أخرى وعدت إلى مكانى  فى زهو وفخر شديدين، وأنظار الجميع مازالت تراقبنى  ولكن هذه المرة بتصفيق وإشادة كبيرة بما كتبت.

سنوات عديدة مرت والتقيت قداسة البابا كثيرا، ولكن لم أنس مطلقا تلك المرة التى  مازلت أحكيها لأولادى  بكل فخر واعتزاز، فها هو والدهم قد نال بركة كبيرة بلقاء شخصية عظيمة مثل البابا شنودة الثالث بل ونعم بإشادته بما كتب، وبعد مرور سنوات على رحيله يبقى دائمًا نقطة الحبر التى  لا تنتهى من حياتى  وحياة كل المصريين.