السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تراثنا والمتفيهقون الجُدد

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لا أحب الزحام وكل ما ينتج عنه من ضجيج وفوضى وتشنجات عصبية بلا ضابط بما يلغي العقل ويطفئ البصيرة ويصم الآذان.

هناك قواعد رسخها الدين وأكدتها النصوص المُقدسة التى لا يأتيها الباطل ولا تقبل الجدل، وعلى رأس هذه القواعد إعمال العقل ذلك الخَلْق الذى فضَّل الله به الإنسان على سائر الكائنات، فمَن لا يكلف نفسه عناء التفكير ضل وحاد، ومَن منح عقله إجازة فهو يُخالف التكليف الإلهى، وإذا كنَّا عرفنا الله بالنقل فقد هدانا الله إليه بالعقل والمنطق أيضًا. 

ورغم ذلك يُطالبنا الله فى تكليفات عديدة أن نأتمر دون نقاش أو ننتهى دون سفسطة، وهذا الخطاب تحديدًا موجه فقط لمَن سلموا وآمنوا بالله، هذه الأوامر والنواهي ليس المقصود بها تعطيل العقل وإنما اختبار القلب الذى وقر فيه الإيمان وتمكن استقرارًا وسكنًا. 

إذن التدبر فريضة والتفكير فى الإسلام ليس نافلة، ولكن فرق بين التأمل وإعمال العقل واستفتاء القلب وبين التصدي للفتوى والاجتهاد وإصدار الأحكام الشرعية لأنه أمر يرتبط بشروط، يجب أن تتوافر لك قبل أن تقرر الإبحار فى علوم الشرع وبدون هذه القواعد فأنت غارق لا محالة، فأوغل برفق وترفق بنفسك لتنجو، هذه ملاحظتي الأولى. 

أمَّا الثانية فإن مَن يُمارس مهنة الإعلام ما هو إلَّا ناقل أمين موضوعى يحترم قواعد مهنته فى استعراضه لمختلف الآراء ولا ضرر إن أعلن موقفه، لكنه لا يمكن أن يحل مكان الطبيب، وعالم الجيولوجيا، والدين، والفضاء ويختزل العالم بأسره فى شخصه وذاته وآرائه باعتباره قارئًا جيدًا ومثقفًا ومتابعًا لما يجرى بحكم مهنته. 

الثالثة: لجوء بعض مَن يلقبون أنفسهم بالتنويريين إلى المهجور من الفتاوى والاجتهادات لا يُعبر عن فطنة ولا سعة إطلاع، وإنما يُعبر عن حالة مرضية تستوجب مراجعة طبيب لأنه يُعانى من مرض خطير هو حب الظهور والرغبة فى الاستعلاء، بحجة أنه يتحدث فيما لا يعرفه غيره أو يعلم ما لا يعلمه الكثيرون، ليشبع نرجسيته وحالته المنتفخة ولو استعرضنا الأمثلة لن يضن علينا صاحبها بما فعل على مدار عشرين عاما على الأقل. 

الرابعة: وهى ترتبط بحالة التنويريين أنفسهم لأنهم يقدمون أنفسهم كمحاربين ضد الدين وتعاليمه، أو فى أحسن حالاتهم متمردون على قواعده المستقرة نابذين للتراث ناقمين على أهله طاعنين فى اجتهادهم رافضين لهم وما قدموه، ولو أنصفوا لتوقفوا عند بعض القضايا فقط محل الاختلاف ومنحوا هؤلاء السابقين حقهم فى الاجتهاد وإن أخطأوا، وهذا لا يعيب السابقين، ولن يقلل من التنويريين بل يمنحهم مصداقية وقبولا. 

مَن هم المُجددين ومن أى رحم وبيئة علمية يولدون، ومَن الذي يقوم بمهمة تنقية التراث؟

الإجابة على هذا السؤال هى التى تُحدد المسار الصحيح، فلن يقبل المجتمع فى عمومه المتفيهقون الجُدد حتى لو خرجوا على الناس من كل شاشة ينسلون، فبضاعتهم رُدَّت إليهم من زمن بعيد، ورغم أنهم يتحدثون "عن حق" لكنهم يأتونه بالباطل، فقضية تنقية التراث “أعتقد هذا المصطلح الأقرب إلى الصواب ولا يدعو للريبة والرفض معا” قديمة وتطرح من حين لآخر على ألسنة المتخصصين وعموم الناس، ويحتاج الأمر صدق النوايا وعمل منظم ودؤوب تحت مظلة علمية مختصة مثل مجمع البحوث الإسلامية ورعاية شيخ الأزهر فضيلة الإمام الطيب، مع مراعاة أن بعض القضايا لا يجوز الحديث فيها وطرحها على الشاشات بل تظل داخل قاعات العلم بين المتخصصين درءًا للفتنة. 

لا ينكر أحد أن تراثنا زُجَّ به فى أُتون معارك سياسية كثيرًا لمصلحة الولاة وبلاط الحكم، وتم توظيفه افتئاتًا وبهتانًا وزورًا، ولكن هذا لا يمنح المتفيهقين الجُدد الحق لهدم البيت على أهله وإحالته لأنقاض وإلَّا تُركنا فى العراء بلا مأوى أو جذور ضاربة تواجه رياح عاتية وعواصف قادمة من كل حدب. 

كلمة أخيرة: لن ننتصر للدين إذا أطلقنا التكفير على عواهنه ضد كل مُتنطع أو مُتفيهق أو باحث عن شهرة أو شو أو تريند أو مال، بل الأصوب من وجهة نظرى أن نضعه فى مكانه بالحجة والأدلة والمنطق والنقاش، ليعترف بخطئه بينه وبين نفسه وإن كابر جهارًا وعلنًا، فالتكفير أو حتى التطاول على شخصه يمنحه تعاطفًا لا يستحقه، كما أن الحكم بتكفير الآخر ليس مهمة ولا مسئولية آحاد الناس.