الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

رسالة إلى أمي "إنشراح"!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

أكتب إليك بعد أن مضيتي بعيدًا حيث رحلتك الأخيرة، يقيني أن كتابي هذا واصلك لا محال وأنكي قارئة سطوره بلا شك، فكما أخبرتيني قبل ٤٠ عامًا عندما كنت صبيًا ينعم بظلالك الوارفة أن الأم عكس كل الناس لديها أعين تخترق الحواجز والجدران وتستطيع مراقبة أطفالها حيث كانوا.

الآن وقد ارتقت روحك إلى السماء فلا بد وأنكي بتي أكثر قدرة على مراقبتي، بينما أنا أسعى في الأرض.

اليوم يا أم وبينما لا يفصلني عن عامي الخمسين سوى خمسة أشهر كما تعلمين،أدرك أن الحبل السري الذي بيننا لم يُقطع بعد، وأني يا أم ورغم عقودي الخمس لم أُفطم قط،وأني ما زلت في حاجة لمزيد من الوقت.

اليوم يا أم أحسست للحظة أني بت وحيدًا في العراء دون ظلالك التي تقيني قسوة هذه الأرض التي باتت من بعدك بيداء قافرة،بردها ينخر في العظم وحرها يذيب الجلد.

غير أنكي ما لبثت تطلين عبر وعي جديد خُلق بنفسي بأن البعث حق والحياة الأخرى يقين وحيث استقر جسدك الطاهر ليس نهاية المطاف، فهناك ثمة لقاء يجمعنا مجددًا.

يا أم عندما سبقك أبي إلى الرحلة الأخيرة قبل ١٧ عامًا أدركت أن الموت حق، غير أنه ظل حقيقة غامضة ضبابية لم يستغرقني التفكير فيها طويلًا، لكن رحلتك الأخيرة أزاحت ذلك الضباب وجعلت اليقين في لقاء آخر في الحياة أخرى حاضر في الوعي ماثل أمام العقل قبل القلب.

يا أم الآن فقط أدركت أن اليقين في البعث احتياج إنساني وأنه نوع من التحضر، ذلك أن الوعي الحقيقي بقيمة الموت أنه ليس نهاية المطاف لذلك على الإنسان أن يحسن عمله في إعمار الأرض حتى يفوز بجنات الخلد حيث أصبحتي.

الآن فقط أدركت يا أم لماذا تقدمت الأمم التي قدست الموت والحياة التي بعده،بالنسبة لي أدرك أمران،أولهما إنك بتي تراقبينني عن كثب في كل حركاتي وسكناتي،وثانيهما أنك بما قدمت يداك لخمسة أبناء ولكل من عرفك قد بتي إحدى حوريات الجنة.

أعترف يا أم أني قبل رحيلك لم أهتم كثيرًا بشأن الجنة،لكني قد وعدتك ألا أخالف أمرًا كان يرضيك في حياتك القصيرة على هذه الأرض،وفوق ذلك تعلمين أني كنت أخافك وأخشاك حبًا واحترامًا واليوم تضاعف ذلك الخوف وزاد الحب والاحترام وأخجل أن ترينني على نحو يغضبك،لذلك تمني لي أن أصنع فيما تبقى لي من عمر ما يسرك،وأن أمتنع عن كل ما قد يخجلني يوم لقاءك في الحياة الأخرى.

يا أم أنا اليوم مهتم بشأن الجنة وإرضاء ربي طمعًا أن أكون إلى جوارك يوم أن يأمر بارئ الروح بقبضها.

أمي انشراح لم أخجل يومًا من ذكر اسمها منذ كنت صبيًا لأنها بحكمتها ورجاحة عقلها وقوتها ورقتها وجمالها وحنانها كانت دائمًا مصدرًا للفخر والعز والمباهاة وطالماكنت أشفق على نظرائي الذين كانوا يستشعرون الحرج أو الخجل من ذكر أسماء أمهاتهم وكنت أستغرب من أولئك الذين كانوا يعتبرون ذكر اسم الأم عيب أو حرام أو تجاوز،ولم يكن هذا الشعور بالنسبة لي نحو أمي سوى تعبير عن عظمة وقوة هذه الأم، التي لم تكن بأي حال أمًا عادية.

يكفيها أنها ربت وعلمت خمسة أبناء بينهم طفلان كفيفان،كنت واحد منهما،ويكفي الطفلان أنهما لم يشعرا يومًا أنهما فاقدي البصر،كان العقاب والثواب ميزان دقيق في محاسبة الكل ولم يكن كف البصر مبررًا لتجاوز العقاب على خطأ مهما كان،لذلك خرجنا إلى الدنيا لا نهاب عتمة ولا نخاف ظلمة ولا نستجدي حقًا أو نطلب استثاءً لقد نسينا فعلًا أمر أعيننا العمياء بفضل أمي انشراح.

كانت معلمًا وقارئًا ومحفظًا وشارحًا لكل دروسنا من الابتدائي وحتى التخرج في الجامعة.

علمتنا كيف يكون الرضى والإحساس بالغنى المعنوي والمادي سلوكًا غير مصطنع وعلمتنا أيضًا أن نبذل ما ينبغي من جهد وألا نهتم بأمر النتائج فإن كانت على عكس ما أردنا عدنا لبذل المزيد من الجهد،دون النظر إلى الوراء.

كانت في شجاعة الفرسان باسلة لا تهاب المواجهة وقد ربتنا جميعًا على ذلك.

هذا بعض مآثرك يا أم وربما كان آخرها أن رحيلك خلق في قلبي حزن جميل ليس فيه اكتئاب أو سواد،ولتعلمي يا أم أن شقيقاتي لم يرتدين الأسود،فقد علمن مسبقًا كما علم كل من عرفك أنك كنتي وستبقين مصدرًا للبهجة والتفاؤل بروحك الرقيقة التي لا بد وأنها تحوم حولنا الآن.

لكن لا أخفيك سرًا "يا ماما" أني سأظل أبكيك،فمثلك يستحق أن يبكيه المرء حتى يواريه الثرى،لكني أجدد وعدي لك في ختام رسالتي إليك أن بكائي سيظل حزنًا جميلًا يدفعني لأصنع كل ما يسرك حتى لا أخجل يوم لقائك وحتى أتفادى نظراتك الغضبة التي كنت أشعر بها وكأنها سهام نار تخترق عظمي،وإن كانت عيناي لا تبصرك،ومع ذلك أبشرك فملامحك محفورة في ذاكرتي وستظل كذلك أبدًا.

لن أقول وداعًا أمي ولكن سأظل أستشعر روحك حتى يوم اللقاء الذي لا بد أنه قادم.