الأربعاء 15 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

جورج طرابيشي.. استقالة العقل العربي

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قضى المفكر السوري الراحل جورج طرابيشي قرابة ربع القرن في التعامل مع أطروحات المفكر المغربي محمد عابد الجابري المتعلقة بإشكاليات العقل العربي والإسلامي.
طرابيشي، الذي رحل في 16 مارس العام 2016، أصدر موسوعة كبيرة للرد على مشروع الجابري المعروف بـ"نقد العقل العربي".
ورغم أهمية ما كتب "طرابيشي" في مشروعه "نقد نقد العقل العربي" فإن بعض التحامل من ناحيته جعل "الجابري" يعرض عن قراءة ما كُتِب، ووفق حديث الأخير في لقاء تلفزيوني قال: إنه لم يقرأ إلا بعض سطور من مقدمة طرابيشي، حتى وصل لعبارة لا بد أن نُنزل الجابري عن عرشه. فشعر الجابري أنه يقرأ كلامًا وصفه بـ"غير المسئول".
ناقش طرابيشي خلال مشروعه أسباب أفول العقلية العربية، هل هي أسباب تعود لعوامل خارجية من فعل "الآخر" كما يذهب الجابري، وفق رأي طرابيشي، أم هي أسباب تعود لعوامل داخلية من فعل الذات لا "الغير" كما يرجح هو.
وفي هذه الإطار خصَّ طرابيشي أحد الأسباب بدراسة نشرت في كتاب بعنوان "المعجزة.. أو سُبات العقل في الإسلام"، متسائلا: هل يمكن رد أفول العقلانية العربية الإسلامية إلى غزو خارجي من قبل جحافل اللامعقول من هرمسية وغنوصية وعرفان مشرقي وفلسفة باطنية وتصوف إشراقي وسائر تيارات الموروث القديم التي كانت تشكل بمجموعها "الآخر" بالنسبة إلى الإسلام، والتي اكتسحت تدريجيًا وبصورة مستترة ساحة العقل العربي الإسلامي حتى أخرجته عن مداره وأدخلته في ليل الانحطاط الطويل؟ أم أنها استقالة من الداخل ولم تأت من الخارج، ولا تقبل التعليق على مشجب الغير؟

نبي بلا معجزة
وعن "منطق المعجزة" لفت طرابيشي إلى ضرورة معرفة الصورة القرآنية حول هذا المنطق خاصة، موضحًا أن رسالة النبي محمد اقتضت أن تدور بشأنها محاورة يكون فيها الله من جهة والمشركين من جهة ثانية، هم يطلبون من النبي آية أو معجزة لتصديق رسالته، لكن النبي وسيط مأمور أن يرد بفعل "قل"، مثل ما جاء في سورة يونس "فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين"، وفى آية يطلب النبي نفسه معجزة رغبة منه في تسهيل مهمته في إقناع العرب برسالته، ليأتيه الرد القرآني في سورة الأنعام 35"وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين".
وتقدم الصورة القرآنية عن مشركي مكة ليست صورة رافضين للدعوة أو مقاومين عتاة لها بقدر ما هي صورة طالبين للمعجزة، أو بالأحرى لبرهان المعجزة كيما يؤمنوا.
يستعرض طرابيشي العلل الخمسة التي شرحها القرآن إبان الرد على طلب العرب لنزول المعجزة، حيث يبين علل امتناعه عن إتيان المعجزات المطلوبة، وهي: أولها، التكذيب حيث عادة القوم أن يكذبوا الأنبياء بعد الاستجابة بنزول المعجزة، فما أكثر من سبقوا الرسول من الأنبياء ممن كذبهم قومهم رغم ما أتوه من معجزات، وفي مقدمتهم قوم موسى مع أنه كان من أكثر الأنبياء معجزة. ثانيها، وصف المعجزة بالسحر، فكثيرا ما يتم تفسيرها أنها من أفعال السحرة.
ثالث العلل، أن الله دائما ما يتوعد الأقوام التي تطلب المعجزات بالعقاب الشديد إن هي عادت لتكذيبه. رابعها، عدم النجاعة والفعلية: فمن قال إن الإيمان أو عدمه في أيديهم؟ فليس هناك رابطة علية فلا المعجزة تستتبع الإيمان، ولا عدمها يستتبع عدم الإيمان، وإن يكن من رابطة علية فهي حصرا بين المشيئة الإلهية إيجابا أو سلبا وبين الإيمان أو عدم الإيمان. خامسها، التعليل بالآيات الكونية: فمن يطلب برهان المعجزة فما عليه إلا أن يجيل نظره في الكون ليجده عامرا بالمعجزات التي لا تعد ولا تحصى

نبي الثلاثة آلاف معجزة
يعقد طرابيشي مقارنة مثيرة بين صورة القرآن للمعجزات النبوية وبين كتب السيرة التي ساقت العديد من الروايات المتناقضة، ما بين روايات تقف بجوار ما ذهب إليه القرآن، حيث يرفض النبي الإتيان بالمعجزة ليقول: "ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة".
ويقول طرابيشي أنه من المفارقات أن نفس الكتب التي تسوق تلك الروايات النافية على لسان الرسول لأي توظيف للمعجزات هي عينها التي تفرد بابًا مفصلا لـ"معجزات النبي" قد لا يتعدى عند ابن سيد الناس في "عيون الأثر" 3 صفحات، وعند واضع السيرة الحلبية إلى 25 صفحة، ويتطاول عند مصنف "البداية والنهاية" إلى 235 صفحة. مؤكدًا أن باب المعجزات خضع خضوعًا شبه ميكانيكي لقانون التضخم طردًا مع مرور الزمن، فأقدم السير التي وصلتنا وربما أقربها إلى الحقيقة التاريخية أو أقلها بعدا عنها وهي سيرة ابن هشام التي تعود لمطلع القرن الثالث الهجري لم تذكر للرسول من معجزات سوى 10 حصرا.
بعد قرنين بالضبط أي في النصف الأول من القرن الخامس كان عدد هذه المعجزات النبوية العشر قد تضاعف أربع مرات ليبلغ نحوا من 40 لدى أبي الحسن الماوردي في "أعلام النبوة"، وفي "دلائل النبوة" للبيهيقي يكاد لا يأتي بجديد سوى أنه يتوسع في ما ورد عند الماوردي ومن تقدمه موجزا، فيأتي بروايات متعددة للمعجزة الواحدة مضيفًا إلى تفاصيلها تفاصيل. بينما يتفرد عن غيره بما يعزوه من معجزات لا إلى النبي حصرا، بل إلى بعض صحابته سواء أكانوا من المعروفين أم من المجهولين فكأن الصحبة كافية وحدها لاكتساب القدرة على "خرق العادة".
يتتبع طرابيشي كتب السيرة ليقف عند القاضي عياض الذي جاء بعد ثلاثة قرون من ابن هشام وتحديدا في النصف الأول من القرن السادس، حيث كان عدد المعجزات 10 عند صاحب السيرة الهاشمية قد تضاعف 12 مرة ليبلغ نحوا من 120 لدى القاضي عياض في "الشفا بتعريف حقوق المصطفى". وفي القرن الثامن بقى عدد المعجزات ثابتا لدى ابن كثير لم يتغير عما كان عليه لدى القاضي عياض في القرن السادس ولكن مصنف "البداية والنهاية" الذي جمع بين دفتيه أوسع سيرة نبوية معروفة لدينا، أحدث بالمقابل تغييرا منهجيًا جذريًا في كيفية عرض المعجزات فبدلا من الاختصار بالعرض والاكتفاء بذكر معجزة واحدة، عمد إلى فعل العكس فذكر للمعجزة الواحدة شتى رواياتها حتى ولو بلغت عشرًا. موضحًا أن الغائية الكامنة وراء هذا هي إزالة أي درجة للشك قد تحيط بخبر الآحاد ليصل لدرجة اليقين.
يبرز طرابيشي استفادة الحلبي صاحب السيرة الحلبية من ابن كثير الذي وصف المعجزات بأنها "لا تسعه مجلدات عديدة" ومن البيهيقي الذي قال إن "أعلام نبوته تبلغ ألفا"، ليقول هو "إن معجزات النبي لا تنحصر -وفي كلام بعضهم- أعُطي 3 آلاف معجزة". ثم يتعرض للخصيبي مؤلف "الهداية الكبرى" الذي عدَّ للنبي معجزات وأشرك فيها الإمام على.

التوسع في المعجزات الشيعية
وقف طرابيشي وقفة طويلة مع المعجزات الشيعية، ففي كتابه "مدينة المعاجز" استفاد البحراني من تراكم الأدبيات الإمامية على مر القرون الممتدة من القرن الثاني إلى القرن الحادي عشر للهجرة، ليضع موسوعة حقيقية في معجزات الأئمة تألفت من 8 مجلدات، في نحو 4 آلاف صفحة، وأحصت للأئمة الاثنى عشر 2063 معجزة موزعة على الأئمة.
وتحدث طرابيشي في إطار دراسته عن أسباب التوسع في المعجزات، ومنها: التوظيف السياسي للمعجزات السنية بتبرير ماضي الخلافة، والمعجزات الشيعية لإثبات الحق المغصوب. ومنها: نجاح إسلام المعجزات في استمالة الشعوب التي لا تعرف العربية، وتأثر المؤمنين الذين أتوا من بيئات مختلفة وديانات تعرف الغرائب.. وغير ذلك.

ثورة علمية من الداخل
في النهاية يطالب طرابيشي بثورة علمية من داخل التراث وليست عليه، ثورة تسعى لإعادة تفسيره، وفي زماننا المعاصر حيث يبدو العالم العربي والإسلامي بشكل أعم مهددا بالارتداد نحو قرون وسطى جديدة، فإن ثورة كوبرنيكية على صعيد العقل، وعلى صعيد عالم العقل الذي هو التراث والتأويل الموروث للتراث.
موجها سهم الإدانة لمنطق المعجزة، لأن أدبيات المعجزة ومنطقها أسهم في إذاعة الوهم في الثقافة العربية والإسلامية الموروثة بإمكانية سيطرة سحرية على الطبيعة والكون والتحكم بقواهما من دون حاجة إلى معرفة قوانينهما. مطالبًا بـ"ثورة ذاتية ينتفض فيها العقل كما تكوَّن في التراث على نفسه؛ ليعيد تأسيس ذاته في عقل مكوِّن جديد يستطيع معه وبه أن يكتسب رهان الحداثة".