الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الشك درب الاستقلال والحرية ومنهج الوصول للحقيقة واليقين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم تكن صحافة الرأي هي الدافع الأول لانتهاج محمد فريد وجدي أسلوب التحاور والتناظر لتنبيه الأذهان وتقويم المفاهيم والدفاع عن قناعاته وإثبات صحة معارفه.
وعلى الرغم من عشقه للعمل الصحفي وتفضيله مهنة تثقيف العقول على غيرها فإن المحرك الأول لشغفه للتحاور والتناظر هو تلك الأباليس الذهنية والشياطين الفكرية التي راحت تشككه وهو في سن الشباب في كل ما حصله من معارف على يد أساتذته بالمدارس أو ما حفظه من شيوخه وأقاربه من نصائح وحكم وذلك عقب التحاقه بالمدارس النظامية التي رغب عن مناهجها التلقينية؛ ففي الثالثة عشرة من عمره انتابته بعض الأفكار التي أدت به إلى الشك في العقيدة، وقد اهتدى إلى أن معالجة مثل هذه الجراثيم الإدراكية التي تلحق بالذهن المتطلع لإدراك اليقين يجب أن يكون ذاتيًا عن طريق الاطلاع والتوسع في معرفة كل ما يحيط بالمسألة التي تسلل إليها شكه وارتيابه بعين الناقد المحلل؛ فوجد في كتب الفلسفة والتاريخ والدين والعلم والاجتماع ضالته فتعافى من مرضه؛ فذهب إلى الإيمان وهو مسلح بالبرهان العقلي اليقيني الذي عصمه بعد ذلك من الجنوح والشطط والإلحاد والتبعية ويقول في ذلك "وقد أفادني هذا الشك استقلالًا في الفكر، واعتمادًا على النفس ورغبة في استيعاب ما يقع بيدي من الكتب، على اختلاف أنواعها بصبر وجلد، كما أفادني في البحث، حتى أزال الشك عني، وارتاحت نفسي إلى عقيدة ثابتة"، وقد مارس وجدي في شبابه التفكير الناقد والتعليم الذاتي ويبدو ذلك في اعتماده على نفسه لمعالجة شكوكه –كما بينا- خوفًا من وقوعه في مستنقع التحزب والتقليد والتطرف وكان مؤمنًا أن الحق والصواب يجب أن يقصدهما العقل بإرادة حرة واعية دون أدنى اعتماد على تحريض الأغيار أو نصح الموجهين "لا يعرف الحق بالرجال ولكن يعرف الرجال بالحق"؛ وكأنه ديكارت يضع كفه على فوهة سلته حريصًا ألا يدخل بها إلا السليم والناضج من التفاح، وقد مكنه هذا النهج من التحاور مع الأغيار من أهل الدربة والدراية فيختبر علمهم وينتفع بما يفتقر إليه منه ويجادل كذلك المتعالمين ومدعي الثقافة فيتعرف على أضاليلهم وأكاذيبهم وتلفيقاتهم، وكان لا يخجل من التصاول معهم ومواجهتهم متخذًا من عدته المعرفية وأسلحته المنطقية آليات للدفاع عن قناعاته وذلك مع التزامه الشديد بآداب الجدل وأخلاقيات التناظر، ويحدثنا عن ذلك تلميذه محمد طه الحاجري "وإذا هو في مجلس حافل بالشيوخ من علماء هذه المدينة (أي مدينة دمياط) يتحدثون.
 وتعرض بعض مسائل الدين فيتناقشون فيها ويتناظرون، وإذا هو يسمع أشياء لا يسيغها، وإذا بأسلوب في التفكير والتقرير ينكره عقله.. ويأباه العلم الذي تمثل له فيما قرأ من دراسات في "الكون والخلق" انطبع بها تفكيره، وإذا هو يرى نفسه مدفوعًا إلى مناقشاتهم والإدلاء برأيه في هذه المسائل التي تتعلق بالكون والخلق، ولكنه لا يكاد يهم بالمناقشة حتى يحس أبوه بالحرج فيصرفه عنها.. ويأمره ألا يخوض في المسائل الدينية التي لا شأن له بها، ولا قدرة له عليها.. ويكبر هذا الموقف من الأب في نفس الفتى المعتز برأيه وتفكيره ويرى فيه "حجرًا على العقل بلا مسوغ".. وتمثل أمامه أقوال هؤلاء الشيوخ وآراؤهم في الدين فإذا هو يردد بينه وبين نفسه: إذا كان الدين هو ما تعرضه أقوالهم فهو باطل.. وإذا لم يكن ذلك هو الدين، فما هو إذن؟ وبذلك يرى الشاب نفسه مدفوعًا إلى التماس الدين في كتبه ومصادره، وقد تبين له عقم الكتب التي صدر عنها هؤلاء الشيوخ في تمثيلهم للدين، وفي تفكيرهم الديني. ويدفعه ذلك إلى عدم الوقوف عندها والاكتفاء بها، وإنما يتجاوزها إلى غيرها. فيمضي بقراءاته الدينية في كل مجال، ويلتمس الحقيقة الدينية في كل سبيل"، ولم تقف رغبة وجدي في محاورة بني جلدته حول قضايا العقل والنقل والدين والعلم والإسلام والمدنية بل امتد بصره إلى أبعد من ذلك. وقد وجد أن معظم الكتابات المغرضة الرامية إلى تيئيس شبيبة المسلمين من إحياء تراثهم التليد وتجديد مذاهبه واللحاق بركب الحضارة الأوربية هو كتابات غلاة المستشرقين وتجار الكلمة من الدوائر البحثية التي يٌجيشها المحتلين للبلدان الإسلامية لتضليل أهلها وإحباط مساعيهم النهضوية، وقد شرع في محاورة هؤلاء جميعًا والتساجل معهم بلغتهم بمنأى عن التهوين والتهويل من شر كتاباتهم، ويحدثنا محمد رشيد رضا فيروى لنا أنه قد التقى بمحمد فريد وجدي أثناء زيارته لدمياط عقب مجيئه من بلاد الشام للإقامة في مصر فروى أنه قد التقى بمثقف بحَاثة واعي غيور على الإسلام غيرته على وطنه مصر وأنه قد ألف كتابًا يزود فيه عن حقائق الإسلام التي أراد المحتلون تضليلها وذلك في كتاب بعنوان "الفلسفة الحقة في بدائع الأكوان" وأن وجدي قد عدَ العُدة لمخاطبة المفكرين الفرنسيين لتبصيرهم بحقيقة الإسلام وذلك بأسلوب جدلي يذهب فيه بذكر الأغاليط والأخطاء والجهالات التي ذاعت في الفكر الأوربي ثم يقوم بتفنيدها والرد عليها بمنحى عقلي تحليلي وذلك عقب نقد المسائل المختلف عليها بمنحى ديكارتي يهدف لهداية الذهن إلى الحقائق مستبعدًا كل غامض وكاذب ومضلل؛ ومما جاء في رسالة وجدي إلى رشيد رضا هذا التصريح الذي يؤكد أصالة فلسفة الحوار في مشروعه التجديدي فيقول "إنني ألفت قبل بضعة أشهر كتابًا باللغة الفرنساوية، أثبت فيه بالبراهين العصرية، وبالاستناد إلى أقاويل أساطين فلسفة زماننا الحاضر أن المدنية الحقة والإسلام هما أخوان توأمان لا يفترقان، وبعثت بالكتاب ليطبع في باريس"؛ أما كتابه "الفلسفة الحقة في بدائع الكون" –الذي أهداه لرشيد رضا وحكى لعبد القادر المغربي عنه- فكان دربًا آخر من دروب فلسفة الحوار ويمثل حوار الأنا مع الذات (الأنا المتأمل للكون من حولها) يتحاور مع الذات العارفة المتطلعة لإدراك الحقيقة سائلًا إياها عن الأصل والعلة الفاعلة والعلة الغائية؛ ثم ينتقل إلى التهكم على أولئك المعنيين من علماء الدين بدراسة علاقة الله بالكون والإبداع الذي في خلق الموجودات وقدرة الباري التي لا حد لها في الفن والتصوير والإيجاد من عدم شاكيًا تقاعسهم وقعودهم عن التفكير في مخلوقات الله على الرغم من أن هذا الأمر قد حث عليه الشرع وأضحى واجبًا عليهم في غير موضع من كتابه الشريف ليتدبر المؤمنون عظمة الباري في خلقه ويقول في ذلك "فهؤلاء العلماء هم أكثر الناس لذة، وأوفرهم حظًا، وأغزرهم عقلًا، وأفضلهم نبلًا.. يرى الواحد منهم النملة سائرة على أديم الأرض، فيكون نظره إليها، وهي دائبة لتصل إلى وكرها، حاملة لغنيمتها، ألذ له من اجتلاء خطرات الغادات في الخمائل النضرات، وإن سمع زمجرة الرعد وقواصف الرياح يهتز لحكمتها طربًا، ولا طربة من سماع رنات العيدان، بين الكاسات والندمان. فإن خيرت أحدهم بين نواله ملء الأرض ذهبًا مع صيرورته من ذوي العقول الساذجة، وبين بقائه على حالته مع الفقر المدقع، لرضي بالثاني رضى لا يشوبه ندم ولا يصحبه سدم مع هربه من الأول ولا هربه من المصاب بالتيفوس.. فهو في حالة لا يعلم قدرها إلا هو ومن على شكله وشاكلته "يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، وما يذكر إلا أولوا الألباب".
وللحديث بقية