الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

نصر أبوزيد من الاجتهاد إلى التجديد.. رفض الاستخدام النفعى للإسلام وتحويله لتحقيق مصالح فئوية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
هناك الكثير من القضايا التى شغلت تفكير الراحل نصر حامد أبوزيد خلال مشواره الفكرى والبحثي، تتصل بالتجديد والتراث والتأويل وسواها، وكان الهاجس الرئيس لديه يتمحور حول كيفية استنهاض الإنسان العربي، من خلال وضعه ضمن رهان الوعى المعاصر، بمختلف إشكاليات وقضايا الإنسان والحرية، والنظر إليه بوصفه كائنًا فاهمًا، ولا تتحقق إنسانيته إلا في إطار وعى عام بمسألة الحرية، وأن يكون حرًا ضمن شروط وجوده كائنًا لغويًا، مع الأخذ في الاعتبار أن الوعى هو مفتاح الفهم، ورأسمال رمزى للإنسان، ومتعلق بما يكونه إنسانًا، وبما يشكل فهم الإنسان لعالمه ومحيطه، أو للمجال الثقافى والاجتماعي الذى يوجد فيه. 
وظل أبوزيد ينظر إلى التجديد بوصفه حاجة دائمة، وسيرورة اجتماعية وسياسية وثقافية، ومن دونه تتجمد الحياة وتفقد رونقها، وتدخل الثقافات في نفق الجمود ثم الاندثار والموت، واعتبر أن كل ما ليس تجديدًا في مجال الفكر هو «ترديد» وتكرار لما سبق قوله، وهو ليس من الفكر في شيء ولا يمت إليه بصلة، ولكل تجديد سياقه التاريخى والاجتماعي، والسياسى والفكري؛ حيث لا ينبع التجديد في أى مجال من رغبة شخصية أو هوى ذاتى عند هذا المفكر أو ذاك. وهو ليس تحليقًا في سماوات معرفية، أو عرفانية، بل ينبت في أرض الحياة، كما أنه ليس حالة فكرية طارئة، بل يجسد الفكر في تجاوبه مع الأصول التى ينبع منها، ويتجاوب معها بوسائله الخاصة.
وحسب إنتاج نصر أبوزيد المعرفى نجد أن من أهم التحديات التى تواجه مجتمعاتنا العربية الآن، ذلك الاستخدام الأيديولوجى النفعى للإسلام لتحقيق مصالح وغايات ذات طبيعة فئوية محلية عاجلة. وسواء تم هذا الاستخدام من جانب جماعات سياسية بعينها، أو من جانب أنظمة وسلطات سياسية فاقدة للمشروعية الاجتماعية والسياسية والقانونية، فالنتيجة واحدة، هى تحويل الإسلام إلى أداة من الأدوات واختزاله في وظائف وغايات ذات طبيعة دنيوية متدنية، ويضرب لنا أبوزيد مثلا على هذا بقوله «ولننظر مثلا في مقولة إن الإسلام دين شمولي، من أهم أهدافه ووظائفه تنظيم شئون الحياة الإنسانية الاجتماعية والفردية في كل صغيرة وكبيرة، بدءًا من النظام السياسى ونزولا إلى كيفية ممارسة الفرد لنظافته الذاتية في الحمام. هذه المقولة تفترض أن دخول الفرد في الإسلام بالميلاد والوراثة أو بالاختيار الواعى يعنى تخلى الإنسان طواعية أو قسرا عن طبيعته الإنسانية الفردية التى تسمح له باتخاذ القرار بشأن كثير من التفاصيل الحياتية التى من شأنها أن تتضمن اختيارات عديدة». 
وحسب نصر أبوزيد أصبح السؤال المتكرر هنا وهناك لا يتعلق بمدى ملاءمة هذا الاختيار أو ذاك بالنسبة للمجال الذى يتعين على الإنسان الاختيار فيه، وإنما صار يتعلق بمدى سلامة هذا الاختيار أو ذاك من الوجهة الدينية والشرعية. وحين تأخذ أسئلة الحياة هذا المنحى يتحتم أن تتوقع الإجابات الصحيحة من رجل الدين لا من رجل الخبرة والاختصاص في الشأن المعني، وقد عهدنا رجال الدين في كل عصر من العصور إذا سئلوا عن رأى الدين في شأن من الشئون أن يصعب على الواحد منهم أن يقول مثلا: «هذا أمر لا شأن للدين به»، ذلك أن مثل هذا الجواب من شأنه أن يزعزع مقولة «الشمولية» التى يستند الخطاب الدينى عليها في ممارسة سلطته.
ذلك الخطر إنما يكمن في ذلك الفهم السقيم للإسلام، الذى من شأنه أن يرسخ سلطة رجل الدين والمؤسسات الدينية، لتصبح سلطة شاملة ومهيمنة في كل المجالات، ومن شأن هذا الاستفحال والامتداد السلطوى أن يخلق وضعا نعانى منه الآن أشد المعاناة اجتماعيا وسياسيا وفكريا، فبرغم كل الادعاءات والدعاوى العريضة، والفارغة من المضمون، عن عدم وجود سلطة دينية في الإسلام تشبه سلطة الكنيسة في المسيحية، فالواقع الفعلى يؤكد وجود هذه السلطة، بل وجود محاكم التفتيش في حياتنا. والسلطة هذه تجمع السياسى والدينى في قبضة واحدة، فيصبح المخالف السياسى مارقا خارجا عن الإجماع ومهددا لوحدة الأمة، وبالمثل يقول رجل الدين إن من يغير دينه يجب التعامل معه بوصفه خائنا للوطن. إن اتحاد الدين والوطن يجد تعبيره في كل الدساتير السياسية التى تحصر الوطن في دين، وتختزل الدين في الوطن. وهنا يختزل الوطن في الدولة، وتختزل الدولة في نظامها السياسي، ويجد المواطن نفسه حبيس أكثر من سجن. إن مقولة الشمولية تبدأ من الفكر الدينى لتخترق مجال السياسة والمجتمع، أو تبدأ من الفكر السياسى لتأسر الدين في إيديولوجيتها، والنتيجة واحدة، فأى خطر أشد من هذا وأى بلاء.
والخطر الحقيقى الذى حذرنا أبوزيد منه هو أن يحدث في الإسلام ما حدث في المسيحية، حيث أدى كفر الناس بسلطة الكنيسة إلى تحميل الدين كل جرائم الكنيسة. ولا شك أن أخطاء خطابنا الدينى لا فرق بين خطاب دينى معارض وآخر سلطوي، فالسعى لفرض الهيمنة جزء جوهرى في بنية كليهما- تتفاقم يوما بعد يوم، خاصة مع تحالف بعض قطاعات هذا الخطاب مع إرهاب أعمى البصر والبصيرة لا يفرق بين حاكم ومحكوم أو بين أعزل ومسلح، ولا يميز بين رجل وامرأة، ناهيك عن أن يميز بين طفل وراشد.
حاجتنا إلى التجديد
يجيب نصر حامد أبوزيد في مقالة له بعنوان الاستخدام النفعى للدين منشورة في مجلة الديموقراطية حيث يقول «نحن بحاجة إلى «تثوير» فكري، لا مجرد تجديد، وأقصد بالتثوير تحريك العقول بدءا من سن الطفولة، فقد سيطرت على أفق الحياة العامة في مجتمعاتنا سواء في السياسة أو الاقتصاد أو التعليم- حالة من «الركود» طال بها العهد حتى أوشكت أن تتحول إلى «موت»، هذه الظاهرة مشهودة في أفق الحياة العامة، بصرف النظر عن مظاهر حيوية جزئية هنا أو هناك، في الفنون والآداب بصفة خاصة، فستجد أن بؤر الحيوية تلك مثل بقع الضوء التى تكشف المساحات الشاسعة للظلمة. فإذا وصلنا إلى مجال الفكر، فحدث عن اغتراب الفكر وغربة المفكرين، إلا من يحتمى بمظلة سلطة سياسية أو إثنية أو دينية تحوله إلى بوق ينطق بما ينفخ فيه.
ويرتبط منهج التجديد بالحاجة إلى التجديد في سياقه التاريخى الاجتماعي، السياسى والفكري. فالتجديد في أى مجال لا ينبع من رغبة شخصية أو هوى ذاتى عند هذا المفكر أو ذاك، إنه ليس تحليقا في سماوات معرفية، أو بالأحرى عرفانية، منبتة عن أرض الحياة وطينها، وعن عرق الناس وكفاحهم في دروب الحياة الاجتماعية، قد يبدو المفكر محبا للعزلة حريصا على الهدوء والابتعاد عن صخب الحياة، لكنها أوقات التأمل التى لو انسلخت تماما عن نسيج الحياة الحى وتيارها الجارى لصارت سجنا من الأوهام، وقلعة للشياطين العابثة. من هنا يمكن القول إن «التجديد» ليس حالة فكرية طارئة، بل هو الفكر ذاته في تجاوبه مع الأصول التى ينبع منها ويتجاوب معها بوسائله الخاصة. 
ويوضح لنا أبوزيد أنه ما ليس تجديدا في مجال الفكر فهو «ترديد» وتكرار لما سبق قوله، وليس هذا من الفكر في شيء، ولا يمت إلى الفكر بأدنى صلة من قريب أو من بعيد. وبما أن قانون الحياة الطبيعية والاجتماعية هو التغير في كل شيء، سواء كان ذلك التغير مدركا وملحوظا أو لم يكن، فإن قانون الفكر هو «التجديد»، ذلك هو قانونه من حيث هو فكر في ذاته. ويصبح «التجديد» مطلبا ملحا كلما سيطر «التقليد»، الذى هو عين «الترديد» والتكرار لما سبق قوله، وساد، إذ في هذه الحالة ينفصل الفكر عن حركة الحياة التى تمضى في حركة تغيرها غير آبهة بعجز الفكر عن متابعتها فضلا عن قيادتها وترشيد اتجاه حركة التغيير فيها.
تنبع الحاجة إلى التجديد من مطلب التغيير، وهذا المطلب الأخير يصبح بدوره ضرورة ملحة حين تتأزم الأوضاع على كل المستويات والأصعدة: الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي، والثقافى والفكرى على السواء.
وهناك أيضا مبرر معرفى للتجديد يلفت أبوزيد انتباهنا إليه، حيث إن مهمته تحقيق عملية «التواصل» الخلاق بين الماضى والحاضر. والمقصود بعملية «التواصل الخلاق» الخروج من أسر «التقليد الأعمى» وإعادة إنتاج الماضى باسم «الأصالة»، وكذلك الخروج من أسوار «التبعية» السياسية والفكرية التامة للغرب باسم «المعاصرة». وليست عملية «التواصل الخلاق» بالضرورة هى محاولة التلفيق بأخذ طرف من التراث وطرف من الحداثة دون تحليل تاريخى نقدى لكليهما، وهو النهج الذى سيطر بدرجات متفاوتة على المشروع الفكرى النهضوي، فأفضى إلى تكريس ثنائية «الغرب» المادى العلمى المتقدم والمفلس روحيا، و«الشرق» الروحى الفنان المتخلف ماديا وعلميا. العودة إلى دراسة «التراث» مجددا، خاصة «التراث الدينى» تستهدف إعادة النظر في كل تلك المسلمات، سعيا لتحرير المشروع النهضوى من تلفيقيته التى انكشف عجزها واضحا من خلال الهزيمة الشاملة.
كيف نتجاوز حالة «التحزب» و«الاستقطاب» الحاد في مجتمعاتنا بين فريقين يحرص كل منهما على نفى الآخر واستبعاده، تتعدد آليات «الاستبعاد»، لكنها تتجلى في بنية ثنائية تناقضية، يستبعد فيها «الإسلامى»العلمانى على أساس «خروج» الأخير على ثوابت الأمة وتبنيه لمشروع فكري، ثقافى سياسى اجتماعي، يفضى إلى مزيد من التبعية للغرب. وبالمثل يستبعد «العلمانى» «الإسلامى» على أساس قيام مشروعه على أوهام العودة إلى الماضى والتقليد والاعتماد على شعارات فضفاضة غامضة لا تغنى عن غياب المشروع الاجتماعي السياسى الواضح الأهداف والمقاصد والمحدد لإجراءات العمل والتنفيذ.