الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عوائق أمام الإبلاغ عن سرقات المال العام

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في الدول المتقدمة، نجد العديد من القواعد والتشريعات والقوانين، التي تمنح الشخص المبلغ عن انحراف أو خطأ أو حيود عن الأنظمة الواجبة أو سرقة للمال العام، الحق في طلب أن يكون اسمه سريا وغير مُعلن. وفلسفة تمتع الشخص المبلغ بتلك الميزة، تنبع من وجود العديد من الموانع التي قد لا تشجع المبلغ عن احاطة السلطات المختصة بما لديه من معلومات، وبالتالي تضيع على الدولة فرصا كثيرة لمنع الجرائم المالية قبل إتمامها، أو استراد المليارات المنهوبة حال نهبها. ومن بين تلك الموانع التي قد تحول عن الإبلاغ، على سبيل المثال لا الحصر:
ـ موانع وظيفية: فقد يكون المبلغ موظفا بسيطا ويخشى بطش رؤسائه.
ـ موانع مستقبل ومصير: فقد يكون المبلغ متدربا والمبلغ فيه مدربا. وبالتالي سيتم القضاء على مستقبل المتدرب، من المدرب نفسه أو من المدربين الأخرين.
ـ موانع أدبية: فقد يكون المبلغ قريبا أو صديقا أو نسيبا أو زميلا للمبلغ فيه.
ـ موانع مادية: فقد يكون للمبلغ مصالح أو حقوق يخشى عليها من الضياع لو عُرف اسمه.
ـ موانع أمنيه: فقد يخشى المبلغ على سلامة نفسه وسلامة أسرته أو تلفيق تهم كيدية له، كإجراء انتقامي من المبلغ فيهم.
ـ موانع تجريبية: فقد يخشى المبلغ تعرضه للاستجواب والاستدعاء والتعطيل والذهاب والإياب، وذلك مما رآه من تجارب أخرين قاموا بالإبلاغ، فنابهم نصيب كبير من الرهق والتعب وبالمعنى الدارج "البهدلة"
ـ موانع تشغيلية: فقد يكون المبلغ يعمل في مجال مقاولات أو توريدات أو أشغال عموميه، فإذا عُرف عنه أنه يقوم بتقديم البلاغات، فقد يتم وضعه في القائمة السوداء التي لا يتم اسناد أية اعمال لها.
ـ موانع شخصية: فقد يترتب على الإبلاغ وقوع أضرار على الجهة التي يعمل بها المبلغ عنهم، وبالتالي يمتد الضرر الى عاملين وموظفين شرفاء، سيلعنون المبلغ لأنه تسبب في امتداد الضرر لهم.
ـ موانع مجتمعية: فقد يكون المبلغ فيه، صاحب ظروف صعبة، وبالتالي سيتلقى المبلغ اللعنات من زملائه. 
ـ موانع ظرفية: فقد يكون المبلغ فيه، امرأة تربي بناتها بعد وفاة أبيهم، وسيستنكر كثيرون ما فعله المبلغ.
وعموما، لابد أن نعترف بأننا كمصريين لدينا قدرا كبيرا من العاطفة والمجاملات والتسامح واستخدام الواسطة ووجود ظاهر للروابط الاجتماعية والأسرية وغيرها، وكلها تؤثر سلبا على عمليات الإبلاغ عن جرائم الرشوة والفساد والاستيلاء على المال العام والاختلاس واستغلال النفوذ والاخلال بتكافؤ الفرص وغير ذلك. وبالتالي لابد من تشجيع من عندهم معلومات للإبلاغ دون الكشف عن أسمائهم ودون تعريضهم "للبهدلة" بالمعنى الحرفي للكلمة، في سين وجيم، وذهاب وحضور زما الى ذلك. وهو ما دفع المصري لتأليف المثل العامي المعروف "ابعد عن الشر وغني له" وهو ما لا نريده. وانما نريد تشجيع المواطن عن الإبلاغ عن كل الوقائع التي فيها اعتداء على المال العام، دون تعريض المواطن المبلغ لأية أضرار مادية أو معنوية.
وهنا تثور معضلة التوازن بين "الشكاوى الكيدية مجهولة المصدر" وبين الشكاوى الحقيقية المدعمة بالمستندات والحقائق" وهذا دور الأجهزة الرقابية والسيادية.
وأذكر منذ أكثر من 35 سنة أن جاءني أحد زملائي الشرفاء ليأخذ رأيي في موقف تعرض له ولا يعرف عواقبه. حيث ذهب بنفسه الى أحد الأجهزة ومعه المستندات ليبلغ عن فساد بعشرات الملايين من الدولارات في احدى الشركات التابعة للدولة. فأخذوا منه بطاقته الشخصية عند بوابة الدخول، وسألوه عن من يريد مقابلته وهل لديه موعدا؟ فقال أنا هنا لتقديم شكوى بالفساد في شركة كذا التابعة لقطاع كذا في الدولة. فأدخلوه في صالة انتظار وجد فيها العشرات مثله من المصريين البسطاء فتشجع الرجل بانه ليس وحده الذي جاء للإبلاغ عن انحرافات. ظل الرجل أكثر من ساعتين منتظرا، وفجأة وجد موظفا من الجهاز الرقابي، وبصوت جهوري سمعه جميع من في صالة الانتظار، قال موظف الجهاز الرقابي: فلان الفلاني من شركة كذا يتفضل معي. وسألني صديقي: هل هناك احتمال أن أحدا من الجالسين في صالة الانتظار، يعرف أحدا له علاقة بالشركة التي أعمل فيها أو علاقة بالقطاع التابعة له الشركة، وبالتالي يكون اسمي قد انكشف؟ قمت بتطمينه حتى لا يعيش في قلق وارتياب. ولم أشأ أن أقول له، كان من السهل أن يعطي الجهاز الرقابي لكل شخص وهو داخل الى حجرة الانتظار رقما معينا، بحيث يتم النداء على الشخص بالرقم وليس بالاسم، وبالتالي لا يعرف الحاضرون أسماء بعضهم وجهات عملهم. ولم أشأ أن أقول له ما دمت قد أبلغت فليس لك أن تخاف، والا فلن يقوم بالإبلاغ الا واحد في المائة 1% أو أقل [وعلى رأي الوزير حبيب العدلي في كلمته أثناء دفاعه عن نفسه أمام محكمة الجنايات، "من يخاف من تسجيلات التليفونات لا يتكلم في التليفون"]
وحاليا لا تستطيع أن ترسل خطابا لوزير أو جهاز رقابي أو سيادي، الا اذا قدمت بطاقة رقمك القومي وصورة منها، وهو ما يجعل كثيرون يتجنبون ذلك. ونفس الشيء للبوابات الالكترونية. وحتى التليفونات التي تنشرها الأجهزة الرقابية في جميع وسائل الاعلام للإبلاغ، سيتم التعرف على التليفون الذي تتصل منه، وربما يتم تسجيل مكالمتك. وبالتالي يتقاعس الكثيرون عن الإبلاغ.
لابد من وجود ألية للإبلاغ عن سرقات المال العام دون الكشف عن شخصية المبلغ، ودون الزج به في أتون القضية والسين والجيم، ويكفي قيامه بالإبلاغ وتقديمه المستندات. 
عندي الكثير من المقترحات، ولكني أفضل أن تضع الجهات الرقابية تلك الآليات وتتبناها، وتنشرها في وسائل الإعلام. بحيث نضمن تشجيعا للمواطنين على الإبلاغ، وفي ذات الوقت نقلل إضاعة الوقت والجهد في بحث الشكاوى الكيدية التي لا تستند الا للمآرب الشخصية أو الجهل أو التسرع أو الرغبة الدفينة في الإيذاء واثارة الغبار.
وختاما...دون البلاغات التي يقوم بها الأفراد من تلقاء أنفسهم [بغض النظر عن دوافعهم واهدافهم] وسواء كانت تلك الدوافع نبيلة أم غير نبيلة، وسواء كانت من تلقاء أنفسهم أم بتحريض من آخرين لهم مصلحة. فلن يتم الإمساك بالغالبية العظمى من وقائع نهب المال العام والتهرب الضريبي والتهريب الجمركي وسرقات الأراضي وفساد المناقصات والمزايدات والمشتروات الفاسدة ومخالفة المواصفات والأغذية الفاسدة والأدوية المغشوشة ومنتهية الصلاحية، وغير ذلك كثير.
إن مثل هذا النظام الذي نطالب به، لن يتكلف مالا ولا جهدا ولا وقتا. ويكفي عقد اجتماع واحد بين الأجهزة الرقابية المتعددة في الدولة لوضع آلية للإبلاغ تضمن عدم الإفصاح عن اسم المبلغ، ووضع جزاءات رادعة ضد كل من يفشي بيانات هذا المبلغ. والله من وراء القصد.