السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

"درويشة النجار".. "ليس من السهولة أن ترى ما لا يراه الآخرون"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بداية علينا أن نطرح مثل هذا السؤال: "هل يُولِّد الشغف بالمعرفة حزنًا؟ أم أنها الخديعة؟"
يمكن القول أن التجربة الخاصة بالكتابة، بالإبداع على نطاق أشمل وأوسع، لا تخرج عن توليد لا إرادي نابع ربما من حالة وعي ما، أو توليد يشبه حركة إلكترون في فيض مغناطيسي، لقياس قوة تدفق الأنساق الإبداعية في النص.
"عندما نقرأ قصةً، فإن القصةَ تقرأنا"
هذا حال من يقرأ الأدب الجيد، والذي لا يخرج عن تلك التجارب الإنسانية الكبرى. وكل كاتب تشغله تجربته الخاصة، يعطيه خياله المساحة الكافية لنحتها في جدار الزمن، وأي جدار ذاك يتحمل قوة الأزميل/القلم. 
وعندما يصدر عمل أدبي جديد لمبدع يتحسس كل منا مسدسه. من القارئ/ العام في بحثه عن فائدة معرفية تغريه التفاصيل الحسية والنفسية لتجارب الشخصيات التي يكتشفها بالقراءة في النص. والقارئ/ الناقد في ممارسته لنشاط الغوص في أعماق الكاتب والنص معًا، من أجل بناء وجهات نظر فنية محققة لمعادلة التكامل الإبداعي.
ونحن بصدد قراءة "الدرويشة" المجموعة القصصية الصادرة حديثًا عن مؤسسة بتانة للنشر والتوزيع2020، للقاصة والروائية المصرية صفاء النجار. تتراءى من الوهلة الأولى "العتبة الساحرة/المفتاح، التي صنعتها لغةُ النصوص -لغة سردية سيمترية الإيقاع- التي تبتعد عن التعقيد اللفظي، والمغالاة البلاغية، وتنميط قوالب صلبة فـ"عندما أرادت سندريلا أن تحضر حفل الأمير لم تكن تفكر في أن يحبها الأمير، أو أن تحبه، هي فقط أرادت أن تستعيد لحظة من حياتها القديمة عندما كان والداها على قيد الحياة" وهكذا تكون السهولة في صنع اللغة/ السرد، الحلم/الرغبة. وليس هذا ما أرادت الكاتبة أن تخبرنا به فسحب، بل لديها سؤال خاص عن تحقيق تكامل ثنائية الحدوتة التاريخية، حدوتة السندريلا، وهو: "هل خُلق الأمراء إلا لكي تقع الفتيات في حبهم؟!".. ذاك السؤال "التشكيكي/التفكيكي – بوصف تعبير الكاتبة" الذي أسقطته على واقعنا الراهن، واقع الفتاة/السندريلا المشهود له بالتوغل والتمكين في كثير من البيوت المصرية، تلك الفتاة/السندريلا التي "اعتادت العيش على الهامش تمامًا، وأن تقتات ما يتبقى من طعام..." وهي التي تحمل للعالم نظرتها "السويّة"، نظرة فيها الكثير من الحب والخير للجميع، التي لم تدفعها للاستغناء عن كمّ هائل من الخادمات في قصر الأمير، وهو ما لم تعتد عليه في حياتها السابقة في بيت أمها، وتفهمت بناءً على مشورة "مشرفة الخدم" أن ذلك لن يكون "القرار الجيد لأميرة عليها أن تكتسب محبة شعبها"، واستكمالًا لنزعتها "التقشفية" هالها أن يستهلك القصر كل هذه الأضواء، بينما هناك وهي تنظر من شرفتها قسمٌ كبير من ضواحي الشعب يرزح تحت وطأة العتمة التي خلفها قطع التيار عنه. 
وهنا يأتي السؤال: هل ستواصل حياتها –كل فتاة/سندريلا-بمعاير صرامة البذخ القائمة في "القصر"؟
وكما أن "التجارب تجعلنا أكثر حنكة"، تجارب أحلامنا الطفولية البريئة، تجارب أحلام المراهقة، وتجارب نزواتنا ورغباتنا الكبرى هي في الواقع "شرط أساسي من شروط الكتابة، على حد تعبير نزار قباني" "والكاتب الذي لا يعاني لا يستطيع أن ينقل معاناته للآخرين". 
هذا ما نلمسه ونحن نتتبع "ظلال الدرويشة" التي مرت بحياتها، تلك الظلال المراوغة، تجذبك تلك المرأة -المحتجزة في غرفة صلاتها- وهي تجلس "جوار السلم الصاعد للدور العلوي"، لتراقب حركة العالم من حولها، وكأنها حريصة على ملاحظة الصاعدين والهابطين لتشيعهم بذكريات ماضيها، ذكريات سنواتها المحشوة بالبرد والشجن، التي سارت بها في أرض مقفرة، يحيط بها من كل مكان ما "يفسد عليها رؤاها، أحلامها"، فلا يبعث في نفسها الطمأنينة وراحة البال من جديد سوى الصحبة الممتدة من أربعين عامًا، صحبة رجل تتلمس من مكاشفته أسرارها تهدئة روحها الغائبة في دوائر هلاوسية، دوائر مهمتها فقط أن تضيق الخناق على رقبتها، لكنها تصمد بطريقة ما، بصدقها مع نفسها، بمحنتها كامرأة تقف على باب مصيدة الاختيار، اختيار صعب بين شخصين نازعاها في ملكية قلبها، الذي وضِع على الطاولة بمعرفة طبيبة/امرأة أخرى شابة، ساعدتها في التخلص من كل شيء يثقله داخل قفصها الصدري، لكن يبقى ما لم يسعها التخفف منه، وهو رؤية جسدٍ صغيرٍ محمولا على أكتاف الرجال في طريق الصعود به إلى أعلى.
ومع القصص التالية تجد عالمًا خاصًا تنسجه القاصة والروائية صفاء النجار، عالم تتوحد فيه مع لغة سردية عذبة، لا تجد فيه لبسًا أو تعقيدًا، بها من العمق الفلسفي الباحث عن أجوبة مقنعة لأسئلة المعرفة والوجود، لأنها ببساطة تملك أدواتها بدرجة توجيهها كأحد مهندسي المهن الدقيقة، ووضعها في المكان الدرامي المناسب.
نقرأ مثلًا من قصة "الزمن الأسطورة والأزرق الحار": أنا أدور في دوائر، وكلما دخلت دائرة انتقلت لدائرة أكبر وأكبر، تتوالد الدوائر، المعرفة الإنسانية موجات متداخلة لا تنتهي، فقط أنا التي أجهل وجودها، وكلما دخلت دائرة اكتشفت عمق جهلي وضحالتي وفراغي. أنا خاوية يا صغيرتي بجانب مدارات المعرفة الممتدة".
كما في متتالية الصوت والصدى، في قصة "ورم مشاكس يؤنس وحدتي" نقرأ: "كل هذا الجنون، كل هذا الهذيان تم خلال شهور. بدأنا الرحلة يوم الجمعة وفي ليلة السبت عرفنا نوعا من الألم، لا تسكنه حقن "الفلدين" و"البسكوبان"، و"الفولتارين".. كل المسكنات الشرعية داخل الجدول، كان الألم قد تمرد على سيطرتها، وانطلق يعيث في أعضاء الشابة فسادا، وعرفنا في تلك الليلة السوق السوداء للمسكنات الممنوع صرفها إلا بروشتة طبية عليها ختم النسر، كنا ليلة السبت، وكان النسر قابعا مستكينا في احد الأدراج، وعن طريق المعارف، استطاع شقيقي الحصول على لصقة المورفين".
وفي قصة "الحلم الذي لن أرويه لجدتي".. نقرأ:
"تجلس جدتي خلف الباب الخشبي لغرفة الخزين حينما تناقش أمرًا عظيمًا مع أولادها. كانت غرفة الخزين مكمنها، وإذا أرادت معاقبة أحد منا نحن الصغار، أو الخدم، أو لوم أحد من الكبار من أعمامي وعماتي تختلي به في غرفة الخزين، الباب دائما مفتوح، لكن إغلاقه يعني أن هناك أمرًا خطيرًا، سرًّا.. عندما رفضتْ عمتي "ضحى" الزواج من ابن عمها، اجتمعت جدتي مع أبي وعمي في هذا المخزن، حشدتهما ليناصرا موقف شقيقتها، وخرجا ليعلنا لجدي تأييدهما لموقف أختهما، فلا يعقل أن تتزوج"ضحى" المتعلمة من فلاح حتى لو كان سيرث نصف أملاك القرية!".
ولأن كل فعل بشري قائم على التجربة، كذلك كل رؤية أدبية، قصة كانت أو رواية أو شعرًا، هي محض إخلاص لتجربة الكاتب ذاته، في محاولة منه لصنع زوايا ارتكازية تتحسس من خلالها بصيرة القارئ طريقها إلى المعرفة. معرفة الحياة/الموت، الفلسفة/الوعي، الظاهر/الباطن، أشياء لم يكن في مخيلته أن يدركها دون دليل/مرشد عليم بكل صغيرة وكبيرة في العملية الإبداعية. وهذا ما تكتشفه في قصص "الدرويشة"، التي من الصعوبة بمكان أن تدرك مغزى أي شيء تقرأه دون أن يكون بوسعك التسلل إلى دهاليز عقلية الكاتبة نفسها، التي لطالما تخبر عن نفسها أن ما تكتبه لا يمكن قراءته، ولا تحرص على كتابته بترتيب، هي تكتب ما يريد شخوص نصوصها أن يرووه، ما يريدون أن تعرفه عنهم. تحاول أن تدفعهم للبوح، للاعتراف، وكثيرًا ما يقتنعون، وتنفك عقدة لسانهم وينساب شلال ذكرياتهم، وما أن تنتهي من عيش ما قالوه في ذهنها حتى تكتفي وتتكاسل عن تسجيل ما قالوه".. 
الأمر الذي يدعونا لاكتشاف أن "الدرويشة"، رغم ارتباط قصصها ظاهريًا بتجربة شخوصها ورفدها بحيل إبداعية، تبدو باطنيًا تكشف مدى تورط الكاتبة ذاتها في تلك التجارب الخاصة، وكأنها تعلن في "خفاء سردي" أنها "سندريلا"، وهي التي تكتب يومياتها نيابة عنها. أنها "صانعة الأحلام" تتحمل –الكاتبة وحدها أيضًا- وزر تحقيقها بكل تلك التجارب التي تثقلها بالشك، الشك الذي يبهرها بالبحث عن رئة تتوسع رغبةً في التحليق. أنها كذلك: "الجميلة" المرتبطة بـ"سيدة المجردات"، تلك الأم التي وقفت جوار ابنتها ضد رغبة أبيها الرافض لارتباطها بزميل لها لا يملك من الدنيا غير "رجاحة عقله". 
ومع كون الصوت السردي في "الدرويشة" يختص بنبرة تقليدية في بعض نصوصها، لكن تشفع لذلك حنكة الكاتبة، المتأصلة، في توظيف دراما الشخصيات، وتقديم نماذجها الإنسانيّة البسيطة، بإيقاع متناغم في سياق قصصي أنيق.