الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

إنسان ليس من عالمنا.. ابن نوسا البحر.. عذَّبه الحب فعذبنا معه!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«كونى كما تبغين لكن لن تكوني...!!! فلقد صنعتك من هواى ومن جنوني...ولقد برئت من الهوى ومن الجنون» ولكنها لا تأبه وتحب غيره وهو ما زال متيمًا بها.. يعشق آلامه وأحزانه ويبحر معهما فى كل يوم ويعبر عنهما فى عبارات تذيب الحجر!! يثور.. ينفعل.. يغضب.. ويبعد وهو يلملم جروح كرامته.. ليعود مرة ثانية ليبعثرها تحت أقدامها..!!! لم يكتب ابن نوسا البحر الشعر كما كتبه من سبقوه أو حتى كمن تلوه.. بل لقد عاش الشعر نفسه وتنفسه فكتب بصدق مذهل كل ما يحس به فى حبه الأفلاطوني..!! فمرة يهاجم قلبه ويتهمه أنه يتآمر عليه معها فيقول «لست قلبى وإنما خنجر أنت فى الضلوع» و«لست قلبى وإنما أنت قلبها»...!! لقد أبكانا كامل الشناوى بقصة حبه الوحيدة والتى لعن بسببها وجوده فى الحياة وتمنى لحياته أن تنتهى «ليت يا يوم مولدى كنت يومًا بلا غدِ»!! وحبيبته لا تأبه به فليس هو الشاب الوسيم الأنيق أو الدكتور الأديب الشهير!! فحين قرأ عليها قصيدته وهو ينتحب والدموع تخنق كلماته «إنى رأيتكما..إنى سمعتكما..عيناك فى عينيه..فى شفتيه.. فى كفيه..فى قدميه... ويداك ضارعتان من لهفٍ عليه» فردت عليه ببرود بأن كلمات قصيدته جميلة وتصلح للغناء!، أغلق الهاتف وكتب «بعضى يمزق بعضي»!، فهو أضعف من أن يبتعد عنها رغم كل ما سببته له من آلام وجروح وكل ما يستطيعه هو إطلاق العنان لدموعه التى تغسل جحودها وصدها وتطهر قلبه من آثامه... «كيف يا قلب ترتضى طعنة الغدر فى خنوع.. وتدارى جحودها فى رداء من الدموع»!.
كان كامل الشناوى يضحك فى مجالس الأصدقاء ويعود لمنزله وحيدًا حزينًا....لم يتزوج... وأوصى من حوله أن يذكروا ما يقوله ويدونوه فهو لن يكتبه ما عاش فهو لا يأبه بهذه الحياة وبمن فيها!! لقد كان ابن المنصورة شاعرًا بدرجة هاوٍ!!! ومحبًا بدرجة مجنون!!! وحيًا بدرجة ميت!! كان لا يهمه ما يقوله الناس عن حبه حتى لو عرف كل العالم به.. كان لا يؤرقه شفقة الأصدقاء على حاله ولا عَودُ المحبين لقلبه المجروح..!! فهو لا يكتب للكتابة أو الغناء ولكن يكتبه لينفُسُه بعيدًا حتى لا يدمره احتقانًا...يكتب من أعماق أعماق ما بداخله وبصدق لم نعهده من شاعر من قبل. فكيف لإنسان أن يكتب حوارًا بين حبيب يواجه حبيبته بخداعها وحوار بين اثنين مخدوعين فى حبهما «حبيبها لست وحدتك حبيبها.. حبيبها أنا قبلك وربما جئت بعدك.. وربما كنت مثلك حبيبها»!! فها هو يصف الخداع متحركًا ومتنفسًا ومرتعشًا... «فى لهفة فى اللقاء.. فى رعشة فى الوداع.. بدمعة ليس فيها من الدمع إلا البريق»!!! 
وعندما يئس تمامًا من حبه الذى حطم قلبه وحرقه بناره قال:
أحببتها وظننت أن لقلبها
نبضًا كقلبى
لا تقيده الضلوع!
أحببتها
وإذا بها قلب بلا نبض
سراب خادع
ظمأ وجوع!!
فتركتها..
لكن قلبى لم يزل طفلًا
يعاوده الحنين إلى الرجوع
إذا مررت – وكم مررت – ببيتها
تبكى الخطى منى!
وترتعد الدموع!
وحين يكتب الشناوى عن مصر يجعلنا متيمين بها كما هو متيم بمحبوبته...«على باب مصر تدق الأكف ويعلو ويعلو الضجيج.. جبال تدور، رياح تثور، بحار تهيج...وتصغى! وتصغى!! فتسمع بين الضجيج سؤالًا وأى سؤال!! وتسمع همهمة كالجواب، وتسمع هممةً كالسؤال !! أين؟ ومن؟ وكيف إذن؟» فنهضة مصر فى عصره فى أوائل الستينيات تجعله يتساءل «أمعجزة ما لها أنبياء؟.. أدورة أرض بغير فضاء؟» ليدركنا سريعًا بقوله إن الشعب المصرى هو جوهر المعجزة وسببها ويصرخ على لسانه «أنا الشعب أنا الشعب لا أعرف المستحيلا...ولا أرتضى بالخلود بديلا...بلادى بلادى مفتوحة كالسماء... تضم الصديق وتمحو الدخيلا» لقد أصر جسد كامل الشناوى على الرحيل مبكرًا من حياتنا فى سن السابعة والخمسين ولكن رحل من قبله إلى عالم ملائكى قلبه وعقله.. فهما ليسا من عالمنا المادى الجاف. رحم الله ابن نوسا البحر العاشق الذى ذاب وأذابنا رومانسية وغضبا وجرحنا بجروحه التى لم تلتئم حتى غادر حياتنا وحيدًا حزينًا وهو يُضحك الجميع من حوله...لقد ترك لنا رصيدًا من الرومانسية والوطنية مكتوبة ومحسوسة تغذى أرواحنا وتأججها إلى الأبد... سلامًا يا ابن بلدي!.