الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عيسى بن هشام بين الخطاب والمشروع «6»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لقد أدرك المصلحون المحدثون الأوائل - من أخريات القرن الثامن عشر- أهمية إعادة بناء العقل الجمعي، إيمانًا منهم بأن النصح للقيادات أو توجيه الزعماء أو إقناع القادة بمنافع مشروعاتهم لا يكفى لنهوض الأمة، فمهما بلغت مهارة ربان السفينة فلا يمكننا التعويل عليها وحدها للإبحار الآمن وبلوغ المقصد دون التأكد من قوة سواعد البحارة ودرايتهم بفنون الملاحة، لذا نجد ناصيف اليازجى (١٨٠٠- ١٨٧١م) من أوائل كتاب المقامات فى العصر الحديث يوجه مقاماته الستين، تلك التى تضمنها كتابه «مجمع البحرين» - الذى ظهر فى العقد الخامس من القرن التاسع عشر – إلى أواسط المثقفين، وذلك بمنحى تعليمى مباشر أقرب إلى لغة التوجيه وتقويم المعتقدات والمعارف وإفهام الأذهان، منه إلى الحكى الهزلى أو الآداب السلطانية التى تخاطب العقل القائد. 
وقد نحا المويلحى عين المنحى فدفع عيسى بن هشام وصاحبه أحمد باشا لنقد جهالات المثقفين وخرافات المتعلمين، فقد أزعجهما تعلق أذهان حملة الشهادات العليا بأخبار الجن والعفاريت وتحضير الأرواح وقراءة الطالع والكف والفنجان واستخراج الذهب من المعادن الخسيسة، ذلك فضلًا على ولعهم بكرامات الصوفية وتفسير الرؤى والأحلام وغير ذلك من مظاهر التخلف والحمق التى سادت بين العوام فى أخريات القرن السابع عشر على يد تلاميذ الشعرانى (عبد الوهاب بن أحمد بن على الأنصارى ١٤٩٣- ١٥٦٥)، فقد انزعج عيسى بن هشام من رؤيته أحد مدعى الثقافة والعلم يبحث عن كتاب «أصول المراسم وفك الطلاسم» وكتاب «حسن إرشاد الناس فى استخراج الذهب من النحاس» وكتاب «القول المأثور فى تأثير البخور» وكتاب «قلائد اللؤلؤ والمرجان فى استحضار الجان» وكتاب «خير المواقيت لرؤية العفاريت» بشغف وكأنه ينقب عن نهاية الأرب ومفاتيح العلوم.
أما أحمد باشا فقد ندم على عودته من بين الأموات من هول ما رأى من تصرفات أحفاده وأصحابهم لهوًا وبذخًا وأموالاً مهدرة وخمر وميسر ومجون مع النساء العرايا وعوائد جاحدة للدين والأدب ولسان أعجمى شأن الأجانب والخواجات، واحتقار للغة العرب وتنكر للآباء واستهزاء بوصايا السلف، وها هو ينقل بعض أقوالهم على لسان حفيده عندما التقى به لأول مرة «اذهب عني، فلست أسمع لهذا الكذب والخرف، وليس لى اليوم من جد ولا والد، ولا أنا ممن يصدق بحديث البعث فى الآخرة، فكيف برجوع الموتى إلى الدنيا، تعالوا أيها الإخوان فاعجبوا معي، واضحكوا مما أسمعه من هذا الرجل الذى يخاطبني». ونظر عيسى للباشا قائلًا: «إن أبناءكم لم يرثوا منكم أخلاقكم، كما ورثوا عنكم أموالكم، وليس عندهم من الشهامة ما يدفعون به عن الأعراض والأنساب، ولا يأبهون لكشف العورات، وأخذ الثأر، والمبارزة عندهم كلمة تقال بالليل وتمحى بالنهار».
وينتقل عيسى وصاحبه إلى مجالس المتصوفة الذين بدلوا أورادهم ومدائحهم النبوية بأحاديث غريبة وأخبار ملفقة عن بدع ابتدعوها ونسبوها للشرع الحنيف، وأخبار تناقلوها عن خرافات ومعجزات وكرامات والصقوها بالزهاد وأعلام الطرق الصوفية فراح عيسى يضحك ساخرًا ومتهكمًا على الروايات التى نسبت إلى عبدالقادر الجيلانى (١٠٧٧ - ١١٦٦)، تلك التى جعلته أدنى إلى الألوهية منه إلى الفناء فى حضرة الربانية ولا سيما ما نسب إليه عن قدرته على إحياء الموتى، وتهكم كذلك على تلك الحكاية التى تصور الغوث الأعظم (أحمد الرفاعى ١١٠٦ - ١١٨٣) مع ملك الموت، إذ طلب منه الرفاعى أن يعيد إليه روح خادمه بعد أن قبضها، فرفض ملك الموت طلبه وأخبره أنه يعمل بمقتضى أمر إلهى، فإذا بصوت الله أن الغوث الأعظم طلبه يجب أن يجاب لأنه محبوبي.
وعقب الباشا على ما رأى وما سمع من بعض المتصوفة والعوام شارحًا لهم حقيقة التصوف، وذلك بقوله: «اعلموا أيها الإخوان أن مغفرة الرحمن وسكنى الجنان، لا تنال بكثرة الصوم، وأكل التمر أو التبرك بالآثار والتحصن بالأوراد وما تكتسبه الدرجة الرفيعة عند الله الا العدل والإحسان وتقوى الله فى عباده وإفشاء البر والمعروف فى خلقه، ولا تطيعوا النفس الأمارة بالسوء، فتركنوا إلى الاغترار بالأمل وتطلبوا المغفرة بلا عمل، بل استكثروا من الخير قبل حلول الأجل».
وينتقل عيسى بن هشام إلى وصف مجالس شيوخ الأزهر وأحاديثهم شارحًا لصاحبه الباشا مقام الأزهريين ودورهم فى حياتنا الثقافية والدينية والأخلاقية قائلًا: «هم مصابيح الدين ونباريس اليقين ونجوم الإرشاد ورجوم الإلحاد ونصراء الحق وحلفاء الصدق وهداة كل ضال ومارق ودعاة الخلق إلى معرفة الخالق وتيمنًا بشرف مكانهم وتبركًا بنور إيمانهم، فقصدنا مجلساتهم جمع كل أغر منهم محجل وكل معظم فيهم مبجل». 
ويضيف عيسى بن هشام أن هذا الدور قد اندثر. وذلك المقام قد انحسر. فلم تعد أحاديثهم المثارة فى مجالسهم حول ما استجد من علوم، بل شغلهم بناء الحوانيت والدور، وتجادلهم حول بريق الزجاج واللؤلؤ والبنور. والمفاضلة بين منافع الأطيان وبناء الفنادق والقصور، واستئجارها للسكان. والمقابلة بين الاشتغال بالتجارة، وتحصيل العلم وتتبع تاريخ الحضارة. والمقارنة بين إدخار الحلى والأموال وكنزهما بين المتاع والحاويات، أم استثمار الثروات فى البورصة وشراء الأسهم والمضاربة فى الشركات. ناهيك عن ذكر دعوات الأكابر والأعيان، ومآدبهم الممتدة الحافلة بالجديان والخرفان. وحكاياتهم عن تطاول العوام والحرافيش، على أصحاب العمائم متبعين فى ذلك الدراعمة والأفندية وغيرهم ممن لبسوا الطرابيش. 
ويقول على لسان أحد المشايخ: «إن هؤلاء المتشدقين لم يكتفوا بالإقدام على مجادلة العلماء بل أقدموا على تجهيلهم خفى العلم وسعوا فى إدخال بعض العلوم المحدثة المبتدعة فى حلقات دروس العلم الطاهرة ليجعلوا كبار علماء الدين الذين لا يكترثون بهذه العلوم الباطلة كالتلامذة لهم. فانظروا إلى أين وصلت بهم الجرأة والوقاحة: على أن علومهم هذه ليست بنافعة فى الواقع. وما هى والعياذ بالله إلا مدرجة للزيغ ومزلقة عن الصراط. يستدرجهم الشيطان بها من حيث لا يشعرون.. مثل علوم الفلسفة الممقوتة التى تدفعهم إلى الزندقة والإلحاد، وعلم التاريخ فإنه عبارة عن الاشتغال بالأقاصيص والأساطير، ولابد أن يجر بصاحبه إلى الخوض فى سيرة الصحابة رضى الله عنهم وما وقع بينهم من الحروب، مما نهى الشرع عنه بنص الحديث: «أفضيتم إلى ذكر أصحابى فأمسكوا»، أما علم الجغرافيا فضرره عظيم ومغبته وخيمة بما امتزج فيه من نسبة الدوران للأرض والسكون للشمس، وتعليل حوادث السماء بتلك العلل المبتدعة التى يكذبها العيان ولا يقوم عليها البرهان، وأن ما جاء فى هذا العلم يناقض ما رواه كعب الأحبار (كعب بن ماتع الحميرى ت نحو ٦٦٠م) من أن السحاب من ورق الجنة، وأن الرعد صوت ملك يسوق السحاب، وأن البرق لمعان حربة بيده. وأين هم مما روى عن ثبات الأرض وأنها محمولة على قرن ثور، والثور محمول على صخرة، والصخرة على ظهر حوت سابح فى الماء، وأن أول ما يأكل أهل الجنة من كبد ذلك الحوت».
وللحديث بقية عن انتقادات عيسى بن هشام للمجالس الأزهرية