الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

في كرة القدم.. اللعبة الحلوة توازي غزو الفضاء والوصول إلى القمر

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ممارسة كرة القدم بدأت بطريقة عنيفة وجامحة وحظرت حتى وضعت قواعد لتنظيمها 
أول مجموعة موحدة من قوانين الرياضة ظهرت عام 1848 فى جامعة كامبريدج 
ازدهرت الكرة فى أوائل العصر الفيكتورى كلعبة جماعية للقضاء على الأنا والفساد الأخلاقى
خطة «دبليو إم» تسببت فى تراجع اللعبة فى إنجلترا وزيادة سلبيتها

ليس خافيا أن كثيرا من الحضارات أشارت إلى عدة ألعاب تضمنت ركل الكرة، لكنها فى البداية مورست فى جو من الفوضى، ولم يكن للعبة شكل محدد حتى جاء العصر الفيكتورى الذى شهد بداية تقنينها، ليبدأ عهد جديد من تحليل اللعبة ووضع قواعد ثابتة لها.



وتباينت هذه القواعد من مكان إلى آخر، وكانت تتضمن فريقين يحاول كل منهما دفع جسم شبه كروى تجاه هدف ما فى الطرف الآخر من الملعب المتفق عليه. 
كانت اللعبة عنيفة وجامحة وفوضوية، وتم حظرها أكثر من مرة، وفى أوائل القرن التاسع عشر عندما قررت المدارس العامة تأثرا بأن الرياضة يمكن تسخيرها لتهذيب أخلاق التلاميذ، ظهر ما يشبه كرة القدم الحالية.
وقبل أن تكون هناك تكتيكات ظهرت مجموعة مترابطة من القواعد.
ومع نهاية القرن التاسع عشر، وعندما بدأت إرهاصات التشكيلات التكتيكية فى الظهور، لم تكن هذه التشكيلات تحظى بكثير من التفكير.
وفى الأيام الأولى من نشوء كرة القدم لم يكن هناك تصور لفكرة التكتيكات المجردة والرسوم التخطيطية الحالية المزودة بالأسهم والإشارات. وفى أواخر عشرينيات القرن العشرين لم تكن التكتيكات تشبه الشكل الحديث الذى أقر فيما بعد، وحتى مطلع سبعينيات القرن الماضي، كان هناك إجماع على أن ترتيب اللاعبين فى الملعب أحدث فرقًا كبيرًا فى طريقة اللعب. لكن كرة القدم بشكل عام لم تعرف شيئا من التعقيد فى ممارستها.

العصر الفيكتورى وازدهار الكرة
يقول ديفيد وينر فى كتابه «تلك الأقدام»: كان الازدهار الذى عرفته اللعبة فى أوائل العصر الفيكتورى مرده إلى أن الإمبراطورية كانت فى انحدار، وكان اللوم فى هذه الانحدار يُنحى على الفساد الأخلاقي، فظهرت قناعة بأن تعزيز الرياضات الجماعية ضرورة، ذلك أنها تعوق الإيمان بالأنا، فالإيمان بالأنا ساعد فى انتشار رذيلة الاستمناء، الهادمة الكبرى للإنسان، وقد أصر القس إدوارد ثرينج ناظر مدرسة يوبنجهام فى إحدى عظاته أن عادة الاستمناء ستدفن أصحابها «فى القبور المهينة قبل الأوان» وكان ينظر إلى كرة القدم بوصفها الترياق المثالى، لأنها كما قال أحد المهتمين باللعبة: ليس ثمة رياضة رجولية أكثر منها، إنها بريطانية بمعنى الكلمة. وتتطلب الشجاعة ورباطة الجأش وقوة التحمل».
وفى القرن التاسع عشر كانت قد ارتفعت شعبية كرة القدم لكن القواعد اختلفت من مدرسة إلى أخرى اختلافا ملموسا، ففى مقاطعتى شلتنهام ورجبى مثلا بملاعبهما الواسعة المفتوحة، انحازت اللعبة قليلا عن لعبة الرعاع، فقد يسقط اللاعب على الأرض، أو يقوم عدد كبير من رفاقه بإسقاطه والوقوع فوقه ثم يخرج من الوحل سالما. وفى أديرة تشارتر هاوس ووستمنستر اشتد عنف اللعبة، فكانت تؤدى إلى كسور العظام. ومن هنا نشأت المراوغة فى اللعب وبدأ حظر أو تقييد مسك الكرة باليد، لكن اللعبة ظلت مختلفة جذريا عن كرة القدم الحديثة، ولم يسمع وقتها عن التشكيلات، وكان زمن المباراة وعدد لاعبى كل فريق غير محددين.
وكان التلاميذ المفوضون أو الأكبر سنا هم من يركضون والكرة بين أقدامهم، أما زملاؤهم فى الفريق فكانوا يصطفون وراءهم للمساندة، فى حال ارتدت الكرة بعد أن يقطعها الفريق المقابل، أما لاعبو الطرف الآخر أو التلاميذ المساعدون «الأصغر سنا» فيحاولون وقف تقدم الخصم.
كان التفاعل بين المهاجمين بدائيا، ومن هنا ظهرت بعض الأساسيات التى شكلت مسار كرة القدم الإنجليزية فى وقت مبكر، فكانت المباراة تدور بالكامل حول المراوغة بالكرة، أما التمرير والتعاون والدفاع فكانت تعد أمورا أقل شأنا، وبدأ التصادم بالكتف وإيقاع الخصم أرضا مفضلا، ويقول بعضهم: إنها كانت أحد مظاهر حياة الإنجليز فى الحياة العامة.

المراوغة وحظر لمس الكرة باليد
يقول جوناثان ويلسون فى كتابه «الهرم المقلوب.. تاريخ تكتيكات كرة القدم»: الذى نحن بصدده الآن أنه قد جرى اجتماع عام ١٨٤٨ فى جامعة كامبريدج بين ممثلى مقاطعات هارو وإيتون وينشستر ورجبى وشروزبرى وأعملوا النظر فيما يمكن اعتباره أول مجموعة موحدة من قوانين كرة القدم فى التاريخ، وتم طبع قواعد جديدة أعطوها اسم قواعد كامبريدج. ووزعت نسخ منها وألصقت فى منطقة باركرز بيس «وهى مساحة من الأراضى العشبية المفتوحة وسط المدينة».
لم تمر سوى أربع عشرة سنة بعد ذلك حتى خطت النسخة الجنوبية من اللعبة خطوة أخرى نحو الاتساق والتماثل، وأصدر جيه سى ثرينج الشقيق الأصغر لإدوارد مدير مدرسة أبنجهام مجموعة من القواعد الموحدة فى جامعة كامبردج، بعد أن أحبطت محاولة سابقة له فى وضع قواعد اللعبة، غير أنه نجح هذه المرة فى إصدار مجموعة من عشرة قوانين بعنوان «اللعبة الأبسط».
وفى أكتوبر التالى نشرت مجموعة أخرى مختلفة باسم «قواعد جامعة كامبريدج لكرة القدم»، وبعد شهر تم تأسيس اتحاد الكرة، الذى شرع على الفور فى تحديد مجموعة نهائية من قوانين اللعبة، وأراد الاتحاد الجمع بين أفضل عناصر اللعبة وهى المراوغة وإمساك الكرة باليد.
وأخفقت المحاولة، وكان النقاش طويلا وغاضبا وبعد الاجتماع الخامس فى فندق فريماسون تافرين فى ديسمبر ١٨٦٣ أصبح حمل الكرة باليد محظورا، وسلك كل من كرة القدم والرجبى طريقين مختلفين، ومن الغريب أن النزاع لم يكن على استخدام اليد، لكن على ضرب أفراد الفريق المنافس بالقدم.

التسلل.. اللعبة التى لا تُقاوم
جزء من سحر كرة القدم الدائم أنها لعبة جماعية، وأدنى تغيير فى جزء واحد من أرض الملعب قد يؤدى إلى تأثيرات جذرية وغير متوقعة فى مكان آخر. وعندما استطاعت الجمعيات الوطنية إقناع الهيئة الدولية بإطلاق قانون التسلل سنة ١٩٢٥، كان عليها أن تجيب عن تساؤل مهم يتعلق بتراجع عدد الأهداف الذى سينتج عن إلغاء تقييد اللعب بالتسلل.
فقد ظل قانون التسلل دون تغيير منذ عام ١٨٦٦، وكان هذا القانون يتطلب ما يلي، فحتى يكون المهاجم خارج منطقة التسلل، لا بد من وجود ثلاثة لاعبين فى مواجهة اللاعب «عادة حارس المرمى واثنان من المدافعين» ليكونوا بينه وبين هدف خصمه، وتوصل اتحاد كرة القدم الإنجليزى إلى حلين محتملين- إما وجود لاعبين فقط أمام لاعب الهجوم، أو وضع خط فى كل نصف من الملعب يبعد ٤٠ ياردة عن المرمى، ولا يكون لاعب الهجوم متسللا إذا كان خلف هذا الخط وأعد لاختبارهما فى سلسلة من المباريات الودية، بشوط يتم لعبة بأحد البديلين والشوط الآخر بالبديل الآخر.
قرر اتحاد كرة القدم الإنجليزى فى اجتماع عقد فى لندن فى يونيو أنهم يفضلون الاختيار الذى يتطلب وجود اثنين فقط من المدافعين أمام المهاجم ليكون غير متسلل، وتبنى اتحاد كرة القدم الأسكتلندى بعد ذلك بفترة قصيرة هذا التعديل، ولقد كانوا هم الذين طرحوا تغيير القاعدة إلى الهيئة الدولية، وتم تنفيذ التغيير الجديد فى بداية موسم ١٩٢٥-١٩٢٦. لقد كان الفريق الذى يريد أن يلعب على مصيدة التسلل فى السابق قادرا على الاحتفاظ بلاعب واحد فى خط الظهر كتغطية لزميله الذى يتقدم إلى الأمام وفى محاولة للإيقاع بلاعب خط الهجوم فى مصيدة التسلل، أما التشريع الجديد فيعنى أن الحكم المخطئ يضع الفريق فى مخاطرة ترك لاعب خط الهجوم فى موقف واحد ضد واحد مع حارس المرمى.
وكان ظاهر هذا التعديل نجاحا فوريا بعد أن ارتفع متوسط عدد الأهداف لكل مباراة؛ ليصل إلى ٣ أهداف فى الموسم التالي، لكنه جلب تغييرات كبيرة فى طريقة لعب المباراة، أدت مباشرة إلى تطوير هربرت تشابمان لطريقة «الظهير الثالث». أو خطة «دبليو إم»، وكانت تلك الخطة التى تم تبنيها على نطاق واسع هى التى أدت إلى تراجع كرة القدم الإنجليزية وزيادة سلبيتها.
أكد ذلك فيلى ميسيل فى كتابه «ثورة كرة القدم»، الذى كتب كرد مروع إثر هزيمة منتخب إنجلترا على أرضه أمام المجر عام ١٩٥٣. وينبغى القول هنا أن كتابه كان يقرأ على أنه رثاء على ماض كان باليا وربما كان مثاليا، لقد أصبح شخصية بارزة لها احترامها فى الصحافة الرياضية، يكتب بصورة أساسية عن كرة القدم الإنجليزية للمطبوعات الأجنبية.
إن كتاب «ثورة كرة القدم» يعد عملا غير مألوف، فبالنسبة إليه، كان التغيير فى قاعدة التسلل إيذانا كرويا للسقوط، تلك اللحظة التى كانت الغلبة فيها للنزعة التجارية على حساب غياب البراءة، وربما كان الأمر كذلك، لكنها كانت نهاية فى غاية الرقة لما غدا اليوم وتدا عملاقا.
وكما يقول كتاب «الهرم المقلوب» فوق ما رآه ولأنه يعد شخصًا رومانسيًا فإن المديرين ضيقى الأفق لا ينظرون إلى أبعد من ميزانياتهم، ملقين باللائمة على القوانين التى جرت إخفاقات كرة القدم، دون أى اعتبار أنهم قد يكونون مذنبين لاتباع نهج خاطئ فى اللعبة، ومن ثم ساروا قدما فى طريقهم بسياسة ربما تظهر للشخص العادى أنها تنقيح طفيف فى قوانين اللعب.
وهنا عرف الانقسام طريقة أخرى ليشق الصف بين هؤلاء الذين يبحثون عن الفوز، وهؤلاء الذى يأملون فى اللعب بصورة جيدة. وفى هذه الأيام تبدو المناقشات روتينية فى الغالب، لكنها كانت فى عشرينيات القرن الماضى مفعمة بالحياة بما يكفي، حيث إن فكرة الدورى فى حد ذاتها- «الكابو». الذى أفزع برايان جلانفيل- أخذت تثير التساؤلات. فمتوسط معيار اللعب سيزداد بشكل ملحوظ إن لم تكن النتيجة هى دائما النهاية المهمة لجميع المباريات.
يقول الكتاب إن هذا الاعتراف جاء على لسان تشابمان الذى قال أيضا: «إن الخوف من الهزيمة وخسارة النقاط يقضى على ثقة اللاعبين.. وما يمكن استنتاجه أنه حين تكون الظروف مواتية، تزداد قدرة المحترفين بصورة لا يمكن تصديقها، وإذا أردنا حالا أفضل لكرة القدم، فيجب إيجاد بعض الطرق لتقليل أهمية الفوز وقيمة النقاط».
ورغم ذلك لم يعد الفوز والهزيمة مسألة متعلقة بالأخلاق كبقية الأمور. والذين يتفقون- من صميم قلوبهم- مع مقولة دانى بلانكفلاور: «إن المغالطة الكبرى فى كرة القدم أن نقول إنها لعبة تسعى إلى الفوز. هى فى الحقيقة لعبة تسعى إلى المجد.. تسعى لإنجاز العمل بشكل جميل ورائع».
لقد كان أكثر التأثيرات وضوحا للتغيير فى قانون التسلل، أنه لما أصبح المهاجمون لديهم مساحات أرحب، أصبحت اللعبة أكثر امتدادا، وبدأ التمرير القصير يفسح الطريق للكرات الطولية.

الأسطورة وكأس العالم
يتحدث مؤلف كتاب «الهرم المقلوب» عن بطولة كأس العالم التى أقيمت بالمكسيك فى عام ١٩٧٠ واصفا إياها بالأسطورة، إذ عرضت ذروة كرة القدم فى حينها: لقد مثلت فى الوجدان الشعبى مهرجانا للكرة الهجومية، وأصبح ينظر إلى الفريق البرازيلى الذى حاز اللقب «بيليه وتوستاو وجريسون وريفيلينو ورفاقهم» أنه نموذج لا يتكرر، وأنه أعظم فريق عرفه العالم. واتفق الجميع على أن أسلوب لعب البرازيل يستحيل تكراره.
وفى إطار الاستعداد للبطولة خاض الفريق البرازيلى برنامجا تدريبيا فى ناسا، وهو حدث لاحظ الجميع مغزاه المجازي، حتى صحيفة «جورنال دو برازي». المعروفة بأسلوبها الصارم نشرت فى ٢٢ يونيو ١٩٧٠ ملاحظة جريئة إلى حد الدهشة قالت فيها: انتصار البرازيل فى كرة القدم يوازى غزو الأمريكيين للقمر.
وبدت المقارنة غريبة فى بادئ الأمر، لكن كان هناك قدر من الحقيقة فى ذلك. أولا: هناك استخدام المصطلحات المجردة «نصر فى كرة القدم.. غزو للقمر». هزم الأمريكيون السوفيت فى سباق الفضاء، وهزمت البرازيل إيطاليا فى نهائى كأس العالم، ولم يتم ذكر الخصمين، وتم اعتبار الانتصارين اللذين فصل بينهما أقل من عام مجهودا عظيما ونصرا ليس على مجرد خصم تقليدى أو مادي، إنما على عناصر كونية لا بشرية، وكأن لعب كرة القدم بهذا المستوى الفاخر أصبح انتصارا للبشر أجمعين.

وكما يقول المؤلف إنه من اللافت أن اللحظات الأكثر التصاقا بالذاكرة فى كأس العالم ١٩٧٠ ليست لحظات تنافسية على الإطلاق.
خذ مثلا كرة «بيليه» الساقطة عند خط المنتصف باتجاه المرمى التشيكوسلوفاكى التى لم تسكن الشباك، واللقطة التى مر فيها ببراعة من حارس الأوروجواى لاديسلاو مازوركيفيتز ثم أخطأت كرته المرمى المفتوح على مصراعيه. وهدف كارلوس ألبرتو توريس الشهير فى المباراة النهائية الذى جاء قبل النهاية بأربع دقائق حين كانت النتيجة قد تحددت فعليا.
هذا هو فن كرة القدم بكل ما فى الكلمة من معان- هى احتفال ليس بأحداث تحدد النتائج، إنما بمقاطع من اللعب تتعدى السياق المباشر للمباريات، على الرغم من أنه لو لم تفز البرازيل بتلك البطولة، ربما تذكر كثيرون الفريق بالإسراف فى الإبهار الذى أتى بنتائج عكسية، وكون الهبوط على القمر أعظم إنجاز تكنولوجى فى القرن العشرين أو فوز البرازيل بكأس العالم ١٩٧٠ هو أكبر إنجاز رياضى هى مسألة محل نظر، لكن المؤكد كما يقول الكتاب أنه ليس هناك حدث آخر فى هذين المجالين حظى بهذا الأثر المباشر والأهمية الرمزية العالمية. وأصبحت خطوة رائد الفضاء نيل أرمسترونج على القمر وهجمة كارلوس ألبرتو العاصفة رمزين لملايين المشاهدين حول العالم.
يختتم الكتاب بمحاضرة ألقاها خبير كرة القدم روبرتو مانشينى فى بلجراد عام ٢٠٠٧، إذ قال إن التطورات المستقبلية فى كرة القدم لن تكون فى التكتيك، إنما فى الإعداد البدنى للاعبين، وقد تكون وجهة نظره صحيحة إلى حد ما، لأن كرة القدم أصبحت لعبة ناضجة وتم اختبارها القرن وتحليلها بشكل مستمر على مدار قرن ونصف تقريبًا.