السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أميرة في أرض الذهب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا أخفى تحيزى لأبناء أكاديمية الفنون، فهى بيتى الذى عشت وتعلمت فيه منذ العاشرة من عمرى، وأعلم قدر الجهد والتدريب وساعات الدراسة التى يقضيها أبناء هذا الكيان العريق، وخاصة الكونسرفتوار والباليه واللذان تبدأ الدراسة فيهما منذ المرحلة الابتدائية، فتسرق التدريبات والبروفات وساعات التعليم الطويلة للتخصص الفنى - بجانب الدراسة العادية - طفولة صغارها، الذين يفاجأون فى غفلة من الزمن بانقضاء مرحلة الطفولة وهم منشغلون بالدراسة والتدريب الذى يستغرق كل اليوم دون أن ينتهى!!.
وبالطبع كأى مدرسة يختار بعض الطلاب بعد الانتهاء من المرحلة الثانوية والحصول على الدبلوم (فى الموسيقى أو البالية) الانتقال إلى كلية أخرى دون استكمال مرحلة البكالوريوس وما يليها، ولكن يظل تأثير الأكاديمية على أبنائها، والتى تزرع فيهم حب الفنون وتنميتها فيهم منذ نعومة أظافرهم، وتصبغ نفوسهم بخليط من أرقى الفنون العالمية التى لا يمكن محو أثرها، فتختلف نظرتهم عن غيرهم فى كل ما يشاهدونه حولهم.. لذلك أسعد بشدة بنجاح أبناء الأكاديمية سواء ظلوا فيها أو ابتعدوا عنها.
وقد فوجئت منذ شهور بإحدى زميلات الفصل فى الكونسرفتوار، والتى انقطعت أخبارها لفترة طويلة، واتضح أنها اختارت مجال إبداعى آخر، حيث تركت آلات الإيقاع لتلتحق بكلية الإعلام بجامعة القاهرة.. وبعد تخرجها وتنقلها بين العديد من القنوات التليفزيونية، وعملها فى مجال القصص الإخبارية والمونتاج، قررت أن تكون نقطة إنطلاقها فى عالم الإخراج من منطقة «المُغرة» النائية.. فأخرجت فيلمها الأول الذى أسمته «أرض المُغرة».. وهو فيلم وثائقى عن «واحة المُغرة» التى تقع فى صحراء مصر الغربية، جنوب مدينة العلمين، على بعد 40 كم جنوب مدينة الحمام.. ولكن رغم تحيزى الذى لا أنكره لصديقتى، إلا أن ما دفعنى للكتابة هو ما رأيته فى فيلمها من قصص ملهمة مفعمة بالطاقة الإيجابية، لنجاح شباب مصرى مبتكر وجرئ ونشيط، استطاع أن يحلم ويخطط وينفذ رغم الإحباطات والصراعات والحرائق التى كانت تشتعل فى مصر عام 2012.. ففى الوقت الذى أصبحنا نعانى فيه من سيطرة القيم الاستهلاكية على حياتنا، وغلبة الاستسهال، والطاقات المهدرة على صفحات التواصل الاجتماعى ليل نهار دون عمل حقيقى أو إنجاز فعلى، انتقلت بنا المخرجة أميرة الفقى إلى عالم آخر، ليس به سوى أمل وعمل ونشاط وتخطيط وإنجاز..فأخذتنا فى رحلة شيقة، رصدت فيها بعينيها المبدعة، تجربة شباب مصرى قرر أن يتحدى ويحقق حلمه رغم قسوة الظروف، فاستطاعوا بحماسهم وإصرارهم وعملهم خلال 4 سنوات، أن يحولوا المنطقة الصحراوية غير المأهولة بالسكان، ذات الطبيعة الجغرافية القاسية، والتى لم تكن موضوعة ضمن خطط أى من الوزارات المعنية، إلى أرض للذهب الأخضر!!.. وهو الاسم الذى يطلق على نبات «الجوجوبا» الصحراوى الذى يتميز بقيمته الاقتصادية الكبيرة، حيث يحتوى على (40-60%) من وزنه زيتًا نقيًا يشبه فى مواصفاته زيت كبد الحوت ويمكن أن يحل محله فى كثير من الصناعات.. ويستخدم فى صناعة مستحضرات التجميل والأدوية وزيوت المحركات الثقيلة والسيارات، وبالتالى يصلح كوقود حيوى لا يلوث البيئة كالبنزين العادى.. حيث يعتبر من النباتات المكافحة للتلوث.. وتستخدم بذوره بعد عصرها كأعلاف غنية بالبروتين للمواشي.. وهو يتحمل الظروف والأجواء المتطرفة وملوحة التربة العالية، ويتميز باحتياجه القليل للماء..وهناك طلب عالمي كبير على زيت الجوجوبا، حيث يغطى الإنتاج العالمى ٥٪ فقط من حجم الطلب، وبالتالى فزراعته تمثل فرصة استثمارية كبيرة.. وفى حين يبلغ برميل البترول 50 دولارًا، فإن برميل زيت الجوجوبا يبلغ 3600 دولار!!.
هؤلاء الشباب تغلبوا على العواصف والرياح والسيول التى كانت تعصف بما زرعوه، فلم ييأسوا أو يستسلموا وأقاموا مصدات صناعية وطبيعية.. وتمكنوا من زراعة 6 ملايين شجرة ببنية تحتية متكاملة..وأنشأوا 20 وحدة طاقة شمسية، استطاعوا بها استخراج المياه الجوفية، والرى، وإنارة المنشآت.. وأصبحوا أكبر مشروع يدار بالطاقة الشمسية فى الشرق الأوسط.. ووفروا فرص عمل لحوالى400 فنى ومهندس وعامل - متوسط أعمارهم 30 سنة - جاءوا بأسرهم، حتى وصلوا الآن لحوالى 600 أسرة.. فأنشأوا مجتمعًا متكاملًا به (مسجد - وملعب كرة قدم - ومطعم - ومخبز - وقاعة مؤتمرات - وسوبر ماركت - ووحدة تحلية مياه للشرب - وأكثر من 50 استراحة للعمال والمهندسين - ومزارع سمكية - وشبكات طرق - وآبار)..ولم يكتف هؤلاء الشباب بإنتاج البذور وتصديرها، بل أقاموا مصنعًا لإنتاج زيوتها وتصنيعها، لزیادة القیمة المضافة، وزیادة العائد من التصدیر.. وبدأوا فى استنباط أصناف وسلالات من الجوجوبا.
ومن المهم الإشارة إلى دور الدولة التى بادرت بتقنين أوضاعهم، بعد صدور قرارات إزالة بالتعديات على الأراضى، عقب ضم المنطقة للمليون ونصف فدان المقرر استصلاحها.. وهو ما أسعد أصحاب المشروع الذين أكدوا أن الدولة قامت بفرز الطيب من الخبيث..والغريب أن «المغرة» رغم تجاهلها وعدم وضعها ضمن خطط الدولة لسنوات طويلة، إلا أن محمد على باشا أمر بحفر خمسة آبار فيها عام 1840.. وهو ما يشير إلى فهم الجدوى الاقتصادية لهذه المنطقة آنذاك!!.. ولكن ما يهمنا الآن هو أن «المغرة» تحولت بسواعد شباب مصرى آمن بحلمه وملك الإرادة والطاقة والحماس إلى أرض خير وعطاء ونماء.. فأثبتوا بتجربتهم أن الظروف ليست عائقًا إلا للبليد، الذى يعلق فشله وإخفاقه عليها، وأن الكفاح هو طريق النجاح..فمصر ليست غنية فقط بطبيعتها وحضارتها، بل أغنى بشبابها وعقول وإرادة أبنائها..إذا أرادوا!!