السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

الجماعة الإسلامية بمصر وتجارب التحوّل عن المراجعات

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
منذ نشأة الجماعة الإسلامية فى السبعينيات من القرن المنصرم، وحتى إطلاقها لمبادرة وقف العنف عام 1997، مثلت رقمًا صعبًا فى عمليات العنف الممنهج على الأرض، عسكراتيًّا، وكذلك أيديولوجيًّا، لأنها الوحيدة بمصر، التى نظّرت للعنف الإسلامى فى أبحاث وكتب مرتبة، أدت فى النهاية إلى وحدة فكرية منهجية لدى كل أعضائها، وأصابت عدواها جماعة الجهاد الإسلامى المصرية، التى كان يقودها سيد إمام الشريف، وأيمن الظواهري، فحاكتها فى أبحاث وكتب مماثلة، أصبحت مرجعية لجماعات أخرى فى العالم، مثل الجماعة الإسلامية الجزائرية المسلحة (جيا)، حتى جاءت اللحظة الفارقة، التى أعلنت فيها عن مراجعات وتصحيح لكل مفاهيمها، وأيضًا قامت بتدوينها فى كتب أخرى، لتكون بذلك الجماعة الأولى، التى تنقلب بشكل كامل على ما أدلجته من قبل. وهذا ما حاكته جماعات أخرى فيما بعد مثل الجماعة الليبية المقاتلة، لكن الحادث الفارق هو قيام الثورة المصرية، التى أدت إلى تحولات أخرى جديدة فى هذه الجماعة، وهو الانقلاب الناعم على قيادات المراجعات الفكرية، وصعود صقور التنظيم، حيث تحالفوا مع جماعة الإخوان، فشهدت الجماعة انقسامًا وهيكلة، ولاقت تحديات العمل فى بيئة جديدة، اختلفت تمامًا عن بيئة الضغط والحصار، كما عاشت مرحلة أخرى فرضت جيلًا جديدًا على الأرض، ومتطلبات أخرى فى أطر التعامل والتحالفات، وهنا حدثت تلك التحولات التى أصابت الجماعة، وأثّرت على الأسس المفاهيمية لها.

١- فقه الصائل يقود الجماعة
كانت فكرة الجهاد لدى الجماعة غريبة الشكل، إذ تعتقد أن الدولة مسلمة، لكن قتالها واجب، وهذا ما جرى بالضبط من استهداف مراكز الشرطة، وحوادث الاغتيالات للشخصيات المهمة، ثم حدثت بوادر التطور الفكرى عقب مبادرة وقف العنف، منذ إطلاقها عام ١٩٩٧، وحتى تفعيلها رسميًّا عام ٢٠٠١، بالسؤال الذى يقول: هل الحاكم الذى لا يحكم بما أنزل الله يعذر بالجهل أم لا؟. 
فى أفغانستان طرحت مسائل كثيرة، على يد رفاعى طه، وطلعت ياسين، الذى يقود الجناح العسكرى فى الداخل المصري، والأول هو الذى عقد الصفقة بعد ذلك مع أيمن الظواهرى وابن لادن، وانضم إلى جبهة محاربة اليهود والمسيحيين، ثم انسحب منها بأوامر من قيادات ليمان طرة الذين كانوا قد قرروا فى هذا الوقت اختيار طريق آخر وهو وقف العنف. 
وبسبب مسألة إمارة الأسير وكراهيتها، وولاية الضرير وحرمتها التى أثارها أعضاء جماعة الجهاد فى بدايات عام ٨٢، أصبحت الولاية الكاملة لرفاعى طه، وطلعت فؤاد قاسم، ومحمد شوقى الإسلامبولي، ومصطفى حمزة. 
واستعجلت الجماعة الصدام مع الحكومة المصرية، واستندت لفقه دفع الصائل، لكن الغريب أن القتال لم يكن بهذا الفقه، لكنه كان خليطًا من استراتيجية وأيديولوجية جماعة الجهاد التى لا تعذر بالجهل، وفقه الطائفة الممتنعة، والدليل على ذلك أن من يحملون السلاح ويقاتلون الحكومة من الجماعة كانوا يُرجعون أموال القتيل، الذى يقتلونه، لأهله، ويقولون إن ذلك لا يجوز!
بالنظر للأدبيات التى كانت تستند إليها الجماعة، فإن كتاب «الفريضة الغائبة» لمحمد عبدالسلام فرج، يمثل الأيديولوجية الحقيقية للجماعة قبل أن تصبح لها أبحاث ومؤلفات، حيث طُرح فيه مبدأ إغفال الجهاد، وحدد فرج فيه حكم الدار، وقال إن مصر دار كفر، استرشادًا بفتوى لابن تيمية فى الفتاوى الكبرى. 
كما ذكر عبدالسلام أن الخروج على الطائفة التى امتنعت عن الشريعة الإسلامية واجب، والاستراتيجية للخروج على الحاكم تتحدد وفق ذلك بمعيارين هما؛ تحديد العدو القريب والعدو البعيد، وأن القتال فرض، يقول فرج: «إن هناك من يقول إن ميدان الجهاد اليوم هو تحرير القدس كأرض مقدسة، والحقيقة أن تحرير الأراضى المقدسة أمر شرعى واجب على كل مسلم، لكن يجب توضيح أن قتال العدو القريب أولى من قتال العدو البعيد»، وهو يقصد بالطبع الحكام. 
لقد كان كتاب «الفريضة الغائبة»، وكتابات سيد قطب هما الأساس لأغلب كتيبات الجماعة، التى بررت فقهيًّا لكل الأعمال التى قامت بها الجماعة بعد ذلك، وهى مكتوبة بخط اليد فى سجن ليمان طرة. يقول عصام دربالة: إنهم كانوا يتوقعون الحكم بالإعدام، لذا كانوا يذهبون إلى نيابة أمن الدولة، وفى أثناء التحقيقات كانوا يملون كاتب النيابة «ميثاق العمل الإسلامي» فى ردهم على السؤال حول أهم أفكارهم، وكان ذلك هو الوسيلة الوحيدة لكتابة هذا الكتاب فى هذا الوقت. 
تقدمت الجماعة بعد الحكم على قيادتها بالسجن بعدة أبحاث أهمها: ميثاق العمل الإسلامى - أصناف الحكام وأحكامهم - بحث قتال الطائفة الممتنعة عن شرائع الإسلام - حتمية المواجهة - مرافعة عمر عبدالرحمن فى المحكمة والتى نشرت فى كتاب «كلمة حق». 

٢- الوحدة الفكرية للجماعة قبل المبادرة
أعلنت الجماعة الإسلامية ما يسمى الجهاد من خارج مصر، ودفع الصائل داخلها، وفى الغالب ترك مقاتلوها الأيديولوجية، وكانوا يقاتلون بدون أية مشروعية فى سفك الدماء، بسبب تأثرهم بابن لادن، وما جرى فى أفغانستان. 
فى عام ٩٣ قال نزيه نصحي، القيادى بجماعة الجهاد، إنه سيسحب البساط من تحت أقدام الجماعة الإسلامية، وحاول اغتيال عاطف صدقي، رئيس الوزراء الأسبق، ولم يمر سوى شهر حتى قُتل «نصحى»، ودفع الظواهرى بعادل صيام من أفغانستان، الذى حاول اغتيال وزير الداخلية، وقام بعدة عمليات انتهت بقتله لنفسه قبل أن يقبض عليه، وتم القبض على تنظيم طلائع الفتح التابع للظواهري، ومن ثم أعلن الجهاد الإسلامى فى عام ١٩٩٥ وقف عملياتهم فى مصر، لعدم القدرة. 
كانت استراتيجية جماعة الجهاد قائمة على فكرة استثمار الموت، بمعنى أننى إذ لم أحقق الهدف سأحقق الغاية، وكانت هى التى تعنى لديهم «الجنة»، وأما استراتيجية الجماعة الإسلامية فكانت قائمة على الموقف، فكانت تقتل بالظن، وبالبطاقة الشخصية، مثلما فعلت فى قرية الروضة التابعة لمدينة ملوي، بمحافظة المنيا، إذ أقدمت على قتل كل من يحمل بطاقة شرطي. 
فى يوم ٢٢/١٠/١٩٩٠ قتل رئيس مجلس الشعب الدكتور رفعت المحجوب، وبعد ١٠٠ جلسة انتهت المحكمة إلى قرارها فى ١٠ يونيو ١٩٩٣ ببراءة ١٧ متهمًا، وسجن عشرة من ٣ إلى ١٥ سنة، وكان منهم صفوت أحمد عبدالغني، الذى أودع سجن العقرب، فأصدر أوامره منه باغتيال المفكر فرج فودة، وفى مساء أحد أيام شهر يونيو ١٩٩٢، أقدم شابان على اغتياله، أثناء خروجه من مكتبه بمدينة نصر، وكانت جبهة علماء الأزهر بقيادة الدكتور عبدالعزيز عبدالغفار، قد هاجمت فودة، كما أن المناظرة التى جرت بين فودة والهضيبى والشيخ صلاح أبوإسماعيل، أحدثت دويًا هائلًا، تسببت فى تحفيز الجماعة على اغتيال الرجل. 
بعد هذه الحوادث، توالت اغتيالات الجماعة لأفراد من الشرطة والجيش، وشخصيات من الحكومة، ومحاولة اغتيال رئيس الدولة، أكثر من ١٣ محاولة، كانت إحداها فى أديس بابا، وضرب السياحة المصرية والبنوك.. إلخ.

٣- أصداء التحول الأكبر
فى سجن المنيا العمومي، تحدث عصام الدين دربالة، أحد القيادات التاريخيين المؤسسين للجماعة، وقال: تُظهر مسألة «أين كنا» أمورًا متفقا عليها داخل الجماعة، مثل: 
١- مسألة الحاكمية، حيث يحتمل الأمر الرأيين حسب حال الحاكم، وما يحكم به، والاستبدال وتطبيق القوانين، وبناءً على ذلك يجمعنا جميعًا أن الجهاد لا يجوز أن يتحقق فى مصر، لعدم وجود شروط وانتفاء موانع. 
٢- ميثاق العمل الإسلامى بنوده غير قابلة للتبديل أو التغيير، لأنها كليات فى الدين، وأقصى ما يقال إن هدف إقامة الخلافة مثلًا لا نستطيع الوصول إليه. 
٣- الأمور الخاصة بالجهاد كانت تسقط على واقع مصر، وكانت تحدث أخطاء بسبب هذا الأمر، والأهداف التى لا نستطيع القيام بها الآن لن تحذف أو تغير، وإن كنا لا نستطيع القيام به لأن القدرة مناط التكليف. 
٤- العمل الجماعي، وهو أمر مهم، حتى نستطيع أن نصل إلى ما نقوم به من إقامة الدين، أما المسائل التى فيها تنزيل على الواقع الذى يتغير، فلا بد أن ننظر للواقع المتغير، لأن الأحكام تتغير بتغير الواقع.. ومن يسأل إلى ماذا ندعو؟!.. ندعو إلى هذه الكليات، وإن كنا نختلف فى بعض الشروح، إلا أن الأصول المحكمة ثابتة. 
ما سبق يشير إلى بدء مناقشات حول مسائل لم تكن تطرح من قبل، والمناقشات شملت أمورًا فى عرف عناصر الجماعة كبيرة، مثل الحاكمية، وعذر الحاكم بالجهل، ومسائل صغيرة، كمشاهدة التلفاز، وهى مسائل رغم صغرها لم يكن أحد يمتلك شجاعة طرحها. 
فى أكبر سجن وهو الوادى الجديد بدأت ندوات المبادرة، واستمرت ١٠ شهور انتهت بسجن دمنهور، ينقل الخروج: «الشيخ كرم قائد الجماعة، بعد أن حمد الله وأثنى عليه قائلًا: أقسم بالله العلى العظيم إننى أقول هذا الكلام ليس رهبة ولاخوفًا من هؤلاء (أشار للضباط)، لكنه اتقاء مرضاة الله سبحانه.. إن ما فعلناه كان خطأً وما حدث كان فتنة». 
الشيخ ناجح إبراهيم قال: «أطلقنا المبادرة حقنًا لدمائكم والدماء عمومًا فى مصر.. أطلقناها حفاظًا على الأنفس أن تهلك فى غير ميدان، أو أن تقتل دون مصلحة شرعية صحيحة أو هدف شرعي».
عصام دربالة وعاصم عبدالماجد قالا: إن الذين خرجوا فى الأعمال القتالية كانوا مجتهدين فى الوصول للحق وبذلوا الوسع، وكانوا صادقى النية، وإن العمل الجماعى غير واجب، والدائرة الأساسية هى الدعوة إلى الله تعالى، وأنه تم حل الجناح العسكرى للجماعة. 
وتبين مما قالوا أن الخلل ما زال قائمًا، حيث تحدثوا لأول مرة، أن الديمقراطية فيها ما هو صالح، وليس كلها شر، لكن هناك جانب تشريع البشر الذى لا تطلقه الشريعة، إلا إذا بنى على تشريع الله، كما أن الدين أوسع وأشمل من أن تستوعبه هذه الوسيلة فى الدعوة، وشرعية وجود الإنسان فى هذه المجالس لا بد وأن تبنى على ارتباطه برسالته الأصلية وهى حمل أمانة الدين. 
أما عن الحسبة، التى كانت تتميز بها الجماعة، حيث كانت تقوم بدور الشرطة فى مناطق واسعة بجنوب مصر، فإنهم قالوا إنه لا يستطيع أحد أن يلغى الحسبة، ولا الجهاد فى سبيل لله، لكن ذلك سيكون بضوابط، حيث إن المنكرات على قسمين، ما اتفق المجتمع على رفضه، وأنشأ له مؤسسات تتصدى له، فالشرطة هى من تقوم بذلك، أما المنكرات التى انتشرت فى المجتمع فإن التصدى لها سيحدث التصادم والمفاسد. 
أصدرت الجماعة كتبًا أربعة، وأجبروا جميع المعتقلين من القواعد، على حضور دروس استماع لها، وكان منها (الأدلة الشرعية لمبادرة وقف الأعمال القتالية)، و(النصح والتبيين فى تصحيح مفاهيم المحتسبين)، و(حرمة الغلو فى الدين وتكفير المسلمين)، و(تسليط الأضواء على ما وقع فى الجهاد من أخطاء). 

٤- الانقلاب على التحولات
عقب ثورة ٢٥ يناير، واجهت الجماعة الإسلامية تحديات العمل فى بيئة جديدة تختلف تمامًا عن بيئة الضغط والحصار، ما فرض عليها متطلبات جديدة فى أطر التعامل والتحالفات، وفى الخطاب المختلف عن الخطابات التعبوية العنيفة فى الماضي، وخطابات ما بعد مبادرة تصحيح المفاهيم، التى اختزلت فى تخطي الماضى دون رؤية واضحة للمستقبل، وفى الدوران فى سياق الظروف التاريخية ومراجعاتها، والقضايا التصحيحية لأفراد الجماعة. 
أصدر موقع الجماعة الإسلامية، الذى كان يشرف عليه، ناجح إبراهيم، بيانًا أثناء «الثورة»، بعنوان (ارحموا عزيز قومٍ ذل)، داعيًا لعدم خلع حسنى مبارك من الحكم، وعقب تنحى مبارك، خطط صقور التنظيم لعزل كرم زهدي، وناجح إبراهيم، وباقى القيادة التاريخية للجماعة، الذين كانوا لا يزالون محجوبين خلف موقعهم على الإنترنت. 
كرم زهدي، أمير الجماعة فى هذا الوقت، وفريق القيادات الذين معه، نجحوا إلى حد بعيد فى تجاوز ثقافتهم العنيفة السائدة، وطرحوا خطابًا جديدًا ليس فيه الحرب على السلطة، لكن أعضاءهم نشأوا على التفاعل مع المجتمع، وكان دورهم فى المساجد والزوايا، فلم يتدربوا إجمالًا على أن يكونوا فى المنفى ووراء جهاز كمبيوتر، وكان الأمل المأمول هو العودة للمساجد، التى كانوا ممنوعين عنها بأوامر أمنية، وهذا ما حدث على عجل بعد نجاح الثورة. 
بدأ خطاب الجماعة ما قبل الثورة، أشبه بحديث النفس وتخطي الماضي، كأنه موجه إلى فئة شباب الجماعة، أو إلى النظام والمراقبين الآخرين، من أجل إعطاء تطمينات يمكن أن تمكنها من مساحة أكبر للعمل، مع الاعتراف إلى حد كبير بأن خلافات فى وجهات نظر قد حدثت حول بعض الأمور التى هى ليست جوهرية فى المقام الأول كحكم الإسلام فى الغناء، أو مبادرة السلام مع إسرائيل، أو المقالات التى كانت عن الفترة الناصرية.. إلخ، ولم يكن ذلك عبارة عن تنوع فى الأفكار بقدر ما هو نقلة وأسلوب جديد فى التعاطى مع تنوعات الظروف المحيطة بها، وأفكار من حولها. 
كان أهم ما يوجه قبل الثورة إلى الجماعة هو غياب البرنامج السياسى التفصيلي، رغم أنها ربما أدركت بقراءتها للواقع السياسى وقتها أنه لا يحمل أى أفق قريب للسماح لها قانونيًّا بالعمل العام، وكان هذا هو الخطر الحقيقى الذى أدى إلى انتكاسة عدد غير قليل، تصور أن تلك المراجعات والآراء إنما تعبر عن خيانة الزعيم أو عدم صدقه، ولم ينظر على أنها تطور بالحسابات التقليدية لفكر القائد ودليل على نضجه، كما أنها عكست الفشل الحالى بعد الثورة فى الجاهزية بالعمل والهيكلة، وهذا ما تبين أثره بعد ذلك فى الصراع الذى دار بين قيادات الصف الأول، وإقالة صفوت عبدالغني، ووقف عصام دربالة، لحين التحقيق معه. ظهر أن ما فوق السطح يختلف عما يجرى بداخله، وأن هناك صراعًا قائمًا حول تفصيلات المبادرة، وإن كان الجميع أقرّ بوقف العنف، وأن صراعًا على هذه التطبيقات يجرى، قاده فريق كبير بقيادة طارق الزمر ومعه صلاح هاشم المؤسس الرئيسى للجماعة، والفريق الآخر الذى يقوده جناح كرم وناجح وفؤاد الدواليبي، «فمنذ أن دخل كرم زهدى وناجح إبراهيم ووراءهما قيادات الجماعة من باب مستشفى سجن الوادى الجديد، إلى فناء السجن وبرفقتهم ضباط كبار من أمن الدولة المصرية، كان يتضح تمامًا حرص قيادات الجماعة على إظهار وحدتهم وأنهم صف واحد ولا يوجد بينهم أى اختلاف فى هذا القرار المصيري». 
والحقيقة أن الخلافات ظهرت فى كواليس مستشفى السجن الذى يقيمون به بين القائد على الشريف وعصام دربالة، وبعض قيادات الصف الثانى بالجماعة، وفى نهاية ندوات تصحيح المفاهيم صدرت بعض القرارات ومنها عزل «محمد يحيي» وهو الذى كان فى فترة التسعينيات مساعدًا لعلاء محيى الدين المتحدث الرسمى للجماعة، كما صدر قرار بإبعاد «علاء صديق» أحد قيادات الجماعة بسوهاج عن إمارة الجماعة بسجن الوادى الجديد، ثم تسكين «د. أحمد عبده سليم» أمير الجماعة بأسيوط المعقل الكبير والمركز الرئيسى للجماعة بمستشفى السجن دون تكليف واضح. 

٥- الخروج عن الخط الإصلاحى 
كانت الجماعة منذ بداية نشأتها وإلى ما بعد «٢٥ يناير» لا تعانى من أى انقسام، وظل هذا الوضع من إكبار القادة التاريخيين إلى السنين الأخيرة التى حدث فيها انقطاع جيلي، بين الشباب والقيادة التاريخية المنقسمة، فضلًا عن خيبة القيادة وأخطائها الفادحة التى أودت بعناصر الجماعة إلى سنين طوال من العنف مع الدولة، وكل ذلك جعل هناك انقلابات تجرى تحت السطح قادها أحد القيادات التاريخية، وأحد المنظرين الفكريين لها، عصام دربالة، الذى أوقف للتحقيق معه من قبل مجلس شورى الجماعة، كما تم فصل أحد أتباعه، وهو صفوت عبدالغني، بقرار رسمى أعلنته الجماعة على موقعها. 
رفض القرار عبود الزمر، وأفراد كثيرون، وأعلنوا عن عقد جمعية عمومية لاختيار قادة جدد، رغم أن هذا معناه أن أفرادًا مسجلين بطريقة رسمية بعدد معين وفق القانون الأساسى للتنظيم، وهذا لم يحصل لأن الجماعة لم يكن لها مشروعية قانونية فى يوم من الأيام، ولم يكن لها قانون أساسي، وليس بها أعضاء مسجلون بطريقة فعلية، لذا فإن ما تم فيما بعد لم يكن سوى انقلاب على كرم زهدى وناجح إبراهيم، بطريقة جديدة فهماها معًا، لذا قدما استقالتهما من جميع المناصب الإدارية، وقالا إننا سنتفرغ للدعوة!. 
انقسمت الجماعة عقب ٢٥ يناير مباشرة كالتالي: مجموعة القاهرة بقيادة سامح الشحات، ومحمد إبراهيم، والشيخ عدلي، ومحمد بكري، وهذه المجموعة سعت لتكوين جمعية إسلامية خاصة، ولا تزال تقف على خط وسط بين جميع الاتجاهات، معلنة دعمها الكامل للإخوان، وترى على لسان أحد قياداتها وهو الشيخ عدلى أنها أقرب لتصورات عصام دربالة، وعاصم عبدالماجد، ومجموعة الإسكندرية والمنصورة ودمياط والمنيا والتى تقف بوضوح مع كرم وناجح، ومجموعة سوهاج وأسيوط بقيادة عبدالآخر حماد وصلاح هاشم، التى وقفت موقفًا وسطًا بين الجميع. 
كان من الواضح أن الجماعة يتنازعها نهجان، الأول هو التغيير الإصلاحى التحتى فى قواعد المجتمع، والآخر الفوقي، الذى يريد أن يصل للسلطة من أجل التغيير، لكن الأخير هو من انتصر فى النهاية، وأعلن عن فوز عصام دربالة بقيادة الجماعة. 
كان فى هذه الآونة «الثورة المصرية» تغير كل شيء، وتدفع الجماعة لأخذ مواقف متعجلة وسريعة، لو خيرت فيها من قبل ما أقدمت عليها مطلقًا، ومنها: العودة لمساجدها القديمة التى أممتها الأوقاف، التحالف مع جماعة الإخوان، التنسيق مع حزب النور السلفى فى الانتخابات البرلمانية. 
ويقول الباحث هشام النجار: «انحازت الجماعة للإخوان بشكل كامل لما وصلت للحكم، وحين تم عزلها منه، انخرطت معها فى العنف والمواجهة مع السلطة الجديدة»، ويضيف النجار: توقفت «الجماعة الإسلامية» مع الإخوان فى مواجهة الدولة، ودعمت خياراتها، حتى بعد انخراط الإخوان فى عنف واضح، وتشكيل مجموعات سرية مسلحة، بالرغم من قرب عهدها بمراجعات فكرية، ومبادرة لوقف العنف فى أواخر عهد مبارك، وهذا يعود فى الأساس إلى أن قرار الإخوان بالتوقف عن العنف فى الستينيات، وبعدها قرار الجماعة الإسلامية بالتوقف عن العنف فى التسعينيات من القرن الماضي، لم يكونا وفق مراجعات شاملة، ورؤى منهجية استراتيجية ثابتة دائمة، إنما كانا فى جزء كبير منهما، موقفًا تكتيكيًا وكمونًا مرحليًّا لالتقاط الأنفاس، واستعادة القوة، وبناء التنظيم من جديد، وطالما لا تمتلك الجماعة منهجية استراتيجية دائمة، وراسخة للتعامل مع الدولة، ولطبيعة دورها المجتمعي، مهما كانت الظروف، فعودة الجماعة بقيادتها الحالية من جديد للصدام غير مستبعدة، إذا شعرت ببعض القوة إلى تمكنها من التماسك أمام المؤسسة الأمنية.
خرج الإصلاحيون من الجماعة، وسيطر الصقور على التنظيم بالكامل، لذا بدأنا نرى ولأول مرة التباين بين الفريقين، وبينما انتقد زهدى ورفاقه اغتيال الرئيس المصرى الأسبق محمد أنور السادات، أبدى قادة الجماعة الإسلامية الحاليين فخرهم بعملية الاغتيال. 
رأى قيادات الجماعة الإسلامية الحاليين أن المرحلة تستوجب مؤازرة الإخوان بكل ما يلزم، تحقيقًا لذلك المقصد، وكانت هذه الإشكالية هى أهم وأخطر نقاط الخلاف، فهناك من أكد فلسفة المبادرة الاستراتيجية الحاكمة ودورها المستدام المستقبلى المنضبط أداءً وخطابًا فى سياقه الدعوى والفكرى والاجتماعي، مع إلزام الجماعة منهجيًا بعلاقة استراتيجية تكاملية مع الدولة ومؤسساتها ومع الحكام، وهناك فريق آخر رفض إجراء أى تطوير منهجى وفكرى لقضية «الحاكمية»، حيث ترى أن السلطة وستظل هى مناط التغيير الحقيقي. 
نتيجة موقف القيادات الحالية للجماعة الإسلامية من قضية «الحاكمية»، واعتناقهم نهج التغيير الفوقي، بزعم أن «المشروع الإسلامي» لن يتحقق إلا بوصول الحركة الإسلامية إلى السلطة، ظهر هذا التناقض الواضح بين ما تعهدوا به فى كتب المبادرة، والممارسة العملية، عند أول اختبار عملى للمصالحة مع الدولة، فعاد من جديد الاستخفاف بالدماء، وعادت نزعة الانتقام والكراهية فى مواجهة مؤسسات الدولة.


٦- الأزمة الفوقية والتحتية
عقب سيطرة جناح الصقور على الجماعة وحزبها، أصبح الحديث عن قتلى الجماعة فى التسعينيات ظاهرة شملت كل محافظات مصر، فأغلب العناصر وضعوا صور القتلى، متفاخرين بهم، وصاغوا قصصًا طويلة، وأحيانًا غريبة عن موتهم، على سبيل المثال (علاء رجب)، و(أبوالعابدين ناصر الشريف) وغيرهما، من قيادات الجماعة بمحافظة أسيوط، كانوا لا يكفون عن الحديث عن قتلى الصدام المسلح، ما دفع القيادى عصمت الصاوي، ليكتب: «إذا كان للجماعة شهداء، فللدولة شهداؤها أيضًا، وهذا ليس وقته، وأبناء الوطن الواحد لا غالب ولا مغلوب بينهم، وما أفهمه أن المبادرة لا غالب ولا مغلوب فيها، والإنصاف يقتضى أننا إذا تحدثنا عن سلبيات التسعينيات، أن نتحدث عن إيجابيات ما بعد المبادرة». 
ورد المتحدث الإعلامي، محمد حسان على الصاوى قائلًا: «فلتبرأ إلى الله مما كتبت، كيف تقارن بين شهداء الجماعة الذين قتلوا فى سبيل الله، وبين من تعدى عليهم، وثانيًا المواجهة كانت باجتهاد والمبادرة أيضًا باجتهاد!»، كما رد خالد أبوطالب أيضًا، قائلًا: «الأخ عصمت ما هو تعريف الشهيد عندك؟ هل تعتبر أن من حارب الدين وأغلق المساجد من الشرطة شهيد؟!». 
اتضح من هذا الحوار أن أزمة الجماعة ليست من القيادات لكنها من أسفل، أى فى القواعد، وعموم الأفراد، ولعل أزمة السبعينيات والثمانينيات، كانت بسبب أن القيادات كانوا من جيل الشباب، وكانت قراراتهم غير مدروسة، ومنها اغتيال السادات، وأحداث أسيوط، وهو ما اعترفوا به، أما التسعينيات فبسبب سيطرة تلاميذهم المتحمسين على الجماعة، واعتناقهم أيديولوجية الصدام، وتغيير النظام والسلطة من أعلى وليس من أسفل، أما أزمة ما بعد عزل الإخوان، فهى أزمة شاملة، السبب فيها هو عدم وجود مراكز دراسات استراتيجية داخل الجماعة، فضلًا عن جهل الأفراد بالعلوم السياسية، وعدم إجادة الجماعة التعامل مع الإعلام مطلقًا، والأهم هو خلل الرؤية، فقد كانت هناك رؤية قبل المبادرة، ترى علنية الدعوة وسرية التنظيم، والاستعلاء على المجتمع، ثم القفز على السلطة للتغيير الفوقى لكل الدولة، وبعد المبادرة تغيرت الرؤية فأصبحت انكفاء التنظيم على ذاته، ومحاولة إنقاذ أفراده بأى ثمن، ثم الانفتاح على المجتمع، وجعل الدعوة هى اتجاه فكرى عام، والتغيير الاجتماعى للدولة من أسفل القاع، وليس من قمة السلطة للدولة، وعقب ثورة ٢٥ يناير وإقالة كرم وناجح أو استقالتهما، أصبح داخل الجماعة رؤيتان، الرؤية القديمة، والرؤية الحديثة، لكن الفريقين آمنا ببقاء الجماعة، ووجوب العمل الجماعي، وتجاوز مرحلة ناجح وكرم، والاستفادة من المرحلة الإخوانية واعتبارها فرصة غير مسبوقة، وإلى حد ما كانت الجماعة فترة حكم الإخوان مواقفها متسقة عن غيرها من التيارات السلفية المتنوعة، رغم وجود بعض الأخطاء. 
فى العام الذى تلا سقوط الإخوان، وجدت الجماعة ذاتها فى مأزق شديد، فقد تورطت بالفعل، وأصبح جزء من قياداتها هاربًا لخارج البلاد، وآخر داخل السجون، كما أصبح الباقون تحت عين الرصد، وكانت مشكلة الهاربين هى الأدهى، فقد كانوا لا يستطيعون الانفصال مطلقًا عن الإخوان فى الخارج، لظروف متنوعة، وكانوا لا يستطيعون تغيير خطابهم، وإلا جرفهم سيل المتعاطفين مع الإخوان، واتهموا بالخيانة والنفاق، لذا فقد انتهجت الجماعة سياسة المناورة، فهى ما بين الدولة والإخوان، أى فى المنتصف داخل مصر، ومع الإخوان قلبًا وقالبًا خارج مصر، وكانت استراتيجيتها هى البقاء فى صدارة المشهد الإعلامى بشكل شبه يومي، وبيانات شبه يومية، ومحاولة استغلال الفراغ الإخوانى لضم عناصر جديدة على فكرة هي: (التاريخ الطويل من الصراع الدامى مع الأنظمة الطاغوتية، الجماعة الوحيدة التى ضحت بعشرات الشهداء، الجماعة الوحيدة الثورية، فشل الإخوان والسلفيين)، وكان ذلك هو خطاب الجماعة، سواء قادة أو أفرادًا طيلة الفترة السابقة. 
اتخذت الجماعة استراتيجية أيضًا جديدة، اتضحت معالمها باتخاذ العنوان الثورى سلاحًا لها (وفق القيادى الهارب طارق الزمر)، والالتفاف حول شباب الثورة، وخطاب التجميع للضغط على مصر، للحصول على بعض المكتسبات المحدودة، بعد محاولات الانسحاب الإخوانية، لتكوين جبهة مواجهة ترتكز على الرؤى الجهادية والخلفية السلفية الحركية، ترفض التنازلات التى يمكن أن يقدمها الإخوان للثوريين من أجل التوافق. 
فى هذه الآونة أيضًا كان قيادات الخارج يمارسون (اللخبطة) دون حساب دقيق، وتزداد (عشوائيتهم) حين يصرح الإخوان بأن منهجهم ليس العنف، وأن تحالفهم مع الجماعة الإسلامية هو السبب فيما جرى من أحداث مسلحة داخل مصر، وأن أفراد الجماعة الإسلامية هم المتورطون فى كل ما جرى. 
انقسمت الجماعة الإسلامية، إلى ٤ أقسام لا خامس لها، الأول منها هم قياداتها، الذين قسموا أنفسهم لفريقين، أولهما بالخارج، وهذا له خطاب لا يخلو من المواجهة والعنف، مستغلين وجودهم خارج مصر فى طرح هذا الخطاب، ومنهم ممدوح على يوسف، وإسلام الغمرى وغيرهما، وأما قيادات الداخل فلهم خطاب يمسك العصا من المنتصف، متحججين بوجودهم فى الداخل، واضطرارهم إلى ذلك، وأما القسم الثانى من الجماعة فهم من نشروا صور شهداء التسعينيات، وهم من يؤمنون بأن مبادرة وقف العنف القديمة ما هى إلا اجتهاد مضى وقته، والقسم الثالث، هم الذين ما زالوا متمسكين بالمبادرة لكن رأيهم لا يؤخذ به، وليس لهم أى دور فى سياسات التنظيم، والقسم الأخير وهو الذى ينفذ أوامر القيادة دون تفكير، أو تخلى عن الجماعة وانعزل عما يجري. 
حرص قيادات الجماعة على ازدواجية المواقف طوال الوقت، على سبيل المثال (المؤتمرات التى تم فيها مناقشة فكر داعش.. حتى عنوانها كان (داعش ما لها وما عليها).. فى المنتصف أيضًا، أى أن داعش لها إيجابيات.. وهذا ما تسبب فيما بعد فى لفت الانتباه لداعش، وكانت الجماعة الإسلامية هى كبرى الجماعات التى ورّدت أفرادًا من جيل ما بعد الثورة لهذا التنظيم. 
كما حرص القيادات على الإبقاء على ازدواجية المواقف للإبقاء على مشهد القيادة الحالية كما هو دون تغيير، وعدم فقدانهم مكانتهم التاريخية التى اكتسبوها، وإحداث توازن داخلى لإثبات أنها تدار بالديمقراطية وبرأى الأغلبية. 
دخلت فى هذه الآونة أطروحات وبيانات الجماعة، ومنها ما يكتبه عبود الزمر، ضمن أساليب امتصاص الضربات والتقاط الأنفاس وتحويل الأنظار عن الجماعة وقياداتها فى الداخل، وإظهار الجماعة كأنها ليست على وفاق وانسجام مع الإخوان على غير الحقيقة، لاحتواء حركات الانشقاق، وتشتيت جهود المنشقين الساعية لحظر الجماعة، أو تصنيفها إرهابية، ولتفادى تحمل مسئولية العنف والتفجيرات فى الشارع، فيمَ يباشر قيادات الخارج الشحن والتحريض والتصعيد. 
ورأى بعض قيادات الجماعة أن الفرصة فى هذه المرحلة – بعد ٢٥ يناير ٢٠١١ – صارت مواتية أكثر من أى وقت مضى لتصفية الحسابات مع ما سموها «أجهزة نظام مبارك الأمنية»، لذا أعلنت فى تصرف غريب، عن إنشاء لجان للحسبة فى صعيد مصر، قالت إنه سيتم تعميمها فيما بعد، وأعلن الكثيرون منهم دون مواربة على صفحاتهم الخاصة، ومنهم أبوالعلا عبدربه، وعزت السلاموني، عن الفرصة المواتية لتخليص الحقوق. 
كما رأى آخرون من الجماعة أن الفرصة مواتية، لطرح مرشح رئاسي، لذا فقد أعلنوا عن دعمهم لترشح صفوت حجازي، قبل قرار الإخوان بترشح خيرت الشاطر، وبعده محمد مرسي، ليتحالفوا مع الإخوان من أجل أسلمة السلطة، وكرسى الحكم. 


٧- الوقوف فى المنطقة الضبابية
بينما كان الإخوان يمارسون الإقصاء لكل خصومهم، أصبحت الجماعة الإسلامية هى الحليف الأكثر التصاقًا بها، فقامت بالإعداد لما يسمى (جمعة الشريعة) بميدان التحرير، وشاركت فى كل الفعاليات الإخوانية، وبدأ قادتها مثل عاصم عبدالماجد يخدمون الإخوان فى كل الملفات المطروحة على الساحة الإعلامية، وحين أقام الرئيس الأسبق المعزول «مرسي»، مؤتمرًا دعا فيه للجهاد بسوريا، كان عاصم عبدالماجد أول من أقام ما يسمى (جبهة الأنصار) لجمع الشباب للسفر إلى هناك، وهو ما حصل بالفعل، حيث يوجد للجماعة عدد غير قليل من عناصرهم، على رأسهم أحمد عشّاوي. 
وحين فشل الإخوان فى العام الذى حكموا فيه، كان عبود الزمر موجودًا بشكل شبه يومى فى قصر الاتحادية بجوار مرسي، وكانت جماعته تناور لتبقى فى صدارة المشهد الإعلامى بشكل شبه يومي، وحين شعرت جماعة الإخوان بأنها ستجبر على ترك الحكم، قررت الاعتصام فى ميدان رابعة، والنهضة، وكان قادة الجماعة على رأس المعتصمين، وفوق المنصة توالوا فى إلقاء الكلمات التهديدية للجيش المصري. 
فشلت التجربة السياسية للإخوان وحلفائهم، فاعتزلت الجماعة المشهد السياسي، ورفضت القبول بالنتيجة التى وقعت، وأعلنت انضمامها لما يسمى (تحالف دعم الشرعية)، وانفتحت مسارات الصدام والعنف على مصراعيها، سواء من التنظيمات التكفيرية المسلحة المتمركزة فى سيناء، أو من خلايا تكونت حديثًا من شباب منتمى للتنظيمات التقليدية بعد فض اعتصامى رابعة والنهضة المسلحين، لاستهداف مؤسسات الدولة السيادية والأمنية وعلى رأسها الجيش والشرطة، وكانت الجماعة حاضرة بقوة، إذ إنها أمسكت العصا من المنتصف، فقررت تهريب بعض قادتها للخارج، ومنهم طارق الزمر، ورفاعى طه، الذى قتل فيما بعد بسوريا، وعاصم عبدالماجد، ومن المحطات الخارجية، أطلقوا تصريحاتهم للدعوة لما يسمى «الثورة والشرعية»، ورفع بعض قادتهم شعار الجماعة القديم، وهو السيف وفوقه الآية، (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة)، وكان منهم ممدوح على يوسف، رئيس الجناح العسكرى السابق للجماعة، وأبوالعلا عبدربه أحد قتلة الكاتب فرج فودة، وإسلام الغمري، ورفاعى طه، ومحمد الصغير، المقيم بتركيا، الذى دعا مجموعة (العقاب الثوري) الإخوانية المسلحة، لاحتلال صعيد مصر، تمهيدًا لطوفان «الثورة المسلحة» – بحسب وصفهم -. 
قبل عزل الإخوان، وهروب القادة لخارج مصر، التقيت رفاعى طه، الرجل القوى بالجماعة، وأحد مؤسسيها، وقائد معسكراتها بأفغانستان، فقال لي: إن أسامة بن لادن مؤسس تنظيم القاعدة، وضرب برجى مركز التجارة العالمى فى ١١ سبتمبر هما اللذان أشعلا ثورة ٢٥ يناير بمصر، وإن مقتل السادات ما كان إلا محاولة لإقامة الدولة الإسلامية عن طريق الثورة والانقلاب العسكري، وأن الجماعة فى أفضل حالاتها، والقيادة الحالية هى الأفضل من كرم زهدى وناجح إبراهيم، وهى قيادة موفقة جدًا وخاضت الانتخابات وحصلت على ١٥ مقعدًا، وأصبح لها وجود سياسى ملموس، رغم أنها خرجت منهكة من السجون، وأنه لم تحدث تحولات للجماعة فى مسألة العمل الحزبي، وهناك تشويش على فكر الجماعة قبل المواجهات، فنحن لم نكن نحرم العمل الحزبي، وكانت هذه رؤى تعبر عن أصحابها، مثل كتاب «إعلان الحرب على مجلس الشعب»، ورغم أنه رُوّج له على أنه كتاب الجماعة فإن هذا خطأ، لكن لأغراض سياسية ودعوية، وقد تم السكوت عن التصريح بذلك، لأن حسنى مبارك لم يكن جادًا فى الديمقراطية، وكان يتاجر بالعمل الحزبي، ولم نكن نريد أن نزين وجهه القبيح، والأحزاب كانت ورقية، وكنا نرى أن العمل الحزبى متى أتيحت أسبابه الحقيقية فلا مشكلة. 


٨-التحول عن التحولات
القيادى المؤسس عاصم عبدالماجد كان يصر دائمًا على ضرورة اللجوء للعنف، ويعبر بصدق عن انقلاب الجماعة على مبادرة وقف العنف فى التسعينيات، بينما جماعته فى الداخل تدعو إلى الحلول السياسية للأزمات، ومن أقواله قبل تحوله الأخير (كنت ماهرًا فى لعبة الشطرنج، لكننى تركتها واقتنعت بضررها بالعقل قبل أن أقرأ فتاوى أهل العلم بتحريمها، وليس أمام الإخوان فى المنطقة عامة سوى تبنى خيار الجهاد بعد الإعداد العاجل له، وليس أمام دول الخليج، أستثنى من تعرفون، سوى احتضان كل الحركات الإسلامية والدخول معها فى تحالف واسع لمواجهة الغول الفارسى). 
التصريح السابق عكس ما تفعله الجماعة الإسلامية عقب مرور ٣ أعوام على سقوط حكم الإخوان، فكانت تناور التيار القطبى داخل تحالف ما يسمى بالشرعية بالعمليات الجهادية وتستغل حالة الانقسام بين صفوف الإخوان، وتخاطب الدول الخليجية، فى محاولة لتوفير مصادر تمويل لعناصرها، وتلعب على وتر حاجة بعض الدول لقيادات مسلحة بسبب الصراعات الإقليمية الدائرة. 
وفجأة بعد غياب خرج عاصم بما يسمى بالمراجعات، فى ٢٦ حلقة نشرها بصفحته الشخصية عبر موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك»، تحت عنوان (الأمة لا الجماعة)، تحدث فيها عما يطلق عليه مراجعات إنه على كل التنظيمات وضع الأمة قبل الجماعة، فهو فقط قلب الأولويات، فبدلًا من أن يكون التنظيم هو الأولى، جعل الأمة هى الأهم، التى ستتحرك بفعل دعوة الجماعات، ليقفز عليها التنظيم فيما بعد، والحكاية ببساطة أنه قلب المعادلة، فى تقلبات تكتيكية بفعل الظروف السياسية المحيطة، دون تغير فى الأيديولوجية البناءة داخل التنظيمات الحالية. 
عبدالماجد اعتبر أن الجماعات ضرورة، وقال: لست أسعى من وراء هذا الحديث إلى تدمير فكرة العمل الجماعي، حتى بعد أن فشلت مختلف الجماعات فى مواجهاتها المتعددة مع أنظمة الحكم، وليس قرار الحل هذا من حقنا، ولا من حق كل قيادات الجماعات الإسلامية أصلًا، فهذه الجماعات ملك للأمة والذين دفعوا ثمن بنائها وتشييدها الباهظ هم أبناء هذه الأمة، وبالتالى فالأمة هى مالكها الحقيقى والجماعات بقياداتها جزء - مجرد جزء - من ممتلكات الأمة، لكن الذى أحاوله هو تحطيم الأسوار العالية التى شيدتها هذه الجماعات بينها وبين أمتها. 
فى عرف عاصم فإن وظيفة الجماعات الوحيدة هى استنباط حكم الشرع فى الواقع الذى نحياه، وما يجب على الأمة فعله، وما بجب عليها تركه، ثم إبلاغ الأمة بهذا الحكم سواء بطريقة مباشرة (الدعوة) عن طريق جيش الدعاة الضخم للغاية والمنتشر جغرافيا فى كل البلاد، أو بطريقة غير مباشرة (الإعلام). 
اعتبر عبدالماجد أن الصورة الحالية للجماعات الإسلامية لم تكن موجودة فى تاريخ الأمة، قائلًا: لا أقول كما يدعى بعضهم أن مجرد وجود جماعات هو أمر باطل أساسًا، وأنها نوع من الحزبية المنهى عنها، وأنها تؤدى إلى تمزيق الأمة، فهذه دعوة (مدخلية) قبيحة مقصودها الإبقاء على الأمة فى حالة استكانة وخنوع تحت حكم طواغيت مرتدين يسميهم المداخلة -زورًا- ولاة الأمر!، حسب وصفه. 
كل ما فعله عبدالماجد فى مراجعاته أنه غير الخطة، فبدلًا من أن الجماعة هى التى ستواجه السلطات، جعل الجماهير هى التى تكون فى المواجهة، ثم قفز الجماعة على انتصار الأمة، واحتكار السلطة، معددًًا الافتراضات الباطلة التى قامت عليها الجماعات وتأسست عليها باعتبارها مسلَّمات لا يمكن المساس بها، وهى أنه لا بد من اصطفاء ثلة مختارة لتقوم بالدفاع عن الأمة ودينها وأرضها ومقدساتها نيابة عن الأمة؛ لأنها أى الأمة، غير صالحة لتنفيذ أوامر الشرع بالقيام بهذه المهام إما لجهلها بها أو إعراضها عنها، وقال إنه لا بد من أن تتميز هذه الفئة عن مجموع الأمة، بل حتى عن غيرها من الفئات التى تشاركها مجال عملها، أن تتميز بأصول وفهم وشعار واسم ورسم وشيخ وقائد، موضحًا أن الحق الخالص والصواب المطلق صار متمثلا فى هذه الفئة، وصار فرضًا واجبًا على الجميع الانضواء تحت لوائها، فهذه الافتراضات الخاطئة مركزة فى العقل الباطن لأكثر الحركات الإسلامية، سواء صرحت بها أدبياتهم أو لم تصرح، وهى قد ترسخت فى النفوس عبر آلاف الرسائل الصريحة أو الضمنية التى يتلقاها أبناؤها من قاداتهم وشيوخهم. وكتب مسئول لجنة التربية بالجماعة، على الدينارى قائلا: أساس الخلاف مع «عاصم عبد الماجد» أن البعض يرى أن القضايا المعروضة خاصة يجب مناقشتها فى أروقة سرية، بينما الشيخ يرى أنها قضايا عامة يجب أن تطرح على الجميع، خصوصًا وقضايا الحركة الإسلامية، قد شاعت وأصبحت هى قضايا الأمة. 
فى أكثر من ٢٦ حلقة، وفى ملفات متعددة، بدت مراجعات عبدالماجد تحول عن التحولات، وارتداد إلى الوراء تكتيكيا فقط، فبعد أن كانت نظرية سيد قطب منظر الإخوان، وحسن البنا مؤسس الجماعة هى استخلاص نخبة مؤمنة، وجيل جديد من الأمة، يقودها للسلطة، أصبحت فى عرف «عبد الماجد» أن الأمة هى التى تقود نفسها، وتكون مهمة الجماعات هى دفع الأمة لذلك، من وراء الستار، لتقفز فيما بعد على مكتسبات الشعوب. 



الخلاصة
لقد فقدت الجماعة أغلب عناصر قوتها، وهى التمويل، والقدرة على حشد الجماهير، لذا فإنها عادت لتبحث عن الفكرة المميزة القديمة لها، فوقع الخلل، إذ إنها تصر على أنها لا تزال مستمرة على نهج مبادرة وقف العنف، فى الوقت الذى تطرح فيه على الأرض أيديولوجية أخرى، فالصورة مختلفة إلا أن الأرضية القديمة كما هى. 
تحولات مبادرة وقف العنف، لم تكن كافية، وكانت تكتيكية إلى حد كبير، لأنها غفلت عن مسائل مهمة، وهى وضع تصحيح لمفهوم تكفير الحاكم والخروج عليه، وأحكام الديار.. إلخ، ما أدى إلى تراجعها فور الدخول فى اختبار الثورة، وتفسخ النظام الذى كان يشرف عليها فى السجون، وحتى فى طرح عاصم عبدالماجد الجديد، فإنه لا تغيير كثير، والدليل أنه لم يراجع موقف الجماعة من الدولة، وموقع الدولة من الأمة، بل هى فقط محاولة للظهور، ومراجعاته ليست تطورًا بالحسابات التقليدية لفكر قيادى تاريخى بالتنظيم، ودليلا على نضجه، لكنها تعكس الفشل الحالى بعد الثورة، فى كل هذه التنظيمات، سواء فى الجاهزية والعمل والهيكلة، والاستراتيجيات العامة. 
الجماعة الإسلامية نجحت فى الوقوف بالمنطقة الضبابية، وأمسكت العصا من المنتصف، ما بين العنف والسلم، كما نجحت فى إبقاء أغلب عناصرها خارج السجون، ليقوموا بمحاولة استغلال الفراغ الإخوانى لضم عناصر جديدة على فكرة مميزة هي: التاريخ الطويل من الصراع الدامى مع الأنظمة، الجماعة الوحيدة التى ضحت بالعشرات، الجماعة الوحيدة الثورية، فشل الإخوان والسلفيين.