الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ثقوب الحضارة السوداء

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
النظام العالمى الجديد، اصطلاح يعنى الحصيلة المعرفية والمكوِّن السياسي، والإرث الحضارى - إجمالًا - لعالمنا المعاصر، يبدأ من نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، ويرتبط بأوروبا بشكل وثيق، بدءًا من عصر الاكتشافات البحرية والجغرافية لإسبانيا والبرتغال، وتزامنها مع التطوُّر العسكرى للجيوش، وبزوغ عصر الصناعة، وظهور الدولة القومية. لتطلق أوروبا مؤخرًا - وطفلتها أمريكا - على دول قارتى أفريقيا، وآسيا، مهد الحضارات الأولى بأنها متخلفة، ويدشن فى حقها مصطلح العالم الثالث. 
بيد أنه وفق ميزان المنطق، يجب أن تصير دول الحضارات القديمة (مصر، وإيران، والعراق، والصين، والهند) حاضرة الإنسانية - فى وقتنا هذا، والمسئولة عن ازدهار العلم، والتقدم التكنولوجى الحديث؛ بحكم أحقيتها التاريخية. ولكن ما حدث أن بقي أغلبها - حتى تاريخ قريب جدًا - يرسف فى أغلال الجهل والخرافة ليطرح هنا السؤال نفسه: كيف أن الحضارة الأوروبية الوليدة انفردت فى العصر الحديث، بالمنح الحضارى والمنّة المعرفية على البشرية؟ 
نرى أن ما يؤكده البُعد التاريخى للتطور الإنساني، أن الحضارات القديمة مثل الثقوب السوداء؛ سحيقة لا نهائية، وبها مركز جاذبية عملاق، يجذب شعوبها صوب نواتها العتيقة، منذ وجدت وحتى الآن، ومن ثم الارتداد بها - الشعوب - بتلقائية تجاه مفردات وموروثات تلك الحضارات القديمة، بما يتطابق تمامًا مع أوضاعها الغابرة، ولكن فى صورة شبه عصرية تتنافى فى جوهرها مع مجريات التطور الحضاري؛ ما يشكل لها عائقًا كبيرًا للانطلاق نحو النظام العالمى - الذى فرضته الحضارة الجديدة، وصار عنوانًا للعصر الآني. فتبقى الشعوب الشرقية ذوات الحضارة السحيقة، أشبه برجل يقف على ساقيه: الساق الأولى متحجرة به فى ماضيه، والثانية عَبَثًا تحاول العروج به إلى المستقبل. 
بعبارة أخرى؛ رؤى التاريخ القديم، واعتباراته التراثية، مغروسة فى الفكر الشعبي، لتخلق محاذير شتى، يصعب هدمهما أو حتى تجاوزها؛ كونها راسخة ومستقرة فى صميم التكوين النفسى للجماعات الإنسانية بمختلف أطيافها. 
ومن ناحية أخرى نجد أن التباينات العرقية الشديدة فى مكونات تلك الشعوب، من أثر الهجرات الجماعية عبر التاريخ المديد، والإغارات العسكرية المستمرّة ؛ تخلق صراعات إثنية لإثبات وفرض الهوية، تشاحنات فكرية وعدائية ناشئة عن التضاد المعرفى، هذا بخلاف الكراهة العقائدية والدينية، الأمر الذى جعل الشرق القديم - والحديث أيضًا، بلا عوازل فكرية، أو جدران ثقافية، كافية لمنع التقاتل وازدراء الآخر، ومن ثم يضحى مؤهلًا بالضرورة للانفجار فى كل وقت. 
فإذا نظرنا لمكونات الشرق الأوسط العرقية - كمثال - نجدها متنافرة إلى حد كبير: فالعرب لا يحبذون مخالطة الترك والفرس، وأما الترك يرون حقهم فى الوصاية على العرب ما زال قائمًا، وعلى عداوة تاريخية وأزلية مع الفرس، والغالب من العرب والترك يُكَفر الفرس دينيًا، أما الفرس فيحطون من شأن كل الشعبين - العرب والترك - ويرون فى أراضيهما وثرواتهما حقهم الطبيعي. 
وأما فى حالة أوروبا، فالمحاذير الأوروبية - والشبيهة إلى حد كبير بالمحاذير الشرقية - والتى خلقتها كنيسة العصور الوسطي، ونشأت مع نظم الحكم الباباوية والقيصرية المتعاقبة، نجدها واهية لحداثتها، وغير مؤثرة؛ إذ لم تتغلغل بشكل عميق فى وجدان الشعب الآرى - المتجانس لحدٍ بعيد، فلم تَقْوَ على الصمود طويلًا، لكبح التمرد الفكرى والسياسى للشعوب، لذا كان هدم التابوهات وكل المقدسات الذهنية، أمرًا يسيرًا، ولم يتولد معه شعور بالذنب، أو يقترن به إحساس بالعصيان الدينى والتمرد السياسى - كحالة الشرق فى فكر القبيلة المسيطر عليه تاريخيًا. ليؤكد رواد نهضة القرن الخامس عشر أن الإرث الإغريقى مجرد أوهام، وتأتى حركة تنوير القرن الثامن عشر لتنادى بالعقل والعلم وحدهما. 
..وأخيرًا يطل علينا المفكر الأمريكى المرموق «نعوم تشومسكي»، عبر كتابه «النظام العالمى القديم والجديد»، ليقرر أن العالم القديم كان ما قبل الحرب الباردة، وانتهى بانهيار جدار برلين، وأن العالم الجديد هو ما تلاها، ليتفاجأ «النظام العالمى الجديد» بنفسه قديمًا، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي!، وأنه على أعتاب نظام عالمى جديد آخر سُمي «القرن الأمريكي»، وفى المقابل يظل أصحاب الحضارات القديمة ملاحقين فكريًا ومعرفًيا، بفوهات الثقوب السوداء العملاقة لحضارتهم القديمة، وطالما نواة الجذب الحضارى متمركزة فى صميم الوجدان؛ فلا سبيل لهم غير قبول المعادلة الحضارية الحديثة كما تُفرض عليهم من أربابها.