الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

علم الأحياء عند أرسطو

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إن الاعتقاد السائد هو أن أرسطو فيلسوف قبل كل شىء، بيد أننا سنعده فى هذا المقال عالمًا طبيعيًا أولًا، وهى وجهة نظر فى الرجل جديدة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت رسالته الصغيرة فى الظواهر الجوية عظيمة الأثر من الناحية التاريخية، لأنها لا تستند إلى القوى الخارقة للطبيعة، بل حاول فيها أن يُرْجِع ما فى الجو من تقلبات تبدو غير منطبقة على القوانين الطبيعية إلى أسباب طبيعية تعمل متعاقبة وفقًا لنظام محدد. أما «علم الأحياء» Biology فهو ميدان أرسطو الحقيقى، فهو فيه واسع الملاحظة عظيم الاطلاع، وفيه أيضًا ارتكب العديد من الأخطاء، وأعظم فضل له على هذا العلم الحيوى أنه نَسَّـقَ كل ما كُشِفَ فيه من قبل ودعم أركانه.
كان اهتمام أرسطو بالكائنات الحية اهتمامًا أصيلًا، فمن ناحية، قام بتحليل كل العمليات الطبيعية، الحية وغير الحية. ومن ناحية أخرى اتسع تحليله ليشمل الإنسان وكل الانجازات البشرية المختلفة. ولقد كانت المجالات والموضوعات العلمية التى تُسمى اليوم «بيولوجية» Biological هى نقطة انطلاق هذا التحليل. فمنذ القرن الثانى عشر على الأقل، جرت العادة على النظر إلى فكر أرسطو من خلال ما أنجزه فى مجالى المنطق والميتافيزيقا. غير أن من بين كتاباته التى وصلت إلينا، لم يكن المنطق والميتافيزيقا يحتلان مكانًة تُذْكَر مقارنًة بالمكانة العظيمة التى احتلتها أبحاثه البيولوجية. إذ تشكل أبحاثه فى هذا المجال ما يقرب من ثلث مؤلفاته جميعًا. ومن ثمَّ يتضح أن شغف أرسطو بتحليل الكائنات الحية ودراستها لا يمكن أن يأتى فى المرتبة الثانية بالنسبة له.
من الطبيعى أن يهتم أرسطو بعلم الأحياء، فقد كان أبوه «نيقوماخوس» من أسرة توارثت الاشتغال بالطب، وكان هو نفسه طبيبًا للملك «أمينتاس الثانى» Amentias II جد الإسكندر. ولعل تعلقه بالتاريخ الطبيعى قد نشأ منذ صباه، عندما كان والده يصطحبه فى جولاته، ثم ظل متعلقًا به فى «أثينا»، ولعل هذا التعلق قد ازداد خلال السنوات التى قضاها على شاطئ البحر فى «أسوس» و«ليسبوس».
والنظرة السريعة على مؤلفات المعلم الأول تكشف عن مدى اهتمامه بـ«علم الأحياء» حتى صار من أهم ميادين بحوثه الرئيسية، صحيح أننا نستطيع القول إنه كان دائرة معارف كبرى فى جميع ألوان المعرفة العلمية، والطبيعية والفلكية، والرياضية فى عصره-فضلًا عن العلوم الفلسفية بالطبع (وهذا هو السبب فى تسميته بالمعلم الأول)- ولكنه كان رائدًا فى ميدان «علم الأحياء». وأهم أبحاث أرسطو المتعلقة بالحيوان هى: «تاريخ الحيوان» History of Animals (وهو يتألف من تسعة كتب)، و«عن توالد الحيوان» On the Generation of Animals (خمسة كتب)، و«عن أجزاء الحيوان» On the Parts of Animals (أربعة كتب). بالإضافة إلى عملين صغيرين، هما عن «حركة الحيوان» On the Motion of Animals و«عن مسير الحيوان» On the Progression of Animals (وكل منهما يتألف من كتاب واحد).
وتكشف هذه الأعمال عن غزارة الملاحظات، ودقة الوصف، وبراعة التنظيم والتصنيف، فضلًا عن الاستبصار العميق بالمسائل المتعلقة بالأساس الذى يستند إليه «علم الأحياء». ويُعَد إنتاج أرسطو فى هذا المجال من أهم الانجازات التى تحققت فى تاريخ العلم. إذ يشتمل هذا الإنتاج على مسائل تتعلق بعلم التشريح، وعلم وظائف الأعضاء، والتوالد، وعلم الأجنة. بالإضافة إلى عادات مئات الأنواع من الحيوانات، ولقد قام أرسطو بتصنيف هذه الأنواع على النحو نفسه الذى يتم به هذا التصنيف اليوم. ليس هذا فحسب بل تناول أيضًا بالتحليل الدقيق إمكانية التوالد التلقائى، ومعايير التمييز بين حياة النبات والحيوان، وكذلك الوراثة وطبيعة عملية التناسل. كل هذه الأمور عُولِجَت بتوقد ذهنى رائع.
وتزداد الدهشة من دقة أرسطو فى وصفه عندما تُذْكَر ضآلة ما كان لديه من وسائل، فلم يقتصر الأمر على عدم وجود أدوات الفحص (كالعدسات المكبرة وغيرها... إلخ) وعلى عدم وجود العقاقير، وهى عدة العلماء الطبيعيين اليوم، بل لم يكن لديه ما لدينا الآن من مراجع ومعاجم تعين على التحقيق، وعلى مراجعة النتائج فورًا. نعم يجوز أنه كان فى «اللوقيون» مكتبة، ولكنها كانت لا محالة صغيرة جدًا تنقصها الكتب وخاصًة الكتب العلمية. ثم إن اللغة التى بدونها لا يمكن نقل الآراء لم تكن موجودة، فهذه الأداة العجيبة - اللغة - التى أوجدها الشعراء والمؤرخون كان ينقصها المصطلحات الفنية التى يستحيل بدونها التعبير عن المفاهيم والموضوعات العلمية على نحو أوضح وأبسط وأدق. فكان على أرسطو أن يخترع كثيرًا من المصطلحات الضرورية اختراعًا، كلما وجد الحاجة إليها. لكن حتى اللغة الفنية الراقية لا تكفى للوصف فى علم الأحياء إذا لم تُشْفَع برسومات، ومن المؤكد أن أرسطو كان يُشْفِع وصفه برسومات. ولكن لا سبيل إلى معرفة مقدارها وتقدير قيمتـها.
وعادًة ما كانت عبارات أرسطو دقيقة، وتشير أحيانًا إلى حقائق سقطت فيما بعد فى غياهب النسيان، ولم تتـم إعادة اكتشافها إلا فى العصر الحديث. إذ لم يُقدر خير ما فى مؤلفات أرسطو فى «علم الأحياء» حق قدره إلا فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك الحين أصبح أرسطو العالِم فى الحيوان والأحياء مثار إعجاب وثناء متزايدين. وقد ذهب بعض المتحمسين إلى أن شهرة أرسطو الأصلية إنما أساسها «علم الأحياء» وحده، وإن مؤلفاته فى سائر العلوم يصح الاستغناء عنها، أما ما يعالج منها التاريخ الطبيعى فرائع حقًا، وما زال يحظى بقدر كبير من الاحترام. ويقول «لوس ديكنسون» Lowes Dickinson فى هذا الصدد: «كان أرسطو (رجل علم) بالمعنى الحديث لهذه العبارة، فقد كان جامعًا وملاحظًا بارعًا لمجموعة هائلة من الوقائع.. وما زال يحظى إنتاجه بقدر كبير من الاحترام من قِبَل العلماء المهتمين بدراسة هذا الإنتاج».