الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

لن يبني مصر إلا الشباب الخلوق

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لقد بينا فى عدة مقالات سابقة مدى اهتمام المفكرين المجددين وزعماء الإصلاح بالشباب، وذلك باعتبارهم القوة الدافعة للمجتمع فى شتى الميادين، وهم كذلك الآلية القادرة دومًا- بحكم طبيعتهم- على كل أشكال التغيير (تجديد- تحديث- تطوير- هدم- تثوير- استبعاد) أضف إلى ذلك أنهم يمثلون سواعد الطبقة الوسطى القادرة فى معظم الأحايين على ضمان المجتمع، وحماية مشخصاته وهويته، وحمل الخطابات المؤثرة فيهم والمشروعات التى يتحمسون لها إلى أجيال متتابعة فى المستقبل، وقد أثبتنا أن جل فلاسفة التنوير- فى مختلف الثقافات وعلى مر التاريخ- عولوا على الشباب فى بناء حاضر الأمم ومستقبلها، لذلك نجد النهضويين فى مصر وبلاد الشام- على وجه الخصوص- قد وجهوا خطاباتهم للشباب وعنوا جد عنايتهم بإعادة بنائهم من الداخل، فبدأوا بتثقيفهم أخلاقيًا ثم توعيتهم وتدريبهم على حمل المسئولية وقيادة المجتمع إلى ما فيه الخير. 
وقد آمن رفاعة الطهطاوى بأن الأمم لا تتقدم إلا بكثرة المهذبين الوعاة فيها، كما أن المتأمل لتاريخ الفلسفة سوف يدرك مصداقية هذا الاعتقاد ولاسيما فى خطابات كبار الفلاسفة، أولئك الذين أكدوا أن من يفلح فى تشكيل عقول شباب أى أمة يكون قد امتلك معظم مفاتيح نعيم أو جحيم مقدراتها، ومن ذلك كله نجد رفاعة يخصص جانبًا غير قليل من مقاماته لتوعية الشباب خلال حديثه عن المواقف التى تعرض لها بطل حكاياته. 
وأعود وأؤكد أن الطهطاوى لم يحاك النص الأصلى للكتاب، بل أضاف وهذب وطوع معظم أحداث الحكايات والحوارات التى كانت تجرى بين شخصياتها لخدمة الحكمة التربوية الأخلاقية، مضافًا إليها مسحة صوفية إسلامية، وهو الثوب المقبول عند شبيبة الأزهريين بخاصة ومزاج الجمهور بعامة ولاسيما فى ميدان الوعظ والنصح والتوجيه، وسوف نورد بعض الأقوال التى تدل على ذلك. 
فقد ذهب مفكرنا إلى أن أخطر فترات العمر هى سنوات الشباب، حيث عذابات الاختيار بين السير على سنة الآباء، أو الاستجابة إلى روح التمرد الكامنة بداخل الأنفس طلبًا للتلذذ بروح المغامرة، والتفرد لإثبات الذات، وسرعان ما تمضى تلك السنون وتتلوها فترة التعقل والرشاد فيندم المرء على كثير من تصرفاته وأيامه التى انفقها بحثًا عن اللذائذ التى يأسف عند تذكرها فى أيام المشيب، والرذائل التى قد وقع فيها جهلًا بحكمة الشيوخ، يقول: «ليتنى كنت عاريًا من جلباب الشباب، وكأن بينى وبينه حجاب، فإن زمنه خبل للعقل ولهيب للفؤاد، فليته ذهب ولا عاد، وليتنى كنت فيه متمتعًا بوقار المشيب، وليتنى كنت فى عمر جدى شيخًا كبيرًا حتى لا أصير هدفًا لأخطار الشباب». 
ويضيف أن الشباب دائمًا ما يفتنون بالمظاهر ويعجبون بالمناظر متناسين الجاد من الأمور ومألات الأفعال والغايات الأساسية التى ينشدونها، ويقول: «إن عادة الشباب لا ينظر صاحبه إلى عواقب الأمور، فالشاب الذى يهوى بدون طائل زينة الملبس فهو أشبه بالأنثى ليس أهلًا للفخر ولا هو عاقل ولا كيس، وما الفخر إلا للصنديد الذى تحسن مكابدة المتاعب لديه ويدوس الحظوظ والمفرحات تحت قدميه، إن الشباب غرور يبعث على ارتكاب الشرور، ومع أنه ضعيف فإنه جسور، فالشباب يقتحم العقبات ولا يخشى عاقبة الأمور، فإنه يثق بنفسه لطيشه، فإن معظمهم لا يسلك مسلك الحزم فى عيشه». 
ولا يطلب رفاعة من الشباب أن يكون رجعيًا أو مقلدًا أو جبانًا، بل يطلب منه بعض التعقل والاستفادة قدر الطاقة من أرباب الخبرة، فالشباب الذى يرجى الصلاح منه هو الذى يندفع صوب الهدف كالسهم بعد دربه ودراية ووعى بالمقاصد والمألات، أما دون ذلك فهو ضرب من الشطط والمجون والحمق، وهذه الأدواء هى التى يجب على المصلح تحذير الشبيبة منها، وعلى الراعى أن يجنبهم شرور الوقوع فيها، وذلك بمحاربة دوافعها وأسبابها، ويقول على لسان بطل حكاياته بعد تأكده أن كل ما فعله من مخازى وأراذى مفتونًا بقوة شبابه لم يكن سوى كابوس مناقض للحقيقة: «رأيت أنى شجاع على غلبة الحظوظ والشهوات، وأنى اتهم النفس ولا أركن إليها فى الغواية، والميل إلى الغانيات». 
كما جاء فى حكاياته أن بطله كان أحوج لرفيق الخير الذى يذكره دومًا بمخاطر الغواية والسجن طواعية وراء قطبان الشهوة، وجعل بطله أيضًا- فى طور توبته- أن يسأل رفيقه الصالح أن ياخذه عند الشيخ الحكيم الورع ليسترشد برأيه ويصغى لنصائحه عوضًا عن أبيه الغائب، معترفًا بأن قلة حيلته وانعدام خبرته هى التى أوقعته فى الرذائل التى جملتها الفتن ورغبتها ربات اللهو فى عينيه. 
ويحذر الطهطاوى الشباب على لسان «منطور»- وهو صاحب تليماك الذى يرشده وينصحه ويخاف عليه دومًا من المهالك- من أمرين، أولهما: صحبة الشر، أى الرفاق الذين يقودون الشخص إلى دنيا الرذائل وساحات الفحش وبيوت الغوانى ومجالس اللهو والسكر والعربدة، أما الأمر الثانى الذى يحذر بطله منه هو الإباحية فى بلاد الأغيار ومساكن الغربة، تلك التى تعمل على هدم ما جبل عليه الشباب- بين أهلهم- من تقوى وصلاح، وينصح مفكرنا الشباب الذى وقع فى حبائل هذين الموقفين بالهروب والفرار، فلا مجال هنا لمنازلة الغواية أو الصبر على سكنة جحور الأفاعي. 
ويقول: «الفرار الفرار للخروج من هذه الديار، فإنها لا تثمر إلا السم القاتل والهواء المسموم الذى يدب فى المفاصل، فالانهماك على اللذات والشهوات والفواحش وجميع المنكرات هو أعظم داء فلا محل للخصال الحميدة التى أسباب أمراضها عديدة، فاهرب منها ولا تتأخر عن الهروب». 
ويقول فى موضع آخر: إن رفاق السوء لا يكتفون بالغواية، بل يصرفون الشخص عن عوائده الطيبة وأخلاقه المستقيمة، ويسخرون من محاسنة ويحطون من شأنه على لسان بطل حكاياته الذى يشكو سوء أصحابه: «إنهم صاروا يسخرون على صيانتى وإدمانى للعفة، ويستهزئون بما أتصف به من الحياء ومسك زمام النفس عن اللذات حتى صرت أضحوكة لهذه الصحبة ذات الطيش والخفة».
ويقابل رفاعة بين جمال المرأة الشرقية المحاط بالعفة وبهرج الأنثى الغربية التى ألقت بالحياء والخجل تحت أقدام المهرولات صوب الرذيلة، ويقول واصفًا ما رأى بطله فى مملكة المجون والإباحة: «رأيت فى جميع جهاتها النساء والبنات يتبرجن بالزينة، ويخرجن إلى المتنزهات ويتغنين بأشعار الفحش المخزيات، وتبدو صورة الغانيات فى هيئة الجمال والملاحة، ولكن ما فيهن من اللطف فهو متكلف متصنع وليس من طبعة اللطف كمن تطبع عليه، فلا تجد عندهن اللطافة الخلقية البسيطة، ولا الحياء المألوف الذى به يكمل الجمال وتألفه النفوس ويجمل به أرباب الجلال، وأعينهن التى تشبه عيون المها تغمز لعيون الرجال لفتنة العشاق وطلاب الوصال، وبالجملة فجميع ما شاهدته فى تلك النساء فهو زخرف وباطل ومن أدنى المحقرات.. وما أحسن الاستقامة لابسة ثوب الجمال، وما أجل الجمال عليه حلة الكمال، هل يراه أحد ولا يعلق به قلبه، وهل يحبه أحد إلا والسعادة تحبه؟». 
وينتقل رفاعة من حديثه عن الجمال المحسوس إلى الجمال والجلال والكمال الإلهى الذى يمنحه البارى إلى أصفياء القلوب وأطهار النفوس وسليمى العقول الذى لا تدركه إلا القلوب الصافية والعقول الراقية. 
وللحديث بقية عن آراء رفاعة التنويرية فى مقاماته المروية.