رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

بعيون جاك ديريدا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
كثيرًا ما يظهر التعذر الكبير للفيلسوف إزاء مقاربة موضوع ما، فلسفته الخاصة لا تسعفه وفلسفة من هم قريبون منه لا تتماشى تمام التماشى مع ما يذهب إليه. ما يحدث هو أن هذا الفيلسوف يمرر أى شيء فنجد شخصًا مثل هايديجير معجبًا بهتلر وبالفكرة النازية. ربما ينقصنا فيلسوفًا شجاعًا يعترف بالحق فى الخطأ. الحق فى ممارسة الحماقات. الحماقات نفسها التى تواجهنا فى الحياة، من المنطلق النيتشوى الذى يقول إن الفلسفة فى نهاية الأمر هى السيرة الذاتية لعقل ما. هل سيفكر كل عقل مهما كان جبروته بطريقة أجهزة الأمن tolerance zero؟
حتى الأشياء الأكثر بداهة قد تتحول إلى مسائل شديدة التعقيد، إذ يبدأ ديريدا حديثًا فلسفيًا حول لون عينيه، ويمضى فى ذلك متهيبا من ذكر اللون الذى هو الأزرق عادا اياها إجابة مفخخة. والسؤال هنا: من ينصب فخًا للآخر؟ ممن يخشى ديريدا وهو يجيب سؤاله؟
تنويعات
يبدو ديريدا متعثرًا جدًا، وهو يكرر مع هيجل بان «العيون مرايا الروح»، هو الذى جرت العادة ألا يحفل كثيرًا بالجوانب الروحية. أما هيجل فقد توسع فى تأمل العيون متسائلًا حول عجز الإغريق عن حل إشكالية تمثيل العيون مثلًا - لكى تبقى مع مسالة العيون مثلًا- وكان لا يفهم مغزى أن تكون العيون على المنحوتات الإغريقية بيضاء دائمًا.. لماذا هذا البياض؟ 
العادة الإغريقية التى يصفها صوفوكليس جيدًا فى مسرحية «انتيقونا» هى تغطية عين الميت بعد تغسيل جسده بالحليب بقطعة نقدية (معدنية) لكى يتمكن من العبور إلى عالم الأموات.
هل كانوا يخشون من أن ترى العيون ما يجب ألا تراه العيون؟
فى كثير من الأحيان، يأتى السؤال بديلا عن غياب الإجابة.
ما يروى فى السرديات الاستعمارية أن خادمًا زنجيًا أرسله سيده المستكشف إلى البيت ليحضر له بعض الأغراض سجلها على ورقة، ولما فعل الخادم ذلك لاحظ أن السيدة تحدق قليلًا فى الورقة الصغيرة ثم تغيب لحظة وتأتيه بأداة كبيرة ضخمة، ثم تكرر الأمر مرارًا إلى أن امتلأت الغرفة بالأدوات التى كانت مدونة على الورقة. النتيجة هى أن الخادم عاد صوب سيده، وهو ينظر مليًا إلى تلك الورقة متوجسًا خيفة، لأنه بعجز عن رؤية الروح التى لا بد أنها فيها روح أو أى كائن من عالم الجان رأته السيدة وعجز هو عن رؤيته. 
بسرعة كبيرة انتقلت دراسة الخطاب من وصف طرق التشكل إلى التركيز على الكلام الذى تتم تأديته أثناء صمت الكلمات، وهذا ما نراه مع مفترق القرنين: نشأة الاتجاه التاويلى.. كان التأويل هو الرسالة التى تأتى بعد تمام عمل العين أو هو الجهة الغائبة للنظر كما يقول ديريدا الذى لاحظ فى كتابه عن الفنون الجميلة «الحقيقة فى التصوير»: «من اليسير أن نرى ما هو مرئى، لكننا لا نستطيع أن نرى الرؤية التى تحدق فينا».
يستوقفنا كثيرًا أنموذج «حى بن يقظان»؛ الرجل الذى يكفيه النظر لكى يصل على تحصيل معرفة مركبة كمعرفة الله. النظر حمال للمعرفة، وحكم عدل يفتى فيما تتجاذبه الحواس ويسهر العقل جراه ويختصم.
يتأمل ديريدا السينما مركزًا على خصوصيتها كنشاط فنى لا يتم إلا من خلال الوسائل التقنية التى تتطلبها السنما عادة. الرؤية السنمائية تتطلب نشاط كاميرا، وهى أداة تقوم بتنفيذ مهام لا يمكننا القيام بها بأنفسنا. يُعرف العمل السينمائى أيضًا باعتماده، فى أغلب الأحيان، بعمل أدبى أو بالإشارة إلى فيلم آخر، فالإحالات شرط حصرى لتمام المعنى السنمائى. فالرؤية السنمائية بهذا المعنى تحول فكرة «الرؤية» فى حد ذاتها إلى نشاط هيرمينوطيقى أى فلسفى. هل أن المرول هنا هو الكاميرا؟ ربما.
فى كتابه الغريب المعنون بالعنوان الغريب جدًا «عيون اللغة» يتأمل ديريدا اللغة كمنظر مثبت للمعنى، كمشهد لا زمنى للحادثة الدلالية. حدها فى عرفه هو انتقال اللغة من لا زمانية المعنى التلموذى المقدس إلى بعد زمانى يعنى بالتأويل أى بإسقاط الصورة على ورقة مثلًا (كما نفعل فى غرفة التحميض دائمًا). 
بماذا يا ترى توحى رسالة تأتى إلى ديريدا من تاريخه الثقافى؟ رسالة العلامة الفقيه الإسرائيلى غيرشوم شوليم؟ 
يقول معلقًا على هذه الرسالة (والكتاب كله تعليق مترامى الأطراف على هذه الرسالة): «هنا يأتى إلينا، يعود إلينا ويتحدث إلينا بعد وفاة الموقّع، ومنذ ذلك الحين يحدث شيء فينا كأنه صوت شبح».
نص الكتاب -كما أسلفنا- هو تعليق حرفى طويل على الرسالة التى كتبها جرشوم شوليم فى عام 1926، تكريمًا للعلم العبرانى الكبير فرانز روزنزويج فى عيد ميلاده الأربعين. يعرب شوليم عن قلقه من علمنة اللغة العبرية. إن كلمات اللغة المقدسة، التى تحولت إلى لغة شعبية تخاطر بإشاعة معانٍ معينة. تخاطر بإغراق الأجيال الجديدة فى كارثة، أهى نهاية العالم؟ ولتفسير مبرر شوليم، فإن دريدا يجذب اللغة المقدسة أقرب إلى ما يسميه بخيال اللغة الأم: وهى لغة فريدة، غير قابلة للدوام، مصنوعة من كلمات تحافظ على القدرة على ذكر اسمها. مثل هذه اللغة، التى ستكون إنتاجيتها غير محدودة، وقد تثير جنونًا.. هى مرآة قد بكون النظر فيها إتاحة لإمكانية نظرها صوبنا. النظر صوب الجيل الآتى بعيون اللغة القديمة.
بعيدًا عن ديريدا، وفى إحدى قصص الخيال العلمى للأمريكى هارلان إليسون يقامر البطل بآخر دولار يملكه، وهو يشعر بأنه يخطئ، لأنه يكرس خسارة ما، ويحدث أن ترتسم على الآلة ثلاث عيون زرقاء للدلالة على الربح إلا أن هذا الربح فى لعبة الحظ هذه يتضح أنه ليس ربحًا ولا العيون التى واجهته على الآلة هى صورة اختارها مصممو الآلة بدلًا من صورة أخرى. والحاصل أن كيان البطل كله سيتزلزل بعمق حينما تحدق فيه العيون الزرقاء فى قصة «الآلة ذات العيون الزرقاء».
من ينظر فيمن؟
هو نفسه السؤال الذى يثيره ديريدا فى تأملاته البديعة فى اللوحة التى يرسمها الأعمى. مع تركيز ديريدا على نقطة توجيه بصر الرسام الأعمى التى هى مركز اللوحة. هل يغنى المركز عن المعرفة بالحواشي؟ وهل يكفى النظر لتغذية الرؤية كما كان أشهر من تأمل فى الموضوع؛ الفيلسوف الفرنسى كوندياك، يعتقد فى بدايات حياته قبل أن يصل فى أعماله المتأخرة إلى القول بأن النظر علم نتعلمه لكى نقوده صوب الرؤية.
أيكون هايديجير قد أخطا النظر إلى صليب السفاستيكا الذى يبدو أن له اتجاهين دائمًا بسبب انكسار أضلاعه المميز؟ وهل أن الرؤية للأثر بانكسارات النظر؟ وإذا كانت العين تستعمل هذا الانكسار/الانعكاس لكى تنظر بشكل صحيح، فهل أن الرؤية عليها أن تخضع للترسيمة نفسها؟ أي: هل أنه علينا أن نكسر اتجاهات الرؤية لكى يصلح أمرها؟
يبدو أنها مسالة أخرى.