الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

النخبة القبطية والمشاركة في 1919 "6"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
انتهت أحداث المؤتمر القبطى الذى عٌقد فى أسيوط والذى تم الرد عليه فى ذات العام 1911 تحت مسمى المؤتمر المصري، كما وضحنا فى المقال السابق، وكان كل من هذين المؤتمرين علامة بارزة وضوء أحمر وجرس إنذار لما يمكن أن تؤول إليه الأحداث الطائفية نتيجة هذا المناخ الطائفى الذى ساهم فيه الجميع، من ناحية الإنجليز كعهدهم دائما فى تطبيق سياسة «فرق تسد» مستغلين مشاركة الأقباط فى الديانة المسيحية استرجاعًا لتاريخ استعمارى طويل معتمد على هذه الفرقة ومستغلًا هذه الطائفية خصوصا أن النظام الطائفى كان لا يزال يعامل الأقباط كأنهم طائفة غير عموم المصريين، ومن ناحية أخرى النظام العثمانى الذى كرس فكرة الحكم الدينى الإسلامى الذى يعتبر مصر للمسلمين وليس للمصريين. كما ساهمت الصحف الطائفية من هنا وهناك فى الشحن الطائفى الذى نتج عنه اغتيال بطرس غالى رئيس وزراء مصر على يد إبراهيم الورداني، فبعد إحداث 1911 كانت مصر وبكل وضوح كأنها وطن لأغلبية مسلمة تناصر العثمانيين ووطن لأقلية مسيحية تناصر الاحتلال بصورة مباشرة أو تعاطفًا أو تصورًا أن هذا الموقف يفيد الأقباط. لكن ولأنه لا يوجد ما يسمى بالمطلق فى الحكم على الأشخاص ولا على الأحداث مهما كانت خطورتها وحتى كارثيتها، وبالرغم من هذا التكريس الطائفى الواضح، إلا أنه كان هناك نقطة ضوء مثلت الخطوة الأولى فى طريق الوطنية المصرية الجامعة بعيدًا عن الطائفية والتعصب والتمترس وراء قوى ليست مصرية فى المقام الأول سواء كانت الدولة العثمانية أو الاحتماء بالاحتلال، ونقطة الضوء هذه تمثلت فى كلمة المصرى الوطنى الحق لطفى السيد فى المؤتمر المصرى فى 29 أبريل 1911، حيث رفض صراحة أى احتماء بالأجنبى أو أى دعوة إلى قسمة الوطن حين قال «إن هدفنا النظر فى التوفيق بين العناصر المؤلفة للوحدة المصرية التى كادت أن تتصدع من جراء مؤتمر المسيحيين». وأضاف «إن المؤتمر (المصري) يقدر مطالب المسيحيين بميزان العدل وبيان النافع من الضار والممكن وغير الممكن حيث إن الخطأ الفادح هو تقسيم الأمة إلى عنصرين دينيين مما يستتبع ذلك من تقسيم الوحدة السياسية إلى أجزاء دينية». هنا كانت البداية الحقيقية والوطنية والمصرية الجامعة، كانت الكلمة اختصارا لخطة طريق تعزز الوطنية وترفض الطائفية وتجعل مصر والوطنية هما الطريق الصحيح والسليم لمواجهة الاحتلال، ولذلك ولد وظهر شعار «مصر للمصريين»، فهذا الشعار كان ردًا غير مسبوق تاريخيًا على أنظمة الحكم السابقة منذ الحكمة اليونانى والرومانى والإسلامى ووصولًا لزمن الشعار، فشعار «مصر للمصريين» صحح مفهوم أن يكون النظام السياسى ذات صبغة دينية فى الوقت الذى أعاد الأمل وأوجد البديل للأقلية المسيحية التى عانت تاريخيًا فى أزمنة مختلفة من اضطهادات حقيقية، كانت للأسف تتم تحت اسم الإسلام الذى كثيرًا ما يساء إليه زورًا من هؤلاء.
هنا كانت نقطة الانطلاق لهذه النخبة القبطية التى تحمل بداخلها تلك الجينات المصرية بهويتها التاريخية التى شكلت وما زالت تشكل تلك الشخصية الحضارية المصرية، وهنا لا يجب أن نسقط تأثير هبة عرابى فى مواجهة السلطة الحاكمة وفى مواجهة الإنجليز، حيث إن هذه الهبة، وبعيدا عن التقييمات التاريخية التى من حقها أن تقرأ من زوايا بذاتها، نقول إن عرابى كان قد أيقظ النخوة المصرية التى ظهرت طوال التاريخ فى أشكال مختلقة، وكان آخرها ثورة القاهرة الأولى والثانية ضد الحملة الفرنسية، بالإضافة إلى إعادة زخم القيادات المصرية والنخبة فى مواجهة ما تراه من مظالم للحاكم، وكان آخر هذه المواجهات تلك الحركة الشعبية التى واجهت خورشيد باشا والتى نصبت محمد على واليًا على مصر عام 1805، ولذا كان من الطبيعى أن تصل الأمور فى بداية القرن العشرين وبعد تلك الأحداث لشعار «مصر للمصريين»، ولذا يكون من الطبيعى أن هناك قطاع من النخبة القبطية، حين ذاك، يحركها الشعور الوطنى أيضًا بعيدًا عمن يوالى تركيا ومن يوالى الاحتلال، حيث إن ما تم فى المؤتمر القبطى لم ينل موافقة أغلبية الأقباط خاصةً الذين ارتبطوا بالكنيسة المصرية ذات الجذور الوطنية المصرية، التى مثلت ولا زالت تمثل أحد حصون المصرية الجامعة. هنا تصاعدت الأحداث بعد الحرب العالمية الأولى والتى دفعت فيها مصر ما لا يجب أن يُدفع، وبعد مماطلة كاذبة من المحتل، ونتيجة لنمو هذا الشعور الوطنى لدى المصريين كانت فكرة المطالبة بالاستقلال. هنا وتأكيدًا للمراوغة الاستعمارية قيل لسعد زغلول ولرفقائه «من الذى فوضكم عن الشعب المصرى». فكانت هذه الفكرة الذهبية وهى جمع توقعات المصريين بتفويض الوفد للمفاوضة، هذا الوفد الذى تشكل من سعد زغلول وزملائه من الوطنيين، حين ذاك لم تكن النخبة القبطية، خاصة بعد الأحداث والفرز الذى حدث والذى أنتج المؤتمرين الطائفيين، لم تكن هذه النخبة مشاركة أى لم يكن هناك مسيحى بين أعضاء هذا الوفد، وعلى أثر جمع التوكيلات الوطنية اجتمع عدد من هذه النخبة القبطية، حيث كانت تمثل نخبة طبقية وطائفية بحكم الواقع ولم تمثل نخبة سياسية حيث إن التمثيل السياسى للأقباط كان يتمثل فى الكنيسة ثم المجلس الملي. فاجتمع وفد منها فى نادى رمسيس للتباحث حول ضرورة مشاركة الأقباط فى هذا الحدث الوطنى الجليل فذهب وفد منهم إلى سعد زغلول الذى صرح لهم بكلمته المشهورة «الأقباط لهم ما لنا وعليهم ما علينا»، هنا تزايد اندماج النخبة القبطية فى جمع التوكيلات، ومع اعتقال سعد تزايد التلاحم الوطنى وزاد الحنق الإنجليزى من مشاركة الأقباط فى 1919، فقامت السلطات البريطانية باعتقال زعماء الهبة ومعهم الأقباط المشاركين، فتم الاعتقال ونفيهم بلا تفرقة بين مسلم ومسيحي.
لا شك وبكل المقاييس فهذه الأحداث، وتلك النتائج وهذه المتغيرات، التى كانت بحق متغيرات سريعة، كانت بداية ظهور وولادة الوطنية المصرية من جديد، فهذه الأحداث وضعت النخبة القبطية فى إطار المشاركة السياسية على أرضية وطنية وليست طائفية، فعندما دفع الأقباط الثمن كان المقابل تمثيلهم فى الوزارة بعدد غير مسبوق. ولذا تاريخيًا فأحداث 1919 لا شك كانت بداية غير مباشرة لولادة فكرة المواطنة قبل أن نتعامل مع هذا المصطلح كما أنها كسرت شوكة البداية لعمل سياسى وجماهيرى للأقباط بعيدًا عن الكنيسة والطائفية فكان الشعار الأكثر تقدمًا «الدين لله والوطن للجميع»، نعم كانت المشاركة نخبوية وليست جماهيرية فلهذا ظروف أخرى نعرفها فى المقال القادم بإذن الله.