الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

خوفي عليك من قلبك

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
غادر الصغير سريره الدافئ نشيطًا خفيفًا، على غير عادته، ورغم برودة يناير فى الإسكندرية، شرع يغسل وجهه بنشاط ظاهر، ثم ارتدى ملابسه سريعًا، لقد أصبح على أهبة الاستعداد، ليوم دراسى طويل.
تعلّم القراءة فيما لم يتجاوز السادسة، وأصيب بما يمكن تسميته بـ«نهم القراءة المبكر»، فصار يتهجى كل ما تطالعه عيناه.
ها هو يقطع الطريق من البيت فى كليوباترا، إلى المدرسة فى سيدى جابر، فيما يد أمه البضَّة تمسك راحته الصغيرة بقوة، كأن قلبها قد أوتى علمًا بأن مخالب الغربة ستنتزعه من صدرها صغيرًا، وستمزق لحم صدره «شرائح»، ولن تتركه إلا مضرجًا بنزيفه، ذبيحًا قلبه.
إنه يتهجى اللافتات: «باء... قاف... بُقالة الشيمي»، تضحك أمه فتصحِّح: «بِقالة بكسر الباء»، يتلعثم أمام مفردة «خردواتي»، فتنحنى لتبوسه، فيرمقها بعينين خضراوين سارحتين، من دون أن يفهم مغزى تلك البوسة الحانية، غير أنه رغم ذلك، يستشعر دفئًا سابغًا، فتغرورق عيناه نوعًا ما، يكبح مشاعره المباغتة، حتى لا ترى دموعه إذ تنثال على خديه المكتنزين.
لم يكن الفتى، على أى حالٍ، زنّانًا بكَّاءً، بل كان صامتًا متأملًا، وكان إذا عصرت الأحزان قفصه الصدرى كالبرتقالة، ينسل إلى غرفته منسحبًا، فيطفئ الأنوار، فيدس رأسه فى وسادته، فتنهمر دموعه فى صمت، وإذا دلف أحد الغرفة، تظاهر بالنوم.
فى المدرسة، يضربه مدرس بـ«خيزرانة» عمياء، حتى تتورم أصابع راحتيه، من دون ذنب اقترفه، إلا أن زميلًا سأله قلمًا فأعطاه إياه.
تهوى الضربة على كفه، ومعها تنهال الأسئلة الغريرة: «لماذا يضربني؟ ألم أفعل خيرًا؟ وهل جزاء الإحسان الضرب؟».
يغضب ويتألم.. يتألم فيغضب أكثر، ولا يبكي، بل ينظر فى عينى جلاده بتحدٍ وإباء، ولمّا يعود إلى بيته، يدلف إلى غرفته، فيدس رأسه فى الوسادة، ليبكي... لا يحب أن يرى أحد دموعه.
الحصة الأخيرة: الإملاء.
إذا عُرف السبب، بَطُل العجب، ثمة مبرر لنشاطه الاستثنائي، هذا الصباح.
ها هو يسير راجعًا إلى بيته، رحلة العودة بغير الأم، يتقافز كأرنب فرنسى سمين، لقد كان زائد الوزن حقًا، يقرع الجرس كعادته مرتين، يرن صوتها الموسيقى من خلف الباب: «حاضر يا حبيبي»، يقدم لها كراسة الإملاء منفوشًا كمنطاد الهواء، تمنحه قرشًا أو نحو ذلك، لا يذكر على وجه الدقة كم كان المبلغ؟ إنه لا يحب الحساب، ولم يحبه أبدًا... المهم أن ذاك المبلغ، كان كافيًا لشراء قطعة بسكويت بالشوكولاتة «بيمبو»، تلك مكافأة أسبوعية مضمونة، ففى الإملاء لا يخسر درجة، دائمًا: «عشرة على عشرة».
يخرج منطلقًا كرمح، إلى «قِمة الشارع» بلهجة أهل الثغر، يعبر الطريق إلى «عم المنصوري»، بائع الجبن «التركي»، والبسطرمة والزيتون والحلويات صبحًا، وبائع الخمور الرديئة ليلًا، يمنحه الثمن، فيحصل على قطعة الـ«بيمبو».
أية سعادة تغشى قلبه الآن؟... إن الصغار يأكلون الحلوى، كأنهم يُخزّنون السكر للاستعانة على مرارة الأيام حين يكبرون.
يعبر الطريق مجددًا، فإذا بيد سمراء معروقة ذات أظافر متقصفة تسأله برجاء: «حاجة لله».
عجوز ذات وجه ناشف متغضن، على ذقنها وشم أخضر ثقيل، لا يستطيع تبين ماهيته، أسنانها متهالكة كليًا، شفتاها تحاصرهما الشقوق والتجاعيد، عيناها غائرتان متوسلتان مكسّرةً نظراتهما.
ليس بحوزة الصغير شيء، إلا الـ«البيمبو»، فلتأخذه إذن، سيتنازل عن مكافأة أسبوعية، صعب تكرارها فى أسرة محدودة الدخل، قررت نزع اللقمة من أفواهها، لإلحاق أطفالها بالتعليم الخاص.
فضت العجوز ورقة التغليف الذهبية بسرعة، كسرت بأصابعها المعروقة حلوى الـ«بيمبو» إلى فتات، حتى يتسنى لفم من دون أسنان ابتلاعها، وسرعان ما كانت فى جوفها.
قرع الجرس مرتين، فتحت أمه: «هل أكلت؟ بهذه السرعة!»، روى ما كان، تفرست وجهه مليًا، ولم تعقب، جلست إلى أريكة بجوار شباك يشرف على جنينة البيت الخلفية، تحتسى قدح شاى بالقرنفل، وهى تتأمل أسراب الحمام التى تربيها، ولا تقدر على ذبحها أبدًا، وأخذت تسبّح على أصابعها نحو ساعة، ثم قالت له: «سأطلع لطنط هيام جارتنا خمس دقائق وراجعة».
عادت فى يدها مبلغ ما، يفهم الآن أنها اقترضته، لا زال لا يستطيع تحديده بالطبع، طبطبت على ظهره الصغير: «إن الله يقول إن الحسنة بعشرة أمثالها، لكنى لست فى كرمه عز وجل، إننى سعيدة بأنك منحت الحلوى للعجوز، ومكافأتك عندى أن أمنحك ثمن قطعتين».
إلى «عم المنصوري» مرةً ثانية، يحصل على قطعتى «بيمبو»، يقطع الشارع، يمنحهما للعجوز، ويمضى إلى أمه، فتؤنبه هذه المرة: «إذا كنت تريد فعل الخير، فلماذا لم تعطها النقود؟ كان بوسعها أن تشترى الفول والخبز مثلًا، فيكون ذلك أجدى لها».
يرد بتلقائية: «نعم.. كان ذلك ممكنًا، لكننى آثرت أن أعطيها حاجة حلوة، إنها ليست محرومة من الفول، لعلها تتناوله يوميًا، لقد فرحت للغاية، بقطعة الحلوى».
تضمه إلى صدرها ضمة دافئة، تنسال دموعها من عينين عسليتين طيبتين: «يا خوفى عليك من قلبك.. ستتعب كثيرًا، لقد أورثتك قلبى يا حبيبى».