الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

المعايير المختلفة للحقيقة "2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا شك أن معيار «الحقيقة» الأكثر تداولًا - بعد معيار التحقق الحسى الذى تناولناه فى المقال السابق - هو معيار «السلطة»، فنحن نعتمد اعتمادًا كبيرًا على السلطة دون وعي، ولما كان من الصحيح، كما رأى «هنترميد» الفيلسوف الأمريكى الشهير فى كتابه: «الفلسفة أنواعها ومشكلاتها»، أن السلطات الأخلاقية القديمة، بل والكنسية، قد انهارت منذ زمن بعيد؛ فإن سلطات جديدة من نوع مخالف قد حلت محلها. ويعطى «هنترميد» مثالًا على ذلك فيقول: «إننا نعتمد - فى اكتساب حقائقنا - على سلطة العلم أكثر مما نعتمد على سلطة الكنيسة»؛ وقد نكون على يقين من أن العلم سلطة يعتمد عليها أكثر من غيرها، ومع ذلك يظل العلم مصدرًا خارجيًا بالنسبة إلى معظم الأشخاص.
وهناك معيار آخر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمعيار «السلطة» هو معيار «الاتفاق الاجتماعي»، الذى يمارس تأثيرًا قويًا فى أحكامنا عن «الحقيقة» فى جميع الميادين، وكذلك هو أقوى ما يكون فى ميادين العرف والعادات الاجتماعية والأخلاق. فقبول عادة أو معيار أخلاقى معين على نطاق واسع، هو - فى نظر معظم الناس - سبب كافٍ للنظر إليه على أنه «حقيقة». وإن كثيرًا من الناس يصدمون إذ يرون شخصًا يتشكك فى حقيقة تتعلق بوجهة النظر الأخلاقية التى تحظى بقبول واسع، فقبول الجميع - أو حتى الأغلبية - لرأى معين، هو بالنسبة إلى هذه الأذهان ضمان كافٍ لحقيقة هذا الرأي».
أما الفيلسوف، فقد تصدى منذ زمن لقوة الاتفاق الاجتماعي، فهو يجد لذة خاصة فى أن ينبه الأذهان إلى ما فى هذا الاتفاق من ضعف حتى عندما يكون عامًا، والواقع أن عدم دوام العادات والسنن الاجتماعية المألوفة هو أمر أوضح من أن يحتاج إلى تعليق فلسفي، ومع ذلك فإن الفلسفة تشعر بوجود خطر شديد عندما يسيطر الاتفاق الاجتماعى وحده على المعايير الأخلاقية، ذلك لأن القدر الأكبر من التقدم الأخلاقى قد جاء على يد أقلية من الأشخاص الذين لم ترهبهم القوة الطاغية للاتفاق الاجتماعي، ولا يجدون علاقة بين الحقيقة ورأى الأغلبية، فالحقيقة فى نظر هؤلاء الرواد هى شيء مكتف بذاته مستقل عن قبول الجموع الكبيرة له.
ويستعرض «هنترميد» بعض النماذج التى كانت دائمًا تعتمد فى الوصول إلى حقائق الأشياء بمعيار مخالف للاتفاق الاجتماعى، مثل: «المصلحون»، و«أعداء التفرقة العنصرية»، ورواد الاتجاه الأخلاقي. كان هؤلاء جميعًا يعتمدون على سلطة أخرى، أعنى سلطة «الكتاب المقدس» أو «سلطة نبي» أو «زعيم»، وفى حالات أخرى كان أساس حججهم هو «نظرية الترابط»، إذ إنهم يرون أن هناك عادات أو معايير معينة لا تتسق مع المثل العليا الأخلاقية الشاملة السائدة فى المجتمع الذى يعيشون فيه؛ وربما قد لا تتسق مع التعاليم الدينية. وفى أحيان أخرى كانوا يستعينون «بالنظرية البرجماتية» إذا اتضح لهم أن النتائج الفعلية للعادة الاجتماعية كانت شرًا، بغض النظر عن التبريرات الأخلاقية التفصيلية التى تقدم لها. والمثال الكلاسيكى لهذه العادة الاجتماعية - الذى تم الهجوم عليه فى البداية لأسباب برجماتية فى المقال الأول - هو «الرِّق».
وعلى هذا الأساس السابق، يشير مفهوم «الاتفاق الاجتماعي» إلى الاتفاق بين الأشخاص الذين يهتمون بموضوع أو موقف معين، وقد يعبر عن مجموع القيم والمعتقدات والاتجاهات التى يسلكها أعضاء ثقافة معينة؛ وتمثل إطارًا متفقًا عليه بينهم، وبذلك يكون «الاتفاق» أحد عوامل التكامل الاجتماعي، و«الاتفاق» هو نوع من التضامن والمشاركة فى القيم والأهداف والقواعد التى تحكم النسق الاجتماعي. وقد لا يكون «الاتفاق» كاملًا داخل البناء الاجتماعي، وقد يضم مواقف أو موضوعات معينة، كالتسليم بفكرة مثالية أو اختيار الحاكم أو ممثلى المجالس النيابية؛ أو موضوعات تتصل بأسلوب الحكم أو طريقته فى تطبيق القانون.
إن «الاتفاق» جزء ضرورى من مكونات النظام الاجتماعى العام، إذ يتعين أن يوجد قدر من الاتفاق العام حول شرعية النظام وتوزيع الأدوار وبناء المكانة وتحديد المسئوليات، ولكن من العسير تحقيق اتفاق أو إجماع مطلق فى المجتمعات الكبيرة أو المعقدة التى يوجد بها طبقات مختلفة المصالح، أو جماعات سلالية أو مذاهب دينية؛ أو مجتمعات محلية متنوعة، أو ثقافات فرعية عديدة أو توزيع غير متعادل للسلطة والقوة والدخل، أو تباين القدرات وفرص التعليم والموارد والمهن، وقد أكد علماء الاجتماع ضرورة توافر قدر واسع من «الاتفاق» على التدابير السياسية والدينية داخل المجتمع.