الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أوروبا والعالم الإسلامي (2)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يتابع ثلاثة من أشهر مؤرخى فرنسا، هنرى لورنس وجون تولان وجيل فينشتاين، فى كتاب ضخم بعنوان «أوروبا والعالم الإسلامى.. تاريخ بلا أساطير»، الذى نقله إلى العربية بشير السباعى، والصادر مؤخرا عن المركز القومى للترجمة، بقولهم: «لئن كان التراكم المثير للمعارف، الذى أتاحته المطبوعات، يسمح بفهم جوهر التنوير بوصفه مشروع بناء لكلية هذه المعارف وإضفاء معنى عليها؛ فإن مصدرين تاريخيين متمايزين يمنحانه توجهاته الخاصة. فأزمة الضمير الأوروبى، غداة حروب الدين، تفتح السبيل أمام نقد للدين يمضى فى اتجاه الربوبية [اللادينية] بأكثر مما يمضى فى اتجاه الإلحاد. وما أحرزته الدولة الحديثة من وجوه تقدم يميل إلى تقويض أسس المجتمعات النظامية القديمة. 
والحال أن كل المجتمعات الزراعية الكبرى قد أنتجت رؤية لنظام اجتماعى مستقر قائم على هيراركية نوعية وشرفية لجماعات وظيفية لا بد لكل واحد من أن يجد لنفسه مكانًا فيها. وقد وجدت المرتبة والتميز ترجمة مستديمة لهما فى تعريفات للأدوار الاجتماعية؛ حيث أمكن لمفاهيم النقاء وانعدام النقاء أن تكون عناصر تفرقة. وكان جوهر هذا التصنيف هو الوظيفة الاجتماعية التى يؤديها المرء، بينما كان جوهره فى أوروبا هو النسب. وتميل الملكية المطلقة إلى هدم هذا النظام بتركيزها حول نفسها جل السلطات وبتقليصها الامتيازات لاعتبارات تتصل بزيادة حجم الضرائب التى تقوم بتحصيلها. وقد يكون المثل الأعلى للبيروقراطية الملكية هو أن تكن لديها جماعة سكانية من الرعايا المتساوين فى الالتزامات، حتى وإن كان الملك وبلاطه يظلان الموقع الذى تعتبر فيه المزايا أكثر رسوخًا. ويسهم النقد الأرستقراطى للحكم المطلق من دون أن يدرى فى تقويض النظام الاجتماعى التقليدى بترجمته فى مصطلحات تاريخية، ما لم يكن فى البداية سوى إعادة توزيع وظيفى، ومن المرجح أن الثقل الذى اكتسبته وراثة ألقاب ومزايا الشرف كان المحرك لهذا التحول إلى التاريخ. 
والهدف الأول للتنوير هو تنظيم المعرفة وإضفاء طابع عقلانى عليها. لكن مشروع عقلنة المعرفة يجتمع، بعد عام 1750، بمشروع يتعلق بإدخال العقلانية فى النظام الاجتماعى. وفى منتصف القرن تحديدًا تتأكد فكرة التقدم فى توازِ مع انطلاق بطىء لكنه متواصل للنمو الاقتصادى. وإذا كان التقدم حركة، فمن الضرورى تحديد مرتكزات لقياسه. وأول هذه المرتكزات هو تاريخ أوروبا؛ حيث نرصد بالفعل الاختلافات فى الثروات والمعارف منذ القرن السادس عشر، فهو حقبة تُنهى همجية الأزمنة ط القوطية. أما ثانى هذه المرتكزات فهو المجتمعات غير الأوروبية، أى الشرقية. 
وفى حين أن راسين قد ذهب، فى المقدمة التى كتبها لمسرحيته بايزيد، إلى أن البُعد الجغرافى فى المسرحية قد عوض عن غياب البُعد الزمانى، فيصبح الشرق ضمنيًا وفجأة ماضيًا فى الحاضر، موقعًا نجد فيه من جديد ماضى أوروبا. وبحكم هذا، تمر سجالات القرن الكبرى بحقول الاستشراق. ومنهجية التنوير هى إعطاء معنى للمعارف المتكونة. والأمر كذلك بالنسبة للتاريخ العالمى. وفى ثمانينيات القرن الثامن عشر، ينبنى التصور الخاص بمسار التاريخ المتوسطى، وهو تصور سوف يُكتب له طول العمر فى البرامج المدرسية. ومن الواضح أن الأوروبيين يحتلون [فى هذا التصور] موقع نهاية التاريخ. وليس من الوارد أن يكون أناس العصور القوطية الأسلاف المباشرين. فالمعرفة تأتى من العرب الذين أخذوها بدورهم عن الرومان والإغريق. وبما أن الإغريق قد اعتبروا المصريين القدماء أسلافهم؛ فإن الأرض التى نشأت فيها العلوم والفنون تصبح مصر القديمة الملغزة، وهى مجتمع من المؤكد أن من أداره هو الحكماء الذين أعملوا فكرهم فى فك ألغاز الموت. 
والحال أن الإجيتومانيا [الولع بمصر] التى ميزت الجيل الأخير لرجال التنوير هى أداة فى النضال المعادى للمسيحية أو، بشكل أدق، نتاج استبدال لها. فالرغبة فى نزع المسيحية والتى خامرت الطرف الأكثر جذرية بين المنورين تصطدم بالعزاء القوى الذى تقدمه الطقوس المسيحية عند الموت. ولا غنى عن تكوين رمزية جنائزية جديدة، وبما أنهم يلحظون بشكل مشوش أن الجانب الرئيسى من الآثار التى خلفها المصريون القدماء، يرتبط بالممارسات الجنائزية، فإن الفن المتصرف سوف يعمل على منافسة الفن الجنائزى المسيحى فى حين أن الباطنية الماسونية سوف تزعم بشكل متزايد باطراد أن مصادرها مصرية. 
فى الربع الأخير من القرن الثامن عشر، يتمثل الاتجاه العميق للتنوير فى تحويل المعرفة إلى فعل سياسى، ومن هنا المراجعة التى لا ترحم للمؤسسات البشرية. وكما سوف يقال فى زمن الثورة الفرنسية؛ فإن التاريخ يكف عن أن يكون القانون، إذ حلت محله إعادة تنظيم عقلانية للمجتمع. والمعايير المستخدمة تمر بالمراعاة المتزامنة للفرد والجماعة. إذ يجب حفظ أو إقامة ما هو فى آنِ واحد مفيد للفرد وفى صالح المجتمع. والسعادة، وهى فكرة جديدة فى أوروبا، هى هذا النتاج المزدوج للتجديد الفردى والجماعى. 
وللحديث بقية..