الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الفلسفة ومفهوم الحقيقة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يلتزم الفلاسفة والمفكرون طوال الفكر الإنسانى بمعنى واحد لـ «الحقيقة»، بل كانت هناك معانٍ متباينة اختلفت وفقًا لاختلاف المدارس والمذاهب الفلسفية. فالفلسفة التقليدية كانت تنظر إلى «الحقيقة» بوصفها غاية لا وسيلة، وكانت تستخدم عبارات مثل: «البحث عن الحقيقة» أو «الوصول إلى الحقيقة» أو «البحث عن أصل الأشياء»، هذه العبارات تبين أن «الحقيقة» غاية نسعى للوصول إليها، فهى هدف نهائى للبحث والمعرفة وهى «شىء فى ذاته» يحاول الذهن أن يقترب منه، وهى موضوع نسعى إلى إدراكه. ويوحى ذلك الاستخدام التقليدى، بأن «الحقيقة» كيان ثابت ينبغى علينا معرفته بالتدريب. فهناك «عالم الحقيقة»، هذا العالم يتكشف لذهننا رويدًا رويدًا، وهو يبدو أمام هذا الذهن غاية قصوى لها قوام بذاتها. وقد أوضح أستاذنا المرحوم الدكتور فؤاد زكريا فى عمله الضخم «مشكلة الحقيقة»، أن الحقيقة يمكن أن تكون: مجموع القضايا أو الأحكام الممكنة بصدد موضوع معين، أو مجموع القضايا أو الأحكام الممكنة بصدد الوجود بوجه عام. والحالة الثانية هى الأكثر شيوعًا، إذ إن حقيقة الوجود كانت هى الغاية التى يسعى الفكر إلى كشفها وبلوغها فى ذلك التفكير التقليدى.
ويمكن القول، إن الفلسفات التقليدية لم تعالج معنى الحقيقة بوصفها علاقة أو مقياسًا للأحكام، بقدر ما عالجتها بوصفها كيانًًا ثابتًا. فمنذ العهود الأولى للفلسفة، كان يُنظر إلى الحقيقة بوصفها مرادفة للوجود أو لمعرفة الوجود. ويظهر هذا المعنى عند الفيلسوف اليونانى «بارميندس» كما يتجلى فى كتابات فلاسفة العصور الوسطى عن الحقيقة بوصفها مجموع الوجود أو مرادفة للألوهية، ويظهر كذلك عند الفيلسوف الفرنسى «مالبرانش» حيث رأى أن الحقيقة هى غاية نسعى إليها. وفى كل هذا التطور كانت الحقيقة مرادفة لمجموع الموجودات، أو لكل ما يمكن أن يقال فى مجموع الموجودات.
إن المشكلات الأساسية التى تنطوى عليها فكرة الحقيقة لم تُعرف إلا فى العصر الحديث، فمنذ عهد «كانط»، على وجه التحديد، لم تُبحث مشكلة الحقيقة على نحو دقيق إلا بعد أن تخلت الفلسفة عن ذلك المعنى التقليدى الذى كانت تُفهم به الكلمة، وهو المعنى الذى أدى إلى انحصار أبحاث هذه الفلسفة فى مشكلة الوجود أو المعرفة بوجه عام دون أن نتوصل إلى إدراك المشكلات المرتبطة بفكرة الحقيقة على التخصيص. ويمكن توضيح معنى «الحقيقة» فى اللغة المعتادة عندما نتحدث عن «حقيقة الشىء» مثلًا أو وصفه بأنه حقيقى أو أنه غير حقيقى، وذلك حين نصف حكمًا مثل «الذهب معدن» بأنه حقيقة. فما هو المعنى الدقيق لفكرة حقيقة الشىء هذه؟
يفرق الفيلسوف الوجودى «هيدجر» بين حقيقة الشىء وبين واقعيته أو وجوده الفعلى، فيرى أنه إذا أردنا أن نتحدث مثلًا عن الذهب الحقيقى تمييزًا له من الذهب الزائف، فالذهب ليس فى الواقع كما يبدو من مظهره. أنه مجرد «مظهر» ولهذا السبب فهو غير واقعى، وغير الواقعى يُؤخذ على أنه عكس الواقعى. ولكن الذهب المزيف (أى النحاس الأصفر المطلى بالذهب) يعد كذلك شيئًا واقعيًا. ومن أجل ذلك نعبر تعبيرًا أوضح فنقول: «الذهب الواقعى هو الذهب الأصيل» غير أن كليهما «واقعى» لا يقل الذهب الأصيل فى هذا ولا يزيد على الذهب الرائج غير الأصيل، إذن فإن حقيقة الذهب الأصيل لا يمكن أن تكون «مضمونة عن طريق واقعيته». ولكن السؤال ما زال قائمًا: ما المقصود هنا بالأصيل والحقيقى؟ الذهب الأصيل هو ذلك الشىء الواقعى الذى تنطبق واقعيته على التصور الذى نستحضره دائمًا فى أذهاننا عندما نفكر فى الذهب، وعلى العكس من ذلك، فإننا نقول عندما نشتبه فى وجود ذهب مزيف: «هنا شىء غير صحيح»، أما ذلك الذى يكون كما ينبغى له أن يكون فإننا نعلق عليه بقولنا: «صحيح» أى أن الشىء متفق مع ما يتوقع منه أو يراد له ومتطابق معه.
معنى هذا، أنه حين نقول عن الذهب المزيف أنه غير حقيقى لا نعنى أنه غير واقعى، بل نعنى أنه لا يتفق مع ماهية الذهب كما نعرفها. وعلى ذلك فحقيقة الشىء، فى رأى «هيدجر»، هى اتفاق الشىء مع ماهيته. ولكن هل يعبر «هيدجر» هنا عن حقيقة الشىء تعبيرًا دقيقًا؟ إذا أردنا الإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نتأمل هذا المثال ذاته فى صورته السلبية. فوصف الشىء – تبعًا لهذا التعريف – هو عدم اتفاقه مع ماهيته، أى أن الذهب المزيف هو الذى لا يتفق مع ماهية الذهب. وهذا يحتاج إلى مزيد من الإيضاح، ذلك لأنه ليس ثمة شىء لا يتفق مع ماهيته. وعلى ذلك فلسنا هنا بإزاء شىء لا يتفق مع ماهيته، وإنما نحن بإزاء شىء يتبين لنا أنه ليس من الماهية ما كنا نعتقد. فالشىء الذى نحن بصدده هو «النحاس» مثلًا الذى اعتقدنا خطأ أنه ذهب، فزيف الشىء فى هذه الحالة ليس عدم اتفاقه مع ماهيته، بل هو عدم انطباق اللفظ الذى يطلق على الشىء الماثل أمامنا، أو بمعنى أكثر وضوحًا ليس هناك شىء غير حقيقى فى ذاته، بل إن الشىء يكون حقيقيًا أو لا حقيقيًا تبعًا لصحة الاستعمال الذى تستعمل به اللفظ الدال عليه.
وحقيقة الشىء ليست صفة هذا الشىء نفسه، وإنما تحليل استخدام كلمة «الحقيقة» يؤدى بنا إلى القول إنها «علاقة» بين الشىء الذى يتم إدراكه والشخص الذى يُدركه. أعنى أن إدراك الشىء هو الذى يقرر حقيقته أو عدم حقيقته، أما الشىء نفسه فهو واقعى فحسب.