السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الكرة تتكلم!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ليس لأنها لفظ «مؤنث» وبما يتبع ذلك من إحالات نمطية عن كلام النساء، أو كما يعتقد بأنوثتها البرازيليون فى ثقافتهم الشعبية فيطلقون عليها مسمى «السمينة» أو «الطفلة»!، بل لأنها الشغل الشاغل بمفعولها السحرى العجيب أثرا وتأثيرا، مذ خرجت علينا كلعبة وصارت هوى شعبى ليس للفقراء وحسب، ونحن اليوم فى شهرها العالمى، أينما يممننا وجوهنا سمعنا صوتها وبكل اللغات! تدور الكرة ويدور العالم معها، أهى أفيون الشعوب؟ سؤال يطرحه إدواردو جاليانو، فى كتابه الممتع عن ذاكرة وواقع كرة القدم «كرة القدم فى الشمس والظل» ترجمة صالح علمانى، يستعرض هواها الأورجواوى، ملاعب من زقاق إلى ناد إلى استاد المحترف، ولاعبين من فقراء إلى أغنياء مدفوعى الثمن، ما كان هوس الناس فى موطنه وقارته اللاتينية، فحين يلعب المنتخب الوطنى تتوقف أنفاس البلاد، وسيراجع «جاليانو» سيرة المونديال منذ تأسيسه أول القرن الماضى إلى عامه 1994، وفى سرد حكائى وثائقى جاذب بفقراته وعناوينه، يجمع بين استخلاص حكمة التجربة الكروية العالمية واقتناص ساخر لمواقف مر بها لاعبون ورؤساء أندية ومشجعون ومُتاجرون، بل ولم ينس المشعوذين ورواج سوقهم بسحر الكرة، «جاليانو» يهدى كتابه لأطفال حيه من سمعهم يغنون: «ربحنا أم خسرنا لن تتبدل متعتنا»، ويتحسر على فقد الساحرة المستديرة لألقها بالارتجال المبدع للاعبين، المدافعين اليوم فقط عن مرماهم، كثيرو الركض قليلو المجازفة والمخاطرة بالهجوم على مرمى الخصم، وبما أسماه «تكتيك الخفاش»، كحيلة لكل خائف، فالكرة لعبة كما رقصة تبتدع موسيقاها.
وليس لى أن أجدف بمحاذاة سحرية «سِفر» جاليانو الموجه لكل قارئ، للهاوى كما المختص، كتاب يكاد يكون موسوعيا فى إحاطته بعالم المستديرة، إصدار متفرد ومثال معرفى ونقدى غائب عربيا عن شاغلة العالم، لكنى بمتعة قراءته تذكرت شغف والدى الذى كان لاعبا فى واحته الجنوبية، ويوم خسر أمام خصمه وقد كان شابا مدخنا توقف عنها وعن التدخين! «جاليانو» فى تقديم كتابه يفضى بسر فشله كلاعب فى بلد عنوانه هذه اللعبة، ويحتفى بالمقابل بتلذذه بمشاهدتها مادحا مبجلا بكلماته، كل صانع لعبة فى وقت يُمتدح فيه الربح وتغيبُ فيه المتعة.
كنت خصصت جانبا فى بحثى التراثي لألعاب فكرية وجسدية سادت فى الواحة الجنوبية ومجمل ليبيا، فوالدى ورفاقه مارسوا رياضات عدة، أولها المشى، حيث انعدام وسائل النقل بما نعرفه اليوم، وهذه الرياضة كما السباحة فى عيون واحتهم منحتهم أجسادا ممشوقة مشدودة بعيدة عن الترهل أو السمنة التى تصيب أهل المدن، مثل القاهرة، حيث أرصفة المشاة إما معدومة أو سيطرت عليها السيارات والباعة.
كرة القدم كانت فى تاريخها المعروف من الرواة والإخباريين تُلعب بغير موعد، وبكل مساحة بين اثنين أو أكثر ترمى على الارض ومن يسبق بمقدار خفة قدمه يجرى بها ويلاحقه الآخر محاولا الفوز بها، وهكذا دواليك وكل يمارس فنه بركلها والتحايل بمروره أمام الخصم بتمريرات فمراوغة وكر وفر، والمنتصر من يحوزها بين قدميه لوقت أطول، ثم صارت بين فريقين واتسعت دائرة التشجيع بالمتفرجين إذ يتجمع الرجال من مختلف الأعمار للفرجة فى ساحة معلومة، وتُصنع الكرة يدويا من بقايا الصوف وكل قماش زائد عن الحاجة (لاحقا خمسينيات القرن الماضى ستكون الجوارب المحشوة بالاقمشة،وستُعرف بـ«كرة الشخشير») ثم تخيطها الأمهات أو الأخوات ويحرصن على إتقان الخياطة كما خفة وزن الكرة، رغم أنها ستلعب أرضا فقط ولا مجال لطيرانها! لم تكن كرياضة هى الأولى شغفا وممارسة كما فى يومنا هذا معشوقة العالم.