الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

من أين نبدأ "1".. ليس من الإسلام مواجهة الآراء المخالفة باللجوء للسلطة القضائية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

هم الذين يعرفون أن كتاب «من أين نبدأ؟» لمؤلفه العالم الأزهري الفذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي «توفى عام 1966» كان «طرفا ثالثًا» في التى دارت عام 1950 بين الأستاذ خالد محمد خالد والشيخ محمد الغزالي، الذي كتب «من هنا نعلم» ردا على كتاب خالد محمد خالد «من هنا نبدأ». أهمية كتاب الصعيدي ليست مجرد أهمية تاريخية هدفها معرفة طرف مجهول في معركة فكرية شهيرة، بل تكمن أهمية هذا الكتاب بالأساس في قيمته الفكرية والتجديدية. 
ولن نكون مبالغين إذا قلنا لو أن الدولة أو مختلف الأنظمة السياسية التي تعاقبت على مصر منذ 1950 وحتى الآن قد تنبهت لخطورة الطرح الذي يقدمه «من أين نبدأ؟» عبر تدريسه للطلاب ونشره في مختلف وسائل الإعلام، لما كنا وصلنا إلى ما وصلنا إليه من إرهاب وعنف ونشر لأفكار من عينة: نظامنا غير إسلامي.. أو: الذي يحكمنا هو القانون الفرنسى وليست الشريعة.. أو: الخلافة الإسلامية هى النظام الإسلامى للحكم.
 تظهر قيمة «من أين نبدأ؟» التجديدية التى نحن فى مسيس الحاجة إلى نشرها وإذاعتها، وهذه مجرد أمثلة لأفكار قال بها عالم أزهري بارز في مساجلته مع الغزالي وخالد محمد خالد:
أولا: القانون المصري متوافق مع الشريعة الإسلامية، إن لم يكن نصًا، فهو متفق بالتأويل، والنص الوحيد الذي كان مناقضًا للشريعة هو قانون إباحة البغاء في أربعينيات القرن الماضي، وعندما احتج شيوخ أزهريون ضده تم إلغاؤه، ماعدا ذلك الدساتير المصرية المختلفة لا تناقض الشريعة.
ثانيا: الخلافة ليست هي النظام الإسلامي الوحيد، فكل حكم عادل هو حكم إسلامي، والدولة العثمانية التي كانت تسمى نفسها خلافة- برأي عبد المتعال الصعيدي- لم تكن تتفق مع مبادئ الإسلام.
ثالثا: جنسية المسلم هي وطنه الذي يعيش فيه، وهناك رابطة قلبية تجمع بينه وبينه المسلمين في مختلف أنحاء العالم. النقاط السابقة مجرد أمثلة لأفكار تجديدية قدمها وعرضها الصعيدى في «من أين نبدأ؟» الذي تنشره البوابة على حلقات طوال شهر رمضان المبارك، آملين أن ينتبه القائمون على المناهج التعليمية إلى أهمية ما يقدمه من أفكار عصرية ومن ثم يصبح مقررا دراسيا في مختلف مراحل التعليم- بعد صياغته تربويا- فبالتعليم- التعليم فقط- يمكننا محاصرة الإرهاب الديني الذي بات للأسف تهمة تلاحق الإسلام والمسلمين.


الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على محمد المبعوث لتجديد ما بَلِىَ من الشرائع قبله، وإصلاح ما أفسده فيها أهل الجمود من اتباعها، فكانت شريعته خاتمة الشرائع السماوية، لأنها تأبى الجمود، وتفتح باب التجديد، وتراعي ظروف كل زمان ومكان.
وبعد، فإن الأستاذ الفاضل الشيخ خالد محمد خالد ألف كتابه «من هنا نبدأ»، ولم يكن يتوقع أن يهتم الناس به إلى الحد الذى ظفر به، كما أنه لم يكن يدري ماذا يسميه، فقد كان يسميه قبل هذا- بلاد من- وشتان بين الاسمين، لأن موضوعه مقالات لا تهدف إلى غرض واضح، وليس فيها جديد تهدف إليه، وتستحق به اسما واحدا لا يتعداه.
ولولا تلك الضجة التي أحسن بها أناس إلى هذا الكتاب من حيث يريدون الإساءة إليه، لمضى حديثه كما يمضي حديث كل كتاب لا يهدف إلى فكرة جديدة، وليس فيه من عمق البحث ودقته ما يستحق كل هذا الاهتمام الذي ظفر به، فهم أولا لم يحسنوا مناقشته، لأنهم تربوا على مناقشات لفظية مألوفة لهم، فإذا تجاوزوها إلى غيرها بدا ضعفهم فيه، وظهر نقصهم واضحا لكل الناس، فيضعف بهذا ما يدعون إليه وإن كان حقا، ويقوي ما يدعو إليه غيرهم وإن كان باطلا.. وهم ثانيا حين أحسوا بأن مناقشتهم للكتاب لا توصلهم إلى مطلوبهم لجأوا إلى السلطة القضائية لتعينهم عليه، فجاء حكمها على غير ما يريدون، وظفر الكتاب وصاحبه بهذا عليهم، وبدا بهذا الظفر بطلا أمام الناس، فاهتموا به وبكتابه، وكان الفضل في هذا لأولئك الذين يحسنون إلى الشخص من حيث يريدون الإساءة إليه، ويسيئون إلى دينهم من حيث يريدون الإحسان به.
والحق أن الإسلام لا يعرف فى الدعوة إليه سبيل اللجوء إلى السلطة القضائية، لأنه من القوة، بحيث يفحم خصمه بالدليل الواضح، ويتغلب عليه بالحجة الناهضة، وقد حدَّد دعوته بالدليل والبرهان فى الآية -١٢٥- من سورة النحل «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»، وفى الآية -٤٦- من سورة العنكبوت «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»، فالدعوة فى الإسلام إنما تكون بالإقناع بالحكمة والموعظة الحسنة، لا بالاعتماد على القوة، وقد فتح فيه باب الجدال مع أهل الكتاب وغيرهم ليقولوا ما عندهم فى ديننا، ونردهَّهم إلى الصواب فيه بالوسائل المعروفة فى الجدال، ولم يستثن من هذا إلا الذين ظلموا منهم، وهم الذين يبغون علينا بالحرب، ويحاولون القضاء على ديننا بالقوة، فقد أباح لنا ديننا أن نقابل الحرب بالحرب، وأن نردَّ القوة بالقوة.
ولو أنا سلكنا هذا السبيل مع صاحب كتاب -من هنا نبدأ- فدعوناه إلى مجلس بين أهل الأزهر الذين ينتسب إليهم، وجادلناه فيما جاء فى كتابه بالتي هي أحسن، لاتفقنا وإياه على الحق فيه، ولعرف الناس السبيل الصحيح الذى يجب أن يسلكوه في أمره، ولم يمض الكتاب كما يمضي الآن لا يعرف صاحبه من أمره شيئا، ولا يعرف الذين فتنوا به من الناس حقيقة فتنتهم.. وإنى لا أسيء الظن بعقيدة صاحب هذا الكتاب، وإنما أرى أنه قصد الحق فأخطأه، وأخالف في هذا سبيل الذين يردون عليه وعلى أمثاله ممن يقصدون الحق فيخطئون، فإنهم يفترضون سوء النية فيهم عند الرد عليهم، فيجافي ردهم الإنصاف، ولا يصلون به إلى ما يقصدون من رد المخطئ إلى الصواب.


ويدخل فيهم إلى حدٍّ ما الأستاذ الشيخ محمد الغزالي في كتابه -من هنا نعلم- فهو يكاد يدخل صاحب هذا الكتاب في زمرة المناوئين للإسلام، ويضيف إليه أيضًا صاحب كتاب -الإسلام وأصول الحكم- كما يضيفني إلى هذه الزمرة، فيزعم أني حاولت هدم الحدود الإسلامية المستقرة في الكتاب والسنة، لأني زعمت أن الأمر بها للندب لا للوجوب، وأن الأمر لا يقتضي التكرار الدائم، ويدل بهذا على أنه لم يرجع إلى بحثي في هذا الموضوع، وعلى أنه لو رجع إليه لفهمه فهما سطحيا كما فهمه أمثاله من الذين يسيئون الظن بكل صاحب فكرة جديدة، فيشتبه عليهم أمرها، ولا يصلون إلى حقيقتها، وقد جعل كتاب الأستاذ الشيخ على عبدالرازق -الإسلام وأصول الحكم- أول الحركة المناوئة للإسلام، وجعل فكرتي في الحدود الإسلامية ثاني هذه الحركة، وجعل كتاب الأستاذ الشيخ خالد محمد خالد ثالث هذه الحركة، فقال: ثم صدر أخيرا كتاب -من هنا نبدأ- للشيخ خالد محمد خالد، وهو الكتاب الذي أفردنا للرد عليه هذه الرسالة، وقد تضمن آراء جديدة وأخرى مشابهة لما سبق أن أبداه الشيخ على عبدالرازق، وقد أحزننا أن وجدنا فيها من الشطط والخلط ما يمرق بالناس عن الإسلام لو بدأوا الفهم والإصلاح من عندها كما يريد الأستاذ.


وإذا كان هذا رأى الأستاذ الغزالي فينا فإن لنا أسوة بمن ساء رأيه فيهم من سلفنا في كتابه «الإسلام المفترى عليه.. بين الشيوعيين والرأسماليين»، كعثمان ومعاوية وكعب الأحبار وغيرهم من جمهور السلف، فقد وضعهم في كفة ووضع أبا ذر الغفاري في كفة أخرى، فشالت عنده كفتهم ورجحت كفة أبى ذر، لأنهم أحدثوا بعد أبى بكر وعمر ما أحدثوا، شيدوا البناء، ولبسوا الناعم، وركبوا الخيل، وأكلوا الطيبات، وكان أبو ذر من الزاهدين، فأراد أن يحملهم على ما يراه من الزهد، فلم يسمعوا له، لأنه كان يرى ألا يُكنز شيء فى بيت مال المسلمين، بل يصرف على فقرائهم أولا بأول، وكان يرى أنه لا يصح للشخص أن يقتنى أكثر من قوت يومه، وكان بالشام ومعاوية والٍ عليها، فقام بين أهلها وجعل يقول: يا معشر المسلمين، واسوا الفقراء، بَشِّر الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاوٍ من نار تكوي بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، وقد دعاه عثمان إليه وسأله عن رأيه فذكره له، فقال له عثمان: يا أبا ذر، عليّ أن أقضى ما عليّ وآخذ ما على الرعية، ولا أجبرهم على الزهد، وأن أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد
وكان كعب الأحبار حاضرا، فأيد فتوى عثمان، فقال له أبو ذر: يا ابن اليهودي، ما أجرأك على القول فى ديننا! وقد ذكر الأستاذ الغزالى أن هذا من كعب الأحبار ليس إلا دسّا يهوديا لإفساد الإسلام، بعد ما أفلح فى دسه اليهودى فى التخلص من عمر، وإنى لا أمنع الأستاذ الغزالى ولا غيره أن يسيء رأيه فى كعب الأحبار وفيما يرويه من الأخبار، ولكن هذا لا يصح أن يتخذ ذريعة للطعن فى عقيدته، ولا وسيلة للتشكيك فى إسلامه، فقد صحب عمر وعثمان وغيرهما من الصحابة، فلم يطعن أحد منهم فى عقيدته، لأنهم لم يكونوا يجازفون بالطعن في العقائد كما يجازف الأستاذ الغزالى وأمثاله.

ولعل الأستاذ يعرف خطأه معى بعد أن كاد الإخوان المسلمون يرجعون إلى فكرتي في الحدود الإسلامية، كما يؤخذ من نشرة -دستورنا- للأستاذ الهضيبي وغيرها من نشراتهم.
ونعود إلى كتاب- من هنا نبدأ- فقد ضمنه صاحبه هذه الموضوعات:
١- الدين لا الكهانة ٢- الخبز هو السلام.
٣قومية الحكم ٤- الرئة المعطلة.
ثم ذكر أن كتابه يجئ في أوانه ليقول للمجتمع: لا تخف، وليزيح من طريقه تلك الأشباح التي تخيفه وتخذله، وتملؤه روعا ورعبا، كما يهيب بالمواطنين جميعا، حكومة وشعبا وأفرادا، أن يتحملوا تبعات الرشد فى شجاعة وغبطة، وأن يتقبلوا الواجبات الجديدة التى تفرضها علينا الحياة وظروفها، وأن يكون كل مواطن منا أداة حية تساهم فى التحول الاجتماعى الرشيد الذي نتوق إليه، والذي يجب أن يبدأ فورا، ويتم سريعًا.
ثم قال: وقد تعجل فتسأل: ما هو هذا التحول الاجتماعي؟
وكيف يكون؟
وأجاب عن هذا السؤال بأن كتابه يحاول محاولة صادقة أن يجيب عنه، فهو يرسم الخطوط الرئيسية لتحول اجتماعى وديع يفضي بنا إلى قومية شاملة لا تنافر فيها، وإلى اشتراكية عادلة لا استغلال ولا ظلم فيها، وإلى وعي ناضج سليم لا سلطان للرجعية ولا للكهانة عليه، وإلى سلام غامر يبدل حقد المجتمع حبا، وتربصه ولاء وأمنا، وقلقه استقرارا وغبطة وسكينة. ثم قال: وإني إذ أقدمه لمجتمعنا المصري، أقدمه لكل مجتمع عربي، فإن ما بين مجتمعاتنا من تشابه، وما بين أوضاعنا من تماثل، يجعل الحديث عن أحدها حديثا عنها جميعا.
وقد أردت بكتابى -من أين نبدأ- أن أبين لصاحبى هذين الكتابين- من هنا نبدأ، ومن هنا نعلم- الحقيقة فى هذه الموضوعات السابقة:
١الدين لا الكهانة ٢- الخبز هو السلام.
٣قومية الحكم ٤- الرئة المعطلة.
ولما كان من أهم رواج كتاب -من هنا نبدأ- ما فيه من دعوة إلى الاشتراكية، لأن الشيوعية والاشتراكية هما حديث الناس فى هذه الأيام، رأيت أن أضيف إلى بحث هذه الموضوعات فى كتابى هذا البحث -الشيوعية والإسلام- ليعلم الناس أن للإسلام اقتصادا مرنا صالحا لكل زمان ومكان، وإنا إذا حملناه على اقتصاد واحد من الاقتصاد الرأسمالى الاشتراكى أو الشيوعى نخرج به من دائرة المرونة إلى دائرة الجمود، ولا شك أن من أهم ما يمتاز به الإسلام صلاحية أحكامه لكل زمان ومكان، فليكن له اقتصاده المرن الموافق لما تمتاز به أحكامه من المرونة، ليكون صالحا لجميع الشعوب، وموافقا لكل زمان ومكان، وبهذا يعلو اقتصاد الإسلام على الاقتصاد الجامد فى الشيوعية والاشتراكية والرأسمالية، فإذا أردنا أن نبدأ باقتصاد جديد وجدنا فى الاقتصاد الإسلامى ما يصلح لكل الشعوب، فيبدأ كل شعب بأخذ ما يصلح له منه، ومن هنا يكون بدؤنا فى الاقتصاد لا من الاقتصاد الاشتراكى الذى يدعونا صاحب كتاب -من هنا نبدأ- إلى الأخذ به والجمود عليه، فيلتبس عليه الجمود بالتجديد، والتضييق فى الاجتهاد بالتوسع فيه، وفى الاختلاف فى الاجتهاد رحمة بالناس، وهذا أمر يعلمه صاحب كتاب -من هنا نبدأ- ولسكنه بدأ حياته بتزمت ديني، وأراد أن يختمها بتزمت آخر يظنه تجديدا وما هو بتجديد، لأن الطبع يغلب التطبع، والله الهادى إلى سواء السبيل؟

رجال الدين فى الإسلام
(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) قرآن كريم.
وظيفة رجال الدين فى الإسلام:
هذا موضوع نبحث فيه ما بحثه الأستاذ خالد فى موضوع -الدين لا الكهانة- فقد يخيل إلى بعض الناس أن الإسلام لا يقر أن يكون فيه رجال دين، كما لا يقر أن يكون فيه ما كان فى الأديان من الكهان، وهذا خلاف الحقيقة فى الإسلام، لأنه أمر بأن يكون فيه رجال دين يرجع إليهم فيه، كما جاء فى الآية ١٢٢ من سورة التوبة (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).
فهذا صريح فى أنه لا بد فى الإسلام من طائفة تقوم بالتفقه فى الدين، وتأخذه على من تفقه فيه قبلها، ويكون هذا على سبيل فرض الكفاية، فإذا قام به من يكفى فيه من المسلمين سقط الطلب عن الباقين، وإذا لم يقم به من يكفى فيه منهم أثموا جميعا بإهمالهم له، وإذا تفقهوا فى دينهم كانت وظيفتهم فى المسلمين وظيفة وعظ وإرشاد، لا وظيفة تسلط وحكم، كما قال تعالى فى الآية السابقة (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)، فليست لهم هيمنة على عقائد الناس، وليست لهم سلطة على غيرها من أمور دينهم أو دنياهم، وإنما هم وعاظ ومرشدون يؤدون وظائفهم بالتى هى أحسن، فمن شاء عمل بإرشادهم، ومن شاء لم يعمل به، فمن عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها، ولا تزر وازرة وزر أخري، وما على رجال الدين إلا أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ليقوموا بما أمرهم الله فى الآية -١٠٤- من سورة آل عمران (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وشأن رجال الدين فى الإسلام كشأن علماء الطب فى الطب، وشأن أهل كل علم فى علمهم، فكما لا يصح لغير رجال الطب أن يفتى فيه، ولغير أهل كل علم أن يزاحمهم فى علومهم، لا يصح لغير رجال الدين أن يفتى فيه، بل يجب على من ليس من رجال الدين أن يرجع إليهم فى معرفة أحكامه، والوقوف على حقيقة أصوله وفروعه، حتى لا يكون أمر الدين فوضى كما هو بيننا الآن، يتكلم فيه الطبيب، ويتكلم فيه المهندس، ويتكلم فيه الصانع، ويتكلم فيه التاجر، ويتكلم فيه كل من عرف القراءة والكتابة، كأن الكلام فى الدين من السهولة إلى هذا الحد، وكأن حرمه أقل تقديسا من حرم الطب وغيره من العلوم.
وقد كان لهذه الفوضى أثرها السيئ فيما يصدر من الفتاوى الدينية فى عصرنا، لأنها صارت بحيث يحسب فيها حساب لهؤلاء الطفيليين على علوم الدين من العامة وأشباههم، حتى إنها لتأتى أحيانا على أهوائهم، ويساء فيها إلى الدين إرضاء لهم، فيجب أن يوضع حد لهذا العبث فى الدين، حتى لا يسمع فيه لغير رجاله، وحتى يفتى فيه بما يوافق الحق فيه، رضى أولئك العامة وأشباههم أو سخطوا، سكنوا إلى ما يفتى فيه أو ثاروا، كما كان الشأن فى هذا على عهد سلفنا الصالح، إذ كان فيه لعلوم الدين رجالها، وكانت الفتوى فيها لا تصح إلا منهم، ولم يكن لغيرهم أن يعقب بشيء على فتواهم، فاستقامت بهذا أحكامهم وفتاواهم، ولم تأت على شهوة أحد من الناس، لا من الحكام ومن فى طبقتهم، ولا من العامة وأشباههم، مع الفرق البعيد بين عامتنا وعامتهم، ولكن الزمان كان مستقيما فى عهدهم، فعرفت كل طبقة فيه قدرها، وتناولت كل طبقة فيه ما تحسنه، ولم تتطلع إلى ما يحنه غيرها، وما أجدرنا بالأسوة فى هذا بهم، ليستقيم أمر الدين بيننا، وتعود له حرمته وقداسته فى عهدهم.