الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الديمقراطية بين الممارسات والشعارات «2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا ينبغى أن يتشدق أحدنا بما كان يحدث فى العصر الذهبى للسياسة المصرية، أعنى التجربة الحزبية الثانية من عام ١٩١٩م إلى ١٩٥٣م، وهى تلك الحقبة التى شهدت أقطاب التنويريين يحكمون ويشرعون ويدافعون عن الحقوق ويحترمون القانون وينتقدون السلطة الملكية والحكومة ويعارض بعضهم البعض ويتساجلون تساجل الأيقاظ الأصحاء دون أدنى مساس بمصلحة مصر. فإن مثل هذه المظاهر غابت تمامًا عن المسرح السياسى الذى نعيشه، وعليه يجب الحديث على أرض الواقع. 
ونتساءل من جديد: هل رجل الشارع وطلاب المدارس والجامعات وعمال المصانع والحرفيون والموظفون والفلاحون تدربوا على العمل السياسى حتى يتسنى لهم ممارسته؟ أم ما زالت تقديراتهم وترشيحاتهم وقراراتهم تعود إلى العصبية القبلية أو العرقية أو الدينية أو إن شئت قل الأيديولوجية؟ 
أليس الوعى هو الذى يجب أن يقودهم جميعًا ويكون هو الشرط الأول للترشح لعضوية الأحزاب والبرلمان واللجان المختلفة فى المحليات؟! وهل لدينا مؤسسة قومية واحدة لصناعة قادة الرأي؟
الحق أن فلاسفة السياسة قبل المثقفين والمناضلين الثوريين لم يفلحوا فى الإجابة عن هاتيك التساؤلات، وذلك فى ظل المفهوم التطبيقى للديمقراطية المعاصرة التى يمكن وصفها بأنها إحدى أركان مربع وهمى افتراضى يشغل الدين، والدولار، والدمار باقى أركانه، أما مركزه فشاغل بكائنات لا تُرى، تروح وتغدو بين أطراف هذا المربع لتصطنع أوهاما تصدرها للمشاهدين أو إن شئت قل المواطنين. 
أجل إن الديمقراطية المعاصرة أضحت أيديولوجية يفرضها الأقوياء على الضعفاء، فتقوم الحروب باسمها ويتآمر بها الأذكياء على الأغبياء، فتنشب الثورات وتخرج المظاهرات لقلب الأنظمة وإحداث الفوضى، ويُنظر إليها على أنها ضد الدين وسلاح العلمانيين ومن ثم يجب أن يجيش ضدها الجيوش وتسفك من أجلها الدماء. وفى كل الأحوال يقف العقل ساخرا على زاوية الفوضى التى تلعب الدور الرئيس على رقعة الشطرنج التى لا معالم لها ولا قطع تتحرك وفق قانون ثابت. 
ونعود ثانية لطرح الأسئلة، وذلك لنؤكد أن مصطلح الديمقراطية فعل وليس اسما، مشروع لا خطابا، الأمر الذى يدفعنا إلى الحديث عن آليات ذلك الفعل ومقومات هذا المشروع.
دعونا نتفق أن إزالة الأوهام من العقل الجمعى تحتاج إلى تنظيف مرآة الوعى والنقد والإصلاح لكل فرد فينا ثم تنتقل بعد ذلك مباشرة إلى العقل الجمعى التابع والقائد معًا. وأولى هذه الأوهام هى عبادة البطل وتقديس الحاكم باعتباره هو المسئول وحده عن تسيير الحياة السياسية وضبط إيقاع المجتمع فى شتى نواحيه، وينحدر ذلك الوهم من موروثاتنا الثقافية التى تجعل الحاكم هو ظل الله على الأرض، وأن جلوسه على كرسى الحكم قدر لا فكاك منه، ومن ثم وجبت طاعته والانصياع إلى أوامره والدعاء له من فوق المنابر عقب كل صلاة، أما مناقشته أو مراجعته أو عصيانه فهو إثم وجريمة تتدرج درجاتها إلى أن تصل للمروق أو العصيان أو الخيانة أو الكفر. وفى ظل ذلك التواكل المذموم من قبل الشعب تختفى الديمقراطية تمامًا من المشهد، وتصبح الأركان الثلاثة المتبقية من مربع الفكر السياسى تحوى الدين والدولار والدمار.
فما أسوأ أن تستحل السياسة إلى دين يلقى بالشعب فى أتون الطغيان وسجن الاستبداد انطلاقًا من تفسيرات شيطانية لنصوص تبرأ من هذا وذاك، وما أقبح أن تؤول قيادة الديمقراطية إلى الدولار حيث تحكم الأغنياء الأقوياء فى رقاب عبيد لقمة العيش من الشعوب الفقيرة التى شل إرادتها العوذ وقيدت عقولها الديكتاتورية، وبالطبع سوف تقودنا نقائض الديمقراطية (الاستبداد والانتهازية) إلى الصراع ودمار المجتمع. 
وإذا كان البعض يستحسن ذلك المعتقد اقتفاءً لما كتبه الحكماء فى أحاديثهم عن السياسة الشرعية، سواء فى المسيحية أو الإسلام عن حق الإمام أو الخليفة على الرعية، فنرد أن الطاعة والتأييد والمؤازرة والمعاونة والإخلاص والولاء، وغير ذلك من مظاهر الاحترام والتبجيل لم يجعلها فلاسفة السياسة ومن قبلهم الفقهاء والمتكلمون فى الإسلام، حقوق مطلقة للحاكم بغير ضوابط وشروط، وأهم هذه الشروط هو أن يعامل الحاكم الشعب بما يرضى الله ورسوله، وبمعنى آخر على ذلك الحاكم أن يتحلى بالصفات التى تؤهله ليكون بمثابة الأب لأبنائه فلا يظلمهم أو يقهرهم أو يعرضهم للمهالك أو يفرق بينهم فى الحقوق والواجبات.
ولما كانت هذه المثل أقرب إلى الأخلاق ولغة الوعظ، فقد حرص العقل الجمعى على وضع الدساتير والعقود والقوانين فى النظم الديمقراطية لتحديد العلاقة بين الحاكم والشعب. 
وللحديث بقية.