الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عن حرية الرأي وصدم الشعور الجمعي مرة أخرى 2/2

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كما نرى من جهة أخرى ارتفاعَ حِدّة الأطروحات «المراجعاتية» وتشكيكها فيما تعتقده شرائح أخرى من أساسيات وجودها وتاريخها مثل قضايا الانتماء وخصوصياته الإتنية والثقافية. يبدو سرُّ التطرُّف فى المواقف من هؤلاء وأولئك حاصِل قرون طويلة من الرواسب المختلفة ثقافية اجتماعية سياسية. ونتيجة عهود من انصهار مكونات العقلية الشرقية (بالمفهوم الحضارى لا الجغرافى)، ومنها الأنانية والعصبية والتعالي. وهى أمور مرتبط بعضها ببعض بشكل يصعب معه فرزُها أو تمييزُها. تجدها عند الجميع جلية أو ضمنية، وفى كل المستويات جملة وتفصيلا. فى القمَّة وفى القاعدة عند النخب والخاصَّة وعند العامة. كلٌّ يعتقد فى نفسه الكمالَ وأنه المُحقُّ والأفضل، والآخرون دونه فى كلِّ شىء، وبالتالى فهم ملزَمون باتباعه والأخذ برأيه، ويستند فى موقفه هذا إلى شرعيةٍ ما، تجعله يتمسَّك بموقفه وبرأيه رافضا التخلِّى عنه مهما كانت الدواعى والأسباب. فتتضارب المرجعياتُ والخلفيات الفكرية ويصطدمُ بعضها ببعض، فيؤدِّى ذلك بالنتيجة إلى تضارب الآراء والتوجهات والمقاصد والأهداف. 
والغريب أن الشرعيات التى يستند إليها كلُّ طرف، وهى فى هذه الحالة القيم الدينية الإسلامية، أوامر الدين ونواهيه من جهة، والقيم الغربية (مما يسمِّيه البعض تطورا وتنويرا وحداثة) من جهة أخرى، وإلى حدٍّ ما الانتماء إلى هذه القومية أو تلك من جهة ثالثة، لم تُفلِحْ فى تشذيب العقليات والحدِّ من غلوائها مع تأكيد نصوصها الأساسية على ضرورة التعايُش والاحترام. وقد أثبتت الأيام والتجارب أنّ العيب ليس فى النصوص فى حدِّ ذاتها، بل فى التفسيرات والقراءات والتأويلات التى تُعطى لها. 
المواقِف المُتطرِّفة ضربٌ لكل الجهود التوفيقية الشرقية التى بُذِلت على مدى قرنين، بحثا عن صيغة تعايشية بين أوامر الدين ونواهيه وقيم التقدُّم والتطوُر الغربية. صيغة تكفل احترام كلٍّ منهما للآخر وقبوله، بما لا يؤدِّى إلى تعارُضهما أو إلى تطور الأمور إلى الأسوأ، فالآخر يراقب المواجهة مُنتظِرا (كعادته) أى فرصة للتدخُّل.
وهى تمثِّل من جهة أخرى ما سبق وعبَّرنا عنه فى مناسبات مختلفة بمفارقة الزمان والمكان أو الاغتراب الزمانى بالنسبة لهؤلاء والاغتراب المكانى لأولئك مع الازدواجية التى يعانى منها كل طرف: تاريخية بالنسبة لهؤلاء وجغرافية لأولئك. 
التصريحات تُعطى مرة أخرى صورة عن الانفلات الذى يحدُث من حين لآخر، متجاهلا ضرورة مراعاة الظروف والحساسيات. مما يوفِّرُ لدعاة التطرُّف فُرَصا أخرى للتدليل على سلامة مواقفهم وشرعيتها لدى العامة والشرائح الاجتماعية الواسعة وادِّخارها لوقت الحاجة من جهة ويُعطى للآخر القوى (للغرب) فرَصا مجانية لمزيد من التدخُّل فى شئوننا وخصوصياتنا من جهة أخرى. 
لذا تكون القضية المؤرِّقة للجميع وفى كلّ المستويات هى كيفية إيجاد سُبُل موضوعية كفيلة بالحدّ من التنافر والمواجهةِ والمحافظة على حدٍّ أدنى من التعايُش فكريا بين التيارات المختلفة، كى تتعايش ماديا ميدانيا بعد فشل السُّبُل أو العوامل الذاتية فى إيجاد هذا الحدّ الأدنى، هنا لا مفرّ من الاقتناع بأنّ اللهَ «يزعُ بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» فتأتى القوانين المُنظِّمة لكيفيات التعامل مع الأساسيات والثوابت الدينية والوطنية والمدنية بما يحفظ حقوقَ الجميع ولا يؤدّى إلى استقواء هذا على ذلك. نشير هنا إلى أنّنا لا نطالب بتكميم الأفواه ومنع النقاش، بل بتنظيم مساحات التفكير ومرور الأفكار فى مختلف الاتجاهات والسبل دونما تصادُم أو تجاوز. فى بلدان أوروبية بعينها كفرنسا مثلا توجد قوانين تُجرِّم تجاوز الحدِّ فى نقاش قضايا معينة، مثل معاداة السامية مثلا ومراجعة ما رسخ فى أذهان الناس من ممارسات نازية فاشية تجاههم وتجاه غيرهم فى النصف الأول من العقد الخامس من القرن الـ٢٠، كما تُجرّم ممارسات أخرى متعلِّقة بالتاريخ الوطنى الفرنسى أو بقوانين الأحوال الشخصية، وما إلى ذلك أو بتهديد الحريات الخاصّة والعامّة وما يتعلَّق بها ممّا يحفظ النِّظام الآمن (بعيدا عن المفهوم البوليسي) الاجتماعى ويولِّد الوئام والتفهُم والتفهُّم المتبادل، فتنصرف الجهود فردية وجمعية إلى الأمور الجادّة بدلا من تضييع الوقت فى الجدل العقيم وإذكاء نار الفرقة وإثارة القضايا الوهمية والمعارك الخاطئة.
أخيرا لا يخفى أنّ الضعفَ الذى يعترى الأممَ والشعوبَ فى بعض الفترات فى جوانب بعينها هو ما يفتح سُبُل الاختلاف والتنافر والجدل بين نُخب المجتمع وشرائحه جملة وتفصيلا.