الجمعة 07 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

السوريون في مصر.. مليون لاجئ يعزفون على أوتار الغربة (ملف)

احتفالات سوريين في
احتفالات سوريين في مصر
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يعيش الشاب السورى محمد عبدالعزيز فى الإسكندرية، ويحمل شهادة بكالوريوس الطب من جامعة طنطا، لكنه لا يعمل طبيبًا بهذه الشهادة، لأنه وغير من السوريين ممنوعون من الحصول على رخصة «مزاولة مهنة». يقول محمد لـ«البوابة»: «عشت فى مصر سنوات عديدة، أثناء وبعد الدراسة، لكنى لم أتمكن من العمل بشكل رسمي، أحصل على تدريب تابع للوزارة فى مستشفى التأمين الصحى بالإسكندرية، وهو مدفوع الأجر مقابل آلاف الجنيهات سنويًا».


لم يتمكن الشاب صاحب الثمانية والعشرين عامًا من مقابلة أبيه وأمه المقيمين فى الإمارات منذ سنوات، «أبرز مشكلة تواجهنى وعدد آخر من السوريين هى لم الشمل فلا نستطيع لقاء أهلنا، ورغم فتح السلطات المصرية باب الزيارة لمدة شهرين خلال الفترة الماضية، إلا أن والدىّ لم يتمكنا من الدخول، وتم رفض تأشيراتيهما.. كل أملى لقائهما».
محمد.. واحد من عشرات الآلاف من السوريين فى مصر، الذين تعد معاناة بلدهم «أكبر أزمة إنسانية ولجوء فى عصرنا»، بحسب تعبير الأمم المتحدة، التى تؤكد فرار أكثر من ٥ ملايين شخص من سوريا منذ عام ٢٠١١ بحثًا عن الأمان. وقدرت هيئة مفوضية شئون اللاجئين عدد السوريين فى مصر بنحو ١٧٠ ألف شخص، لكن هذا الرقم لا يشمل الطلاب ورجال الأعمال وغيرهم ممن وصلوا إلى مصر برًا عن طريق السودان، أو عبر المطارات، ويعيشون على نفقاتهم الخاصة، ولا يتقاضون أية مساعدات من المفوضية.
ينتشر السوريون فى مدينة السادس من أكتوبر التى تعد بمثابة «عاصمة السوريين فى مصر»، ويتخذون من أحياء المدينة المختلفة مكانًا للسكن والعمل، فقد أقاموا فيها المطاعم والمحلات، بالإضافة إلى بعض المدارس الخاصة بهم، كما يتخذ بعضهم من مدينة العاشر من رمضان مكانًا للإقامة، بجانب الإسكندرية ودمياط وغيرهما.
ينفق الطبيب الشاب شهريًا على زوجته وطفليه من خلال المعونة المالية التى تقدمها المفوضية، «٤٠٠ جنيه فقط يتلقاها الفرد منا شهريًا من المفوضية، وقد يتم أحيانًا توزيع سلال غذائية، كما أحصل أحيانًا على ١٠٠ جنيه عند العمل فى الورديات (المناوبات) بالليل بمستشفى التأمين الصحي.. قد أعمل ١٠ مناوبات فى الشهر.. أوضاعنا صعبة، لكن نشكر الله على كل حال».
ويعدد محاسن الإقامة فى مصر عن غيرها، بقوله: «لقد وجدنا الترجيب الكبير من الشعب المصرى الطيب.. ووجدنا تسهيلات بالسماح للشباب بإقامة مشاريع خاصة، وهذا ممنوع فى دول أخرى، كما أنه تم السماح للسوريين بتلقى الخدمة العلاجية فى المستشفيات، والحصول على تعليم مجانى فى المدارس الحكومية المصرية.. وهذا جهد تشكر عليه الدولة».


مجتمع إلكترونى 
وقد نجح السوريون فى مصر فى تجميع أنفسهم، وتكوين مجتمع فعال يساعد بعضه من خلال موقع «فيسبوك»، إذ أنشأوا مجموعة «جروب» تضم أكثر من ٧٠ ألف شخص باسم «العائلة السورية فى مصر». يقول طارق الشيخ، أحد مؤسسى هذا الجروب: «إنه مخصص لأى حاجة يريدها السورى فى مصر، ويجد صاحب المشكلة تعاونًا من الجميع سواء كانت الاحتياج للمال، أو لديه سؤال عن شئون الإقامة المختلفة، مثل معلومات عن السكن أو العلاج أو التعليم». الجروب بات بمثابة إعلانات حائط بالنسبة للجالية، يعرض فيه كذلك الأخبار المهمة التى تخص الجالية، مثل موعد صرف المقابل الشهرى المقدم من مفوضية اللاجئين، أو أية إجراءات خاصة بزواج السوريين وتجديد تصاريح الإقامة أو إجراءات السفر من وإلى مصر، وكذلك إعلانات العقارات والوظائف والسلع.
وعن أبرز المشاكل التى تعرض على الجروب، ينوه طارق بأنها تتثمل فى إجراءات الحصول على تصاريح الإقامة والسفر من مصر خصوصًا للذين دخلوا عبر السودان بطريقة غير شرعية، بالإضافة إلى حاجة كثيرين للإغاثة، دون أن يجدوا مساعدًا لهم، فضلًا عن مشاكل التحاق بعض الطلاب بالمدارس والجامعات، مما يمنعهم من استكمال تعليمهم.

سهرة في حب الوطن 
بصوت عذب، وأصابع تتحكم فى العود، يشدو الأربعينى السورى أنس الخالد أغنية «أنت عمري» للراحلة أم كلثوم، بينما حلقة من السوريين حوله على مقهى شعبى فى مدينة السادس من أكتوبر لا تتوقف عن التشجيع، حتى إذا انتهى من مقطع طلبوا منه إعادته.
وبعد الانتهاء من «أنت عمري»، بدأ المطرب الهاوى بأغنية وطنية سورية، مما دفع جميع الحضور إلى الصمت، وحبس الأنفاس، مسترجعين فى الذاكرة شوارع بلدهم ومنازلهم ومحبيهم، ماذا كانوا، وكيف أصبحوا... هذا مشهد واحد للسوريين الذين يحاولون الترفيه عن أنفسهم مع كل ما يعيشونه من ظروف، راقبناه من بعيد ولم نخترقه بأى حديث.

رئيس هيئة اللاجئين: الروتين يمنع استثمار بالمليارات 
بعض العوائق التى يواجهها السوريون فى مصر تتمثل فى جهل البعض لما يحدث فى سوريا واتهامه لكل السوريين بالإرهاب، وقد يمتد هذا الجهل إلى عاملين بأجهزة الدولة، يعممون التهمة على كل من هو سورى، رغم أن المعلوم أن المقاتلين السوريين لا تقارن أعدادهم بالأجانب الذين دخلوا البلاد يقاتلون، إما إلى جانب جماعات الإرهاب مثل «داعش» و«النصرة» وغيرهما، وإما إلى جانب بشار الأسد، بحسب بعض السوريين الذين رفضوا الكشف عن هويتهم.
وهذه الاتهامات والاعتقاد الخاطئ بأن كل ما هو قادم من سوريا «إرهاب» يمنع استثمار أموال رجال الأعمال والتجار السوريين فى «أرض النيل»، واتجاه مليارات الدولارات إلى بلاد أخرى مثل لبنان
يقول تيسير النجار، رئيس الهيئة العامة السورية للاجئين: «لبنان به إيداعات سورية تتجاوز ٢٠٠ مليار دولار، ونفس الشيء فى الأردن والسعودية، وهذه بلاد فتحت أسواقها أمام رأس المال السوري، ومصر أولى بهذه الاستثمارات التى ستنعش السوق المصرية لا محالة وتحسن الوضع الاقتصادي».
ويتابع: «كما أن بعض الجهات الأمنية ترفض للسوريين المقيمين هنا إنشاء بعض المشروعات، منهم من حاولوا استخراج سجل تجارى لمصانعهم، ولكن لم تتم الموافقة الأمنية لهم، فأغلقوا هذه المصانع بعد افتتاحها».

العودة للوطن
وبخصوص العودة إلى أرض الوطن، لا يبدى رئيس هيئة اللاجئين أى تفاؤل ويقول: «هربنا من جرائم بشار الأسد، ويبدو أن الأمل فى الحل السياسى ورجوع أرضنا كسابق عهدها أمر صعب، فى ظل استخدم السلاح الكيميائى وتمسك كل طرف بمطالبه بناء على التوجيهات الدولية التى تملى عليه، لكن حزنى أن العرب تركونا، ولم ينجحوا فى إيجاد مشروع موحد لوقف نزيف دماء الملايين».
ويشير إلى أنه اقترح على جامعة الدول العربية إنشاء هيئة للاجئين العرب لمساعدتهم، «فى ظل الفساد الذى يغرق مفوضية الأمم المتحدة، ولكن لا أحد يلتفت لذلك المقترح».
ومع اقتراب عيد الأضحى، يقول: «أسوء الأوقات التى تمر علينا هى الأعياد والمواسم بشكل عام، نحن محرومون من فرحة أى عيد، بل نعيش فى أحزان خلال هذه المناسبات التى تذكرنا بشدة ببلدنا، مع البعد عن الوطن والعيش مشتتين فى بلاد الغربة».


ناشط سياسى: لا طعم للعيد مع رؤية بلدى ممزقة.. ولن أنسى مقتل اثنين من أشقائى:
فى نهاية عام ٢٠١١، وصل الناشط السياسي، ميسرة بكور، إلى القاهرة. أقام فيها بمفرده، وخلال تلك السنوات فقد شقيقيه، واحد فى «معتقلات بشار» كما يقول، وآخر فى الحرب.
يحكى «ميسرة» عن إقامته فى مصر، فيقول: «بخلاف الأحوال الشخصية، فإن المعيشة فى مصر باتت صعبة على المستوى الاقتصادي، فقد ارتفعت أسعار السلع وإيجارات السكن، مع قلة الدخل، خاصة أن معظمنا يعتمد على نفسه فى الإنفاق، مع العلم أن ما تصرفه مفوضية اللاجئين لا يتجاوز ٤٠٠ جنيه للفرد».
ورغم هذا الارتفاع تبقى مصر وجهة مفضلة للسوريين، بحسب «ميسرة»، الذى يوضح «فى تركيا وألمانيا وحتى لبنان مثلًا أسعار السلع والسكن أكبر من هنا بكثير، فالسورى يعمل فى تركيا ١٣ ساعة أو أكثر ولا يجد ما يوفره لارتفاع تكاليف المعيشة، كما أن بلدًا كالأردن ضعيف وغير قادر على استيعاب أعداد السوريين، هذا بخلاف ميزة مصر كبلد مرحب بالأغراب سواء كانوا عربًا أو أجانب».
مدينة صناعية سورية بالقاهرة:
ويواصل: «عامل اللغة يعد مؤثرًا فى تفضيل مصر عن غيرها، فى ألمانيا يواجه أبناء بلدى هناك عائق اللغة التى منعتهم وصعبت عليهم الاندماج، كما أنى إن صرخت هنا سأجد من يفهمني، أما فى تركيا أو ألمانيا فلن أجد معينًا، فضلًا عن أن مصر سوق واسعة وبلد كبير به ٩٠ مليون مواطن، وبالتالى فرص الاستثمار فيه أكثر نجاحًا، وهو ما سمح بانتشار اقتراح طرح مؤخرًا لإنشاء مدينة صناعية سورية بالقاهرة أو إحدى المدن المصرية».
وبخصوص تواصل السوريين مع السفارة، يقول إنه لا توجد مشاكل فى هذا الخصوص، «فى البداية كانت هناك عوائق لمن يرفض حكومة بشار الأسد، أما الآن فهذه العوائق غير موجودة، لأن السفارة تجنى ملايين الدولارات من تعامل أبناء الجالية معها فى تجديد جوازات السفر (تحصل على ٣٠٠ دولار عن كل فرد) أو استخراج شهادة ميلاد أو توثيق وتثبيت حالات الزواج وغير ذلك من الإجراءات الإدارية».

العودة للأوطان
ويرى الناشط السورى أن الأوضاع فى بلاده حاليًا لا تشجع كثيرًا على العودة، «ورغم ذلك فقد عاد الكثيرون خلال الشهور الماضية إلى حمص وغيرها، والآن من لا توجد بينه ونظام الأسد مشكلة يمكنه العودة، وفى ذات الوقت يبقى آخرون يشعرون بالخوف من الرجوع إلى وطنهم مع بقاء الأسد فى منصبه».
قدوم عيد الأضحى لا يحمل إلا ذكريات أليمة بالنسبة لـ«ميسرة» الذى يقول بأسى: «لا أعرف طعم العيد، فى عيد الأضحى عام ٢٠١١ كنت فى معتقلات بشار، والآن وبعد مرور أكثر من ٦ سنوات على إقامتى بمصر، لم أذكر إلا الحزن، شقيقاى قتلا، أحدهما العام الماضي، والآخر فور اندلاع الثورة فى سجون بشار ولم نستلم جثمانه حتى الآن، البلد كله ممزق، وأهلى يقصفون بالطائرات، لا عيد فى ظل بقائى وحيدًا شريدًا مطاردًا بعيدًا عن وطني، كل أملى أن تعود سوريا فى قادم الأعياد».


بائع شاورما: «الكلمة الحلوة» سبب تفوقنا 
وجد محمود عبد الوهاب، شاب عمره ٢٢ عامًا، ضالته فى مطعم لبيع الشاورما والمأكولات السورية مثل أغلب السوريين، وقد لاقى منذ وصوله فى بداية هذا العام نجاحًا كبيرًا.
ويرجع «محمود» هذا النجاح إلى الكلمة الحلوة التى تعود السورى على أن تكون الرابط بينه وبين الزبون، كما أنهم يحبون ما العمل ولا يتركون الأمور الشخصية تسيطر عليهم، قائلا: «لأننا مكبلون بهموم لا تستطيع الجبال حملها، لو فكرنا فيها أثناء العمل ما نجحنا»، مضيفًا: «تركت دراسة هندسة الاتصالات واتجهت لهذا العمل من أجل إعالة أسرتى مضطرًا». ويقارن الشاب بين معاملة السوريين والمصريين بقوله: «منذ فترة دخلت محلًا مصريًا لأشترى حاجة، التاجر كان بيتفرج على التليفزيون ولما سألته على سعر السلعة، قالى عندك أهو، إيه ما بتعرفش تقرأ.. وتجاهلني، هذا لو فعلناه كأصحاب عمل سوريين فلن نبيع مطلقًا». تعيش أسرة محمود فى سوريا ويرسل لهم كل شهر مبلغًا بسيطًا من المال، ليمكنهم من مواصلة الحياة والعيش دون طلب العون من أحد، ويشير إلى أنه حاول استكمال دراسته فى الجامعات المصرية، ولكن صعوبة جلب الأوراق المطلوبة هى التى أوقفته.

مهندس مدني: فتحت محل عطارة لأنفق على أولادي الأربعة 
«بقالى ٥ سنين هنا، اخترت مصر علشان التوافق القومى اللى ما بينا».. بهذه الكلمات بدأ وفاق محمد، من دمشق، مهندس استشارى مدني، الحديث عن تجربته فى مصر التى يصفها بـ«الصدفة»، وأضاف: «فى صيف ٢٠١٢ لم تكن الحرب مشتعلة، جئت إلى مصر للسياحة، فقد كنت أرغب فى هذه الزيارة مع أسرتى لسنوات، ونجحت فى تحقيق ذلك بالفعل، قبل دخول أبنائى العام الدراسى الجديد، زرت مدنا عدة فى كل أنحاء مصر، كنوع من النزهة بعيدًا عن الأزمات السياسية فى بلدي، لكنى فوجئت بهجوم على بلدتى وسقوط ضحايا كثر، ومنها هاجر المئات إلى الدول المجاورة، وفى تلك اللحظة تحولت زيارتى التى كانت مقررة لمدة شهر واحد إلى إقامة لا أعلم متى تنتهى، أتمنى أن تكون قريبًا، بتحرر سوريا من كل فاسد وشرير وإرهابي».
صمت فترة يسترجع الأحداث، ثم قال: «الأوضاع جعلتنى أبكى أمام أولادي، لكنى دومًا أحاول التماسك لاستكمال الحياة، ولكى لا أنشئهم على الحزن والهم»، مشيرًا إلى أن أسباب تفضيله مصر مقارنة بباقى الدول، بأنه أثناء طفولته كان يدرس فى فصول التاريخ عن الوحدة بين مصر وسوريا وحب المصريين لأهل الشام
وظل «وفاق» مدة طويلة بلا عمل، ولم يسع إلى البحث عن وظيفة، وقال: «عندما وجدت الأموال التى بحوزتى توشك على النفاد بدأت السعى وراء إيجاد مشروع خاص بى يجلب لى ما يساعدنى فى الإنفاق على زوجتى وأولادى الأربعة».
وأضاف: «استطعت شراء محل تجارى، وخصصته فى مجال العطارة التى تعلمتها، وعرفت الأماكن التى أشترى منها بضاعتي، والحمد لله وجدتنى أكسب جيدًا، وتطورت تجارتي، خاصة بعد تمكنى من إنتاج الصابون المغربى وكريمات لتفتيح البشرة، إضافة إلى خلطات الزيوت الخاصة بتساقط الشعر والشفايف وجميعها منتجات من أيد سورية، وكلها تجد كثيرًا من المشترين المصريين».
ويشير «وفاق» إلى أن معاملة المصريين معه بها محبة كبيرة، ونفس الأمر تجاه كل لاجئ سورى بالبلاد، ولم يشعر لحظة بالغربة، «بل مرت أكثر من أربع سنوات كأنها أسبوع واحد، فى ظل رضا الزبائن على منتجاتي».