السبت 21 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

عن «استقصائية» وأخواتها

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عندما تغيب القواعد المؤسسة والضابطة لممارسة بعض المهن والحرف، سيكون ما يقوله بعض الهواة مقبولا، كما سيكون بعض مشاع الحديث بشأنها أكثر جرأة واقتحاما، ونظرا لكثرته وتكراره سيكون فى نظرهم كافيا للتأكيد على شيء لم يحدث بهذه اليقينية كما لم يتم أبدا إثباته، كما سيكون نفيه أو حتى مناقشته بروية عملا صعبا لأنه ربما يواجه أفكارا صارت مستقرة لدى أفراد وجهات يعضد بعضهم بعضا، ولكنه فى كل حال سيكون مطلوبا فربما يظل تعريفا بما غاب أو تداركا لبعض ما لا يمكن تركه جميعا يمضى دون تساؤل، نتحدث هنا عن قضيتى أو ظاهرتى التحقيقات الاستقصائية وصحافة المواطن الشائعتين.
عرفت صحافة العالم والصحافة المصرية معها دورا مهما لمعالجات الأزمات والمشكلات والظواهر السلبية فى الأداء المجتمعى والعام، وظل ذلك ملمحا مهما فى تاريخها المهنى ووفق تخصصها، نعم قد تقل مساحة وحدود تناول الشخصيات من حين لآخر وذلك وفق المناخ الصحفى السائد، لكنها ظلت دوما موجودة لتعبر عن حالة تحقق وتحقيق لما يهم الناس أو ما يعانونه من مشكلات حياتية، وتنبيها لما يسببه قصور الأداء والفساد من مشكلات، الفارق أنها فقط لم تحمل لقب تحقيق استقصائى حيث لم يكن المفهوم العابر جوا وبحرا قد تم نقله ترجمة واستحداثه استيرادا وتولى زراعته وريه عبر وكلاء محليين، وليس فى هذا شيء معيب لو كان حقا صالحا للاستخدام ونافعا ومطورا وغير ضار أو مضلل.
لكن ما حدث خلال العقد الماضى غير ذلك، وعبر تواجد ونفاذ هيئات دولية وإقليمية اضطلعت بترويج ما أقنعت البعض أنه بضاعتها الجديدة والحصرية، فقد هل علينا تحت رعاية تشبه الرعاية التجارية للسلع ما أصروا أن يسبقه عنوان خاص هو «تحقيق استقصائى»، ثم اخترعوا له تاريخا جديدا ليقطعوا كل صلة له بتاريخ تواجده فى الصحافة المصرية، ليكونوا أصحاب السبق والأوائل والمكتشفين، ووافقهم فى ذلك البعض لأسباب شتى لا يتسع المقام لتفصيلها.
هكذا أعلنوا أنها تعد فتحا جديد وتباروا فى ذكر أدواتها ووسائلها، رغم أن غالبية ما هو منتج تحت هذه اللافتة يشبه إلى حد التطابق حينا والتوازى حينا آخر عدا بعض التفاصيل بعض تحقيقات الصحافة المصرية طوال تاريخها، ذات القضايا والموضوعات والاهتمامات، فهذا وتحت لافتة أنه استقصائى ربما يتحدث عن تلوث مياه الشرب فى مدينة أو قرية ما وليؤكد استقصائيته سيحمل قارورة المياه ويذهب بها إلى مختبر ليثبت التلوث الظاهر للعين وليحلل عبر إحصاءات نسب الشوائب ويعددها دون أن ينسى ذكر نوع المعادن.
وآخر سيهتم بإهمال فى مستشفى أو وحدة صحية، وآخر يحلل نفايات مصنع يلقى برواسبه ومخلفاته فى ترعة أو على الطريق ليؤكد أنها تتضمن مخاطر على الحياة، وذلك سيدخل خلسة إلى مصنع لحوم جاهزة ويأخذ عينة ليثبت عدم صلاحيتها للاستهلاك الآدمى، بالتأكيد هى تحقيقات مطلوبة بل ومفيدة ونحن هنا لا نقلل من جهدها وأهميتها ودورها لكننا نتحدث ونتوقف بشكل واضح عن دعائية وغرضية توظيف لافتة استقصائية الموضوعة عمدا مع بعضها وغالبا فى غير محل وبلا مبرر سوى ما يعرفونه ويطلبونه.
وهكذا سيتسع استقصائى لكثير مما هو تحقيق صحفى متعارف عليه وسيتم إهدار جهد مئات من أجيال مختلفة من الصحفيين الذين لم يسعفهم الوقت لوضع كلمة استقصائى، وكما يفعل البعض عمدا ليثبت أنها مختلفة وأكثر تميزا ومهنية عن عموم التحقيقات، فربما تنال حظا وتدخل تحت مظلة هذه الرعاية أو تلك وقد تكون من الفائزين.
سيكون هذا نوعا واضحا من الخلط وسيحتاج بعض هؤلاء أن يتابعوا تحقيقات صحفية استقصائية معاصرة فى صحف غربية، وكيف أنها تتم على قضايا لها خصوصيتها وتعقيدها وتتصف بصعوبة تتبعها وربما مخاطر فى استكمالها، وتوظف مستويات مهنية متقدمة من الدقة وأن بعضها يحتاج لميزانيات ضخمة وفريق عمل وحماية قانونية وقد تستمر شهورا، وسيعلمون أن ذلك التحقيق الاستقصائى الحقيقى ليس عملا يوميا أو «خبطة» أسبوعية أو شهرية تتم بالدور على محررى قسم التحقيقات فى الصحيفة، بل هو عمل قد تنجزه بعض الصحف كل عدة أعوام حين تتوافر أولا طبيعة قضيته المناسبة ثم مقوماته ومصادره، وأنه أوسع كثيرا من تحقيقات المشكلات وقصور الأداء التى دأبت الصحافة المصرية فى كل عصورها على إنجازها.
وسيشبه ذلك تماما السعى وراء ترويج مفهوم صحافة المواطن المراوغ، والذى انتشر برعاية أيضا، ليمنح صفة الصحفى لكل شخص طالما يستطيع التصوير والبث عبر موبايل أو كاميرا ودونما مسئولية أخلاقية أو مهنية أو قانونية، سيتجاهلون دوما أن المواطن العادى ومن دون أن يحمل لقب صحفى كان متواجدا طوال الوقت كمصدر فى العمل الصحفى.
سيكون كل ذلك منسيا فى سبيل استمرار رعاية ما يسمى بصحافة المواطن ولإشباع طموح ورغبات كثيرين فى حمل لقب صحفى، ومن دون أن يدرى البعض أن الصحافة مهنة لها قواعدها الاحترافية، ومثل مختلف المهن الأخرى فى المجتمع تحتاج إلى خبرات وتدريب وسنوات عمل لإثبات كفاءة ممارستها، وفى حين أننا لا نقول أبدا عن أى شخص دون أن يحمل جدارة مهنية أنه المهندس المواطن أو الطبيب المواطن أو المحامى المواطن، فإن البعض يستسهل تماما أن يطلق ذلك اللقب «صحفى» على كل مواطن.