الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

سلامة موسى الحائر دومًا.. والديمقراطية (3)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يعتقد بعض الباحثين أن إحدى مشكلات سلامة موسى أنه ضاهى نفسه بفولتير، وأنه رأى نفسه وكأنه يقوم فى مصر بالدور نفسه الذى قام به فولتير فى أوروبا فى القرن ١٨. 
والحقيقة أن بعض الشبان العرب قد تأثروا فى بداية القرن العشرين بمواقف فولتير، ربما لأنه عارض موقف رجال الدين المحافظين الذين كانوا عقبة فى سبيل التقدم.
وفولتير كان مسيحيًا ولم يعترض على المسيحية، بل تمسك بها لكنه عارض سطوة رجال الدين على أفكار الناس، ونقرأ بعضا مما كتبه سلامة عن فولتير فى "هؤلاء علمونى" (ص٢٣). "يهفو الذهن إلى ذكرى فولتير كلما هبت على الأمة عواصف الظلام التى تقيد الحرية وتسوغ الاعتقال وتمنع الكتب وتراقب الصحف وتضع الحدود والسدود أمام العقول، وتنتهك النفوس البشرية بأفظع مما ينتهك الفاسق الأجسام البشرية. فولتير عاش من أجل الحرية، وكانت قضية حياته احترام الإنسان وكرامة الإنسان وحريته، ثم يتحدث عن مصر فيقول ومن الأحسن أن يقرأ تاريخه هؤلاء الذين حملوا النيابة العامة فى مصر إلى أن تقوم بأكثر من أربعمائة تحقيق مع الصحف فى أقل من سنتين (١٩٤٤- ١٩٤٦)، ثم منعوا بعض الكتب الأجنبية من الدخول إلى مصر، كما منعوا نشر بعض الكتب".
ويمضى سلامة موسى: "فولتير غيّر تاريخ أوروبا، إذ نقل هذه القارة من التعصب إلى التسامح، ومن التقييد إلى التحرير وغرس بذلك شجرة الديمقراطية، وحمل على العقائد والخرافات الضارة فحطمها، كما فتح الطريق أمام حكم العقل فظهرت الحكومات المدنية العصرية.
وكان فولتير يمثل الطبقة الجديدة البازغة طبقة الصناعيين والتجاريين الذين شرعوا فى أن يأخذوا مكان ومكانة النبلاء فى المجتمع الأوروبى القديم، ومن هنا كان إحساسه بضرورة الحرية واحترام الكرامة الإنسانية عميقًا. 
وقد عاش فولتير طوال عمره وفى نفسه كراهية لهم، فإن أحد النبلاء حبسه فى سجن الباستيل وجلده انتقاما منه؛ لأنه كتب ضده بضعة أبيات من الشعر. وقد سافر فولتير إلى إنجلترا وأقام فيها أربعة أعوام وأعجبه فيها شيئين: الدستور الإنجليزى ونيوتن".
ثم يمضى سلامة موسى: "وأسوأ ما تصاب به أمة أن يتحد الدين مع الاستبداد، وأن يتحالف الطغاة مع الكهنة، بحيث يستند الدين إلى قوة البوليس، ويستند الاستبداد إلى أساطير ترتدى ثيابا دينية، وهذا ما حدث فى فرنسا؛ فقد صدر قانون بإعدام المؤلفين الذين يعتبر رجال الدين أن كتاباتهم ضد الدين (عام ١٧٥٧)، صحيح أن القانون لم ينفذ خوفا من نتائج تنفيذه، لكن حركة التأليف توقفت أو كادت واستمر إحراق الكتب حتى عام ١٧٨٧ أى قبل الثورة الفرنسية بعام.
ولكن فولتير استطاع أن يطبع عشرات الرسائل الحرة بأسماء مستعارة، وكان فيها يحطم الأساطير ويهاجم الطغيان الحكومى والكنسى ويدعو للتسامح، مؤكدا أن الناس إخوة مهما اختلفت دياناتهم، وتحايل فولتير على الظلم فاشترى أرضا فى فرنسا ملاصقة لقطعة أرض أخرى فى سويسرا، فكان يهرب منهما إلى الأخرى إذا تعرض للأذى من فرنسا أو سويسرا (ولا تزال قرنية فولتير بين الدولتين شاهدة على ذلك). ونمضى مع سلامة موسى فى حديثه عن فولتير، إذ يقول: والحقيقة أن الكنيسة الكاثوليكية قد استفادت من أفكار فولتير؛ لأن فصل الدين عن الدولة أفادها؛ فاعتلاء الدين للدولة يضر بالدين ويبعده عن القوة الروحية والأخلاق السامية؛ إذ يجب أن يتجرد الدين من أى سلطان مادى أو حكومى أو بوليسى حتى تتولد قوته الروحية المستقلة، فيصل إلى القلوب دون مساعدة خارجية". 
ونمضى مع سلامة موسى؛ إذ يقول: "لقد عشت حياتى وتمتعت بالهناء وتعزيت أحيانا أيما عزاء بمرافقتى لفولتير وتأملى لكلماته وتتبع حياته فى أخطائها وأخطارها وتطورها. وعرفت منه احترام الإحساس والوجدان وأن حرية إعمال العقل هى قدس الأقداس فى النفس البشرية. وكان فولتير يقول "إن قلمى يتعمق لكنى دوما واضح الفكرة"، وهذه عبارة أستطيع أن أقولها أنا أيضا، وعند الفرنسيين مثل يقول: "ما ليس واضحا ليس فرنسيا"، وعندهم الحق فى ذلك. فالوضوح عندهم نابع من التزامهم بالمنطق السليم الذى تعلموه من فولتير وأمثاله. وفى كل الأحوال يجب أن نعترف بمساهمة فولتير فى تحرير الفكر من سيطرة رجال الدين المسيحى. 
والآن وبعد هذه الكتابة عن فولتير نجد سلامة موسى يكتب فى عام ١٩٤٩: "لقد عشت فى هذا الوطن الأسيف مصر نحو ثلاثين عاما من ١٩١٤ إلى ١٩٤٩ وأنا فى أسر الأحكام العرفية، والرقابة القلمية، وذلك لكى يعيش المستعمرون من الإنجليز والمستبدون من المصريين، وهم فى تحالف لمنع الحريات عن الشعب. 
وقد ألفت كتابين عن الحرية هما: "حرية الفكر"، وهو تاريخ لأبطال كافحوا ضد التعصب والاستبداد والرجعية والجهل ومن أجل حرية العقل فى بلادى وفى كلا الكتابين تتردد أنغام فى ذكرى فولتير".
والحقيقة التى لا يعرفها كثيرون أن فولتير كتب رواية تمثيلية ضد الإسلام فاعترض عليها المسلمون واعترضت عليه الكنيسة قائلة إنها ضد المسيحية، واضطر فولتير إلى سحب هذه التمثيلية بناء على نصيحة أحد الكرادلة، ويفسر فولتير هذه التمثيلية بأنها أتت بسبب سطحية المعلومات الأوروبية عن الإسلام فى ذلك الوقت والتأثر بالتشدد الكنسى، بالإضافة إلى موقف بعض الحكام المسلمين من المسيحيين.
وعلى أية حال؛ فقد اختفت هذه الرواية التمثيلية تماما ولم يعد بالإمكان لا الاطلاع عليها ولا نقدها ولا تفسيرها.
ونواصل مع سلامة موسى