الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

المسلم بين الإيمان الحق .. والتأسلم (37)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ويرحل "سيد قطب" ظالماً ومظلوماً، لكن المفارقة أن هذا الرحيل المأساوي قد بدأ حياة جديدة لسيد قطب، فقد أصبح "سيد" سيّداً لهؤلاء المتأسلمين الذين فقدوا الطريق، وهاموا في متاهات الفكر، حتى أتاهم الأب الروحي، والملهم الذي يلقون على أكتافه أثقالهم، ويجعلون من كتاباته - الأشدّ تطرّفاً، وخاصة "معالم في الطريق" - إنجيلا جديداً، لكلّ من تصوّر أنه منوط به فرض رؤيته للإسلام المتشدّد بقوة السلاح.
وتبدأ موجة ملتهبة من التأسلم، تنتشر وتتمدّد في كل بلد فيه مسلمون، لتلتقي روافد كانت موجودة، وتذوب شوقاً إلى قائد ملهم، ومفكر يقودها إلى مزيد من التأسلم، ومن بين هذه الروافد، كان حزب "التحرير الإسلامي" الذي تأسّس عام 1950، وقد تأسّس هذا الحزب عبر انعكاسين للأحداث، أولهما قيام إسرائيل على الأرض الفلسطينية، بما يتطلب جهاداً، والثاني هو الضربات التي تلقّتها جماعة "الإخوان" عقب اغتيال النقراشي باشا، والتي انتهت بقتل "حسن البنا" - مؤسّس الجماعة - وتمزيق شمل الجماعة، وأقام الشيخ تقيّ الدين البنهاني حزبه، على أساس نشر العقائد وتقويتها في صفوف الأتباع، والتأكيد على فكرة "الخلافة"، فبدونها لا نهوض للإسلام، ولا تحرير لفلسطين، وقد أظهر "البنهاني" رفضه للاغتيالات التي أدّت إلى تدمير جماعته الأم، فكثير من المراجع والشهادات تقول إنه كان عضواً في جماعة الإخوان بالضفة الغربية، وإنه لعب دوراً مهمّاً في تثقيف الإخوان هناك، وتصاعد الخلاف حول موضوع الاغتيالات بما استدعى إرسال الإخوان إلى "سيد قطب" لمقابلة النبهاني، واستعادته إلى حظيرة الجماعة، خاصة بعد أن خرج بالخلاف إلى العلن، في كتاب له بعنوان "التكتّل الحزبي" (تقيّ الدين النبهاني – التكتّل الحزبي – عمّان – صـ 18)، ونجح "قطب" في الوصول إلى حلٍّ وسط، وهو أن يبقى "النبهاني" بحزبه - المستقلّ دائما - في إطار الدعوة الإخوانية الشاملة، بينما تبدّت نقاط الخلاف بين البنهاني والجماعة، في نقاط عديدة، منها: ضرورة تثقيف ملايين الشعوب بالعقيدة الإسلامية، وليس فقط تثقيف الأعضاء (البنهانى – مفاهيم سياسية لحزب التحرير الإسلامي – صـ 87)، أما خطّته لقلب أنظمة الحكم "فلا بدّ أن يكون الهجوم موجَّهاً للأفكار بما يؤدّي إلى تحقيق انقلاب فكري يتبعه تلقائيا الانقلاب السياسي الذي يؤدّي إلى تغيير الحكم والنظام وسائر العلاقات (البنهاني – نداء حار لحزب التحرير الإسلامي – صـ 96).
وتتلخّص خطّة "النبهاني" في ثلاث مراحل "صراع فكري، ثمّ انقلاب فكري – ثم تسلّم زمام الحكم عن طريق الأمة" - المرجع السابق - ومع ذلك فإن البنهاني، مثله مثل كل المتأسلمين، ما إن استشعر قدرا ولو ضئيلا من القوة لجماعته في الأردن والضفة الغربية، خاصة بعد أن وصل أحد أعضائه إلى البرلمان الأردني عام 1967، حتى قام بمحاولة انقلابية عام 1968 أفشلتها القوات الفلسطينية بالأردن، بالتعاون مع السلطة الأردنية (جريدة الحياة – لندن- مقال الغازي التوبة بعنوان "حزب التحرير الإسلامي: بدايات وتأثير محدود – 17/4/2004)، وعاد الحزب إلى الكمون مرة أخرى مؤجِّلاً أي تصادم، لكنه ركّز فكريا على موضوع الخلافة، مؤكِّداً أن سقوط الخلافة هو الثغرة التي ضاعت منها فلسطين، وقيام الخلافة هو طريق تحرير فلسطين، ثمّ - ورغبة في استرضاء النظام الملكي - استكمل الفكرة قائلا: "أن الجهاد في فلسطين ليس فريضة حتى تقوم الخلافة"، وهو يؤكد "أن إقامة الخليفة فرض على المسلمين، وهو فرض محتّم ككل الفروض، والتقصير في القيام به معصية من أكبر المعاصي، يعذّب الله عليها أشدّ العذاب"، وأيضاً "إن أقامة الدين، وتنفيذ أحكام الشريعة في جميع شؤون الحياة، فرض على المسلمين بالدليل قطعيّ الثبوت، قطعيّ الدلالة، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بحاكم، أى سلطان، فالقاعدة الشرعية هي أن ما لا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب"، (حزب التحرير الإسلامي – موقع الحزب على الإنترنت – كتاب الخلافة)، ورغم هذا التشدد، فإن الحزب في أدبياته يبيح ما لا يتّفق مع المنطق المتشدّد، "فتقبيل الرجل للمرأة ليس حراما، لدخوله تحت عموم الأدلة المباحة للإنسان، والصور العارية ليست من المحرمات، بل إن تقبيل الرجل للمرأة فى الشارع - سواء كان بشهوة أو بغير شهوة - مباح"، (حزب التحرير الإسلامي – الحملة الأمريكية للقضاء على الإسلام – موقع الحزب على الإنترنت – 25 مارس 1996)، وأيضا "المرأة إذا لبست الباروكة، ولم تطع زوجها في خلعها لا تكون ناشزة، وكذلك إذا لبست البنطلون وخرجت دون إذنه لحضور مهرجان أو مؤتمر، لا تكون ناشزة"، (حزب التحرير الإسلامي – نشرة سؤال وجواب – 24 ربيع الأول 1390هـ الموافق21/5 1970)، ولعلّ هذه الفتاوى قد أسهمت في انتشار نفوذ الحزب وسط الجاليات الإسلامية في أوروبا وأمريكا، فأصبحت لها قاعدة كبيرة فى بريطانيا، يرأسها عبد القادر زلوم، وقاعدة أخرى قوية في أمريكا، منها قاعدة قوية في شيكاغو، حيث تم تجنيد الباكستاني "نويدبت"، الذي عاد إلى "لاهور" الباكستانية ليؤسّس فرعا قويّا في "لاهور".
وإذا أتينا إلى مصر، نجد أن أجهزة الأمن قد قبضت في أبريل 2002 على خمسين عضوا يشكّلون نواة للحزب في مصر، ومعهم أربعة بريطانيين، وقد اعترف المتهم هشام عبد العاطي بأنه انضمّ إلى الحزب خلال وجوده في لبنان، واعترف المتهم أشرف راضي، بأنه انضمّ إلى الحزب خلال وجوده في ألمانيا، وأكد المتّهمون أن الحزب لا يدعو إلى العنف، وإنما إلى نشر العقيدة الإسلامية فقط، وأنه لا علاقة لـ "صالح سرية" بأفكار الحزب" (الحياة – لندن- مقال لمحمد صلاح بعنوان: "انشغال الظواهري مع بن لادن وانكفاء الجماعة يضعان حزب التحرير في دائرة الضوء – 21 مارس 2004)، وهكذا أتينا إلى "صالح سرية"، الذي ولد في حيفا، وهاجر مع أسرته إلى الضفة الغربية، ونشط فى صفوف جماعة الإخوان، حيث التقى تقيّ الدين النبهاني، وعندما انتقل إلى الأردن، انضم هناك إلى حزب التحرير الإسلامي، ثم أتى إلى القاهرة عام 1971، وحصل على درجة الدكتوراة في التربية من جامعة عين شمس، وخلال وجوده في القاهرة تردّد كثيرآ على منزل السيدة "زينب الغزالي" في منشية البكري، والتي قدّمت له دعما كبيرا، وعبرها التقى المرشد حسن الهضيبي والتقى عددا من القياديين الإخوان - عقب الإفراج عنهم - لكنهم قابلوه بحرص من لا يريد استثارة غضب الحكم في هذه الفترة، ولهذا وصفهم في تحقيقات النيابة بأنهم "ناس ميّتة، خرجوا من السجن وكل واحد عاوز يتجوز ويسافر للخارج" (د. رفعت سيد أحمد – النبي المسلّح – الثائرون – صـ 81)، ولهذا لم يعد متحمّساً للبقاء في القاهرة، فسافر إلى العراق حيث التحق بجماعة الإخوان هناك، وقام بتكوين تنظيم مسلّح بين الفلسطينيين المقيمين في العراق، وسرعان ما تعجّل في محاولة القيام بانقلاب يبدأ باغتيال أحمد حسن البكر وصدام حسين في عام 1973، وقد اكتشفت السلطات العراقية المؤامرة، فهرب إلى القاهرة، حيث التحق بوظيفة في جامعة الدول العربية، ويقال إن ذلك تمّ بمساعدة من الأستاذ صالح أبو رقيق، الذي كان يشغل منصبا مرموقا بها، ويرغم تقييمه السلبي للجماعة، فقد عاد صالح سرية مرة أخرى إلى أحضانهم، خاصة وأن الجماعة كانت شديدة النشاط بعد الإفراج عن العديد من كوادرها وقياداتها، وإفساح السادات أمامها مجالاً للعمل في الجامعات والمعسكرات الصيفية لطلبة الجامعات، واستمر في زيارة السيدة زينب الغزالي، وفي بيتها التقى طلال الأنصاري، وهو شاب متحمّس وله ميول إسلامية متطرّفة تحضّ على الجهاد من أجل قيام نظام إسلامي، وضمّ طلال الأنصاري - الذي كان مقيما بالإسكندرية - عددا من الشباب من زملائه في الدراسة، أو ممن تعرّف عليهم في المساجد، وأصبح أميرا للمجموعة بالإسكندرية (المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية – ندوة الحركات الاجتماعية المتطرفة – الحركات الدينية – الندوة الرابعة – 12/5/1982- ورقة لمنى العريني وآخرين بعنوان: قراءة في تحقيقات قضيتي الفنية العسكرية والتكفير والهجرة – صـ230)، وأقام صالح سرية تنظيماً على غرار تنظيم أستاذه تقي الدين البنهاني، الذي يعتمد على أفراد، كل منهم يكون مجموعة مستقلة تماماً عن الآخرين، ولا يجتمعون معاً، مما جعلهم بعيدين عن أعين الأمن، وكان معظم الأعضاء من الطلاب، وخاصة من الكلية الفنية العسكرية، وجامعات: الإسكندرية والقاهرة والأزهر، وسريعاً جداً اتسع التنظيم (المرجع السابق – صـ231)، وبلغ عددهم 80 عضواً، وبهؤلاء قرّر صالح سرية الاستيلاء على السلطة، وإقامة دولته الإسلامية.