الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

أبطال الإصلاح في أوروبا قبل مارتن لوثر "3"

القس جاد الله نجيب
القس جاد الله نجيب راعي كنيسة المجتمع العربي ببرايتون
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ما انتهينا إليه في المقال السابق هو، حركة الهجرة من الريف للمدينة، التي أهلّت المدينة أن تكون ملتقى رجال الفكر. وأصبح التدرب على النقاش والنقد والجدل، نشاط ملحوظ بين التجار والمفكرين. وبسبب هذا النشاط تبلوّر روح المفكر الحر في تلك الأيام. وقد كان التحول الاجتماعي والفكري صاعدًا وبقوة في القرن الثاني عشر، وقوة هذا التحول الجارف، مع الصراعات السياسية والاجتماعية، التي تمركزت في المدن، قد أعدت العقول للعصيان الديني.
شهدت أوروبا في أوآخر القرن الحادي عشر والثاني عشر، أن العقل فرض نفسه، وشكل ملامح الفكر الغربي، ويجوز أن نقول أن بعض الأقفال قد خُلعت في حقل الفكر وفي حقل الحساسية، خاصة في الفن والثقافة. ونشأ توازن جديد بين الجماعات والأفراد. فتغيرت العلاقات بين البشر، وبرز دور المرأة في المجتمع.
إن هذه الانطلاقة والانفتاح على الفكر والثقافة، قد ارتبط بظاهرتين متزامنتين كثيرًا ما فُصل بينهما، وهما، إنطلاقة المدن كما ذكرنا في السطور الأولى، والتغييرات التي طرأت على النظام الإقطاعي.
أولًا: في قلب المدن، وفي قلب الثقافة الجديدة التي تبحث عن نفسها، اغتَنت الكنيسة بالألوف من الجماعات الجديدة، الرهبانية أو الكهنوتية القانونية، التي تبنّت الأهداف الإنجيلية الناشئة بين العلمانيين. وقد لبت تلك الحركات الإنجيلية، حاجات زمنها، بمساعدة المسيحيين على الانتقال من ديانة طقسية إلى ديانة معاشة. ومن خلال تلك االحركات تجسد الإنجيل فيهم لبناء ذلك المجتمع الجديد.
فخلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، أدهش العلمانيون رجال الدين، الذين كانوا يعرضون الإنجيل عليهم، والطريقة التي كانوا يتفاعلون بها مع الإنجيل. فإنهم كانوا يرون فيه كلامًا جديدًا، وله قوة صادمة، تدفعهم لتغيير نمط حياتهم على الفور وتحملهم على السلوك في خُطى المسيح الفقير. وبالتالي فهناك أناس استحوذ عليهم الإنجيل بقوة تغييره في حياتهم، فالتهبت قلوبهم لكي يقتدوا بالمسيح الفقير. ومنهم فرانسيس، ابنًا لأحد تجار مدينة أسيزي.
كان القرن الثالث عشر قرن تغييرات اجتماعية واقتصادية، إزدادت فيه الفجوة بين الفقراء والأغنياء. فالأغنياء كانوا يزدادون غنًا، والفقراء يزدادون فقرًا. فأخذ البؤساء يلجئون إلى المدن، حيث ظهرت طرق عيش وتفكير جديدة. وهو الأساس الذي قامت عليه رهبانية الأخوة الأصاغر. لقد جسد الأسيزي في حياته الفقر والبساطة والفرح.
كان القديس فرانسيس الأسيزي، مؤسس رهبنة الإخوة الأصاغر(الفرنسيسكان) والتي ينتمي إليها بابا الفاتيكان الحالي فرانسيس الثاني، أثناء وعظه للناس يبَسّط الإنجيل. وكان الصوفيون الألمان أمثال إيخاردت (1260-1327) وجون تولير (1300-1361)، يعضدون تجربة الفرد الروحية لمعرفة الخالق بعيدًا عن الطقوس الكنسية. وكانوا يؤمنون بأن الخلاص يتطلب شيئًا أكثر من مجرد طقوس.
كانت عدد الرهبان الذين أقبلوا على الرهبنة في البداية قليلون، لكنه زاد بسرعة حتى وصل عدد أفرادها إلى بضعة من الآلاف، انتشروا في العالم الأوروبي. وكانوا دائمو الترحال والسفر، قريبون من الناس بفقرهم وبساطتهم، يحملون حيث يمرون، نفحة سلام ومصالحة، عبق حمد وشكر. كان فرانسيس وإخوته يسعون لتجديد الكنيسة من الداخل.
شارك فرانسيس قبل رهبنته، في الحرب بين مدينة أسيزي وبيرجيا، واختبر ما أبعد الحرب الأهلية عن روح الإنجيل. فرد بالسلام على عنف الحياة الاجتماعية، وبالفقر على الولع بالمال.
لقد وصفه المؤرخون بكلمات عميقة جدًا وهي " أن القديس فرنسيس الأسيزي ألهم في وقت مبكر أدبًا ترتبط فيه الأسطورة والتاريخ، الواقع والخيال، الشعر والحقيقة، أرتباطًا وثيقًا.
إن رهبنة الأخوة الأصاغر، بفلسفتها، لم تنغلق على نفسها في الأديرة، بل خرجت لمساندة الفقراء والمستضعفين، وتجسيد شهادة حية بحياتهم، ليس في أوروبا فقط، بل في الغرب والشرق، فأحدثت دوّيًا عاليًا، لازال صداه نلمسه حتى اليوم في مجتمعات كثيرة.
ثانيًا: قد تلاشى العالم الإقطاعي شيئًا فشيئًا، وبدا عالم يتحرك، وظهر في كل مكان شق الطرق وبناء الجسور. وأخذ التجار يستخدمون وسائل المواصلات الجديدة. وكانت تلك التحركات مصحوبة بأفكار جديدة، فتجددت الثقافة من أساسها.
في هذا السياق نمت طبقة أرستقراطية عسكرية، إلى جانب طبقة نبلاء صغيرة ومتوسطة كوّنت نخبة للثقافة، وطبقة مناصرة للآداب. وأصبحت المدينة مكان استهلاك وإنتاج للثقافة.
وقد أطلق البعض على القرن الثاني عشر ما اسموه " ثورة مدرسية" بكل تحمله هذه العبارة من معنى، ومنها نشأت الجامعات. تميزت الفلسفة المدرسية عن غيرها من الفلسفات أنها فلسفة مسيحية، أي فلسفة دينية. لأن الحركة المدرسية، كما يقول برتراند راسل، كانت نتائجها محددة مقدمًا، فلا بد لها أن تعمل في حدود التعاليم الأصلية للدين.
وقد تخطت الفلسفة المدرسية عدة مراحل، وقعت المرحلة الأولى منها ما بين القرن التاسع حتى القرن الثاني عشر، حيث ازدادت في‏هذه الحقبة المدارس وانتظم التعليم، فشهد القرن التاسع نشاطًا واسعًا برز فيه المفكر (إريجينا Erigena)، الذي تكلمنا عنه في المقال السابق.
أول من أعاد هذه الفلسفة هو القديس الإيطالي في القرن الحادي عشر (أنسلم Anselm، 1033 -1109م) وهو من أكبر الأسماء التي عرفها العصر الوسيط، ودعي عليه لقب أغسطينوس الثاني. قال: "إن العقل يستنير بالعقيدة ليستطيع فهم الكون"
وجاء من بعده تلميذه الأكثر شهرة، پيتر أبـِيلار (Peter Abelard، 1079 – 1142م)، والفيلسوف الفرنسي الشهير، الذي كان له الفضل في إنشاء جامعة باريس، ويعتبر أبيلارشعلة ألهبت عقل أوروبا اللآتينية في القرن الثاني عشر، وممثلا لأخلاق عصره وآدابه، وأرقى وأعظم ما يخلب اللب ويبهر العقل في ذلك العصر. قال لوكوف، رئيس معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس، عن بيتر أبيلار" إنه أستاذ، وأول مفكر عصري كبير، في حدود حداثة القرن الثاني عشر"
كانت قدرة أبيلار على جذب الطلبة مزهلة، فقد ازدحم حول كرسيه في باريس الآلآف من الطلبة. ولم يترددوا في متابعة تعليمه، في إنشاء قرية من أكواخ القصب!
تمخضت المرحلة الثانية للعصر المدرسي، عن ظهور أعظم فيلسوف لآهوتي في تاريخ الكنيسة، وهو القديس توما الإكويني (1224 ـ 1274م) وهو أرسطو المسيحية، الذي ظل مهيمنًا على الفلسفة الأوروبية عدة قرون. وسوف نكتب عنه باستفاضة في مقالنا القادم.
والذي لا يفوتنا في هذه الدراسة، هو التوسع الإسلامي بداية من القرن السابع الميلادي، والذي أقام إمبراطورية عربية مترامية الأطراف، من إسبانيا إلى الهندوس. بل وبنيت الحضارة العربية بقوة في الشرق وقد تقدمت في المدينة، التي كانت المركز السياسي والاقتصادي والديني والفكري والفني.
هذا التقدم المذهل، قد ساهم فيه بجهد واسع في جميع حقول النشاط الفكري، غير المسلمين، فكانوا يقومون بدور الوسطاء ويفيدون الفكر الإسلامي من الإسهامات المسيحية واليهودية واليونانية. فمن علم الفلك إلى الجبر، ومن الصرف والنحو إلى الشعر، ومن التاريخ إلى القصة، يتجسد العديد من المواد من مؤلفات متباينة، وكثيرة.
واللآفت للنظر أيضًا، أن عشية انطلاق الحروب الصليبية من الغرب على الشرق الإسلامي، كانت هناك جماعات يهودية ومسيحية ناشطة. فكانت الكنائس المسيحية الشرقيه تضم عددًا كبيرًا من المؤمنين: الكنيسة النسطورية وكنيسة اليعاقبة في سورية، والكنيسة القبطية في مصر. ورغم تباين تلك الأعداد الغفيرة في إنتمائاتها الكنسية، إلا أنهم كانوا يقومون في العالم المسيحي بدور لا يمكن تجاهله. فكانوا أولًا وفي وقت مبكر، الوسطاء بين التراث المدرسي القديم، والفكر الإسلامي. فنقلوا منذ القرن التاسع، المؤلفات اليونانية، والفلسفية، أو العلمية. وكانت حركة النقل هذه هي نقطة انطلاق انتشار العمل الفكري والعلمي في العالم الإسلامي، الذي بلغ مستوى رفيعًا في القرنين العاشر والحادي عشر الميلادي.
وقد حُفظت كثير من النصوص اليونانية العلمية الكلاسيكية في الترجمات العربية والفارسية والعبرية، ورُوجعت في أماكن مثل توليدو في إسبانيا، وأكاديمية العلوم التي تأسست في بغداد في القرن التاسع. وقد لعبت المراكز التعليمية ً الإسلامية دورًا أساسيًا في دفع التطورات العلمية القائمة على المعرفة اليونانية والابتكارات العربية قدمًا، ولا سيما في مجالي الطب والفلك.
واذا كانت العلوم قد اضمحلت في غرب أوروبا، في أوائل العصور الوسطى، فإنها ازدهرت في العالم الإسلامى. إلا أن غرب أوروبا، قد شهد نشاطًا فكريًا غزيرًا، وذلك، بفعل الزخم في الترجمات التي قام بها الأوروبيون لمؤلفات الفلاسفة العرب والتراث اليوناني الذي حفظه العرب باللغة العربية. وقد احتل النشاط الأدبى والدراسات الإنسانية جانبًا أساسًيا من تلك النهضة الفكرية والعلمية الجديدة في أوروبا.
كما أشتدت حركة الترجمة من العربية إلى اللآتينية، وعن طريق هذه الحركة – فضلا ًعن الترجمة عن اليونانية مباشرة – تعرف غرب أوروبا على دراسات أرسطو، التي أهملت كثيرًا.
وقد أسهمت العلاقات بين الشرق والغرب في زيادة الوعي الذاتي بالقومية في عدة مناطق مختلفة في أوروبا. وقد نتج عن هذه العلاقات تفاعل حضاري بين الشرق والغرب، فتشكلت مدارس في القرن الثاني عشر في أوروبا مثل مدرسة شارتر Charter، وهي مدرسة كاتدرائية شارتر تقع غرب باريس، زكانت أكثر المدارس شهرةً وتأثيرًا، حيث كان لها دور هام في حفظ الفكر القديم ونشر العلوم في العالم الغربي. كما دعت إلى صلاحيات في التعليم العالي وركزت على تطوير الحساب والموسيقى والهندسة والفلك. وقد جمعت في مدرسة شارتر، أول مكتبة في العالم الغربي. وذلك لتضم بشكل منهجي كتابات العلماء الأولىن.
جدير بالاهتمام، أن أول جامعة أوروبية قد تأسست في إيطاليا، في ساليرنو Salerno، ثم جامعة بادوفا Padova والتي درس فيها الطبيب المعروف وليم هارفي، ثم جامعة بولونا Bologna. أما في فرنسا، فتأسست جامعة مونبيلييه Montpellier 1137م. ثم بعدها ببريطانيا، جامعة أوكسفورد Oxford. الجامعة التي اهتمت في القرن الثالث، بنهضة علمية جديدة من خلال تطوير العلوم عند العرب.
وفي ختام هذا المقال، يجدر بنا أن نقول: إن الاتصال بين الغرب الشرق وما نجم عن ذلك من تمازج ثقافي، قد ولّد حالة تمرد وانفجار تعود بداياتها الأولى إلى مطلع القرن الثالث عشر، القرن الذي وجدت فيه، بذرة النهضة الأوروبية اللآحقة الّتي مثلت نهضة للإرادة الإنسانية ويقظة للعقول. فقد بلغت المعرفة العلمية في القرن الثالث عشر، درجة من الغزارة والتنوع واجتذاب واهتمام الناس... وهذا ما نستكملة في مقالنا القادم.