رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بوابة العرب

جمال الدهشان: السرقات العلمية تُهدد الأمن الفكري العربي

جمال الدهشان
جمال الدهشان
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
انتشرت في الآونة الأخيرة عدة ظواهر غير صحية في مجال البحث العلمي، ومن هذه الظواهر ظاهرة السرقات العلمية بكل أشكالها وصورها، والتي أصبحت من أخطر الظواهر السلبية التي تعانى منها المجتمعات والمؤسسات الجامعية والبحثية في مصر والعالم العربى، بل وأضحت من أبشع الجرائم التي ترتكب في تلك المجتمعات - واتخذت صورًا وأشكالًا عديدة - أو كما يرى البعض "انحطاط ثقافي وبلطجة فكرية"، ولعل الأثر السيئ للسرقة لن يكون محصورًا لدى الأجيال والطلبة وإحساسهم بعدم جدية البحث العلمي والتحصيل الدراسي فحسب، بل سيكون أثره السيئ على المجتمع أكثر شدة، وعلى أمنه الفكرى بل أمنه واستقراره بصفة عامة، خصوصًا إذا كان السارق أستاذًا جامعيًا وعلى عاتقه تربية وتعليم اجيال من الطلبة، فأي أجيال ترجى من هؤلاء الأساتذة؟.
ولعل من أبرز الدلائل على خطورتها وانتشارها ما ينشر كل يوم في وسائل الإعلام المختلفة من مادة صحفية ذات عناوين تقلق الرأى العام وتقلل من ثقته واحترمه للقيم العلمية والأخلاقية، من أبرز تلك العناوين على سبيل المثال للحصر "السرقات العلمية ظاهرة العصر"، "سرقة الأبحاث العلمية تهدد الجامعات"، "السرقات العلمية قضية تهدد أمن المعلومات"، "السرقات العلمية وأثرها في تخلف الدول"، "السرقات العلمية في الأوساط الأكاديمية الظاهرة وعلاجها"، "السرقة العلمية.. ظاهرة متفاقمة تسيء إلى البحث العلمي"، "جامعات مصر الأولى عالميًا في السرقات العلمية والعالم يقاطعها"، "وزير الثقافة": مصر تحتل المرتبة الأولى على مستوى العالم في السرقات العلمية، مثلث الخطر الذي يهـــدد الجامعات المصرية، أهم أضلاعه، السرقات العلمية لأبحاث الأساتذة، "سرقة البحوث والرسائل العلمية هل وصلت إلى حد الظاهرة؟، "محال لبيع الأبحاث العلمية..."على عينك يا تاجر"!،"الأهرام يواصل حملة الكشف عن السرقات العلمية عبر‏4‏ مواقع للدوريات العلمية ارتفاع عدد المخالفين إلى ‏65‏ باحثًا وأستاذًا جامعيًا"، "دكتوراه للبيع، السرقات الأدبية.. انحطاط ثقافي وبلطجة فكرية
إن خطورة انتشار ظاهرة السرقة العلمية تكمن في أنها ترفع من شأن السارق علميًا ووظيفيًا، وقد تمنحه شهادة عليا كالدكتوراه، وتصل به إلى مرتبة الأستاذية، وقد ترقى به إلى أعلى المستويات السياسية والاجتماعية، وتترك هذه السرقات آثارًا سيئة على السمعة العالمية للجامعات والمؤسسات العلمية المحلية والوطن ككل، كما أن انتشارها يؤثر سلبيًا على عمل الباحثين العلميين الشرفاء والذين يعانون معاناة شديدة في ظل شحة الموارد المالية للبحث العلمي، وضعف التجهيزات العلمية، ويقضون الأيام والأشهر والسنين في عمل دؤوب مضني من أجل الحصول على نتائج جديدة تستحق النشر، مما يطرح التساؤل والشكوك عندهم عن جدوى البحث العلمي الصادق، وتشجعهم سهولة الاقتباس وانتشاره، على انتهاج هذا الأسلوب المشين وغير الطبيعي.
ورغم أن السرقات العلمية ليست ظاهرة حديثة الظهور كما قد يتبادر إلى الذهن، وانما هي ظاهرة قديمة، فقد ألف العديد من العلماء القدامى مؤلفات في سرقات الشعراء والكتاب منذ عصر التدوين. وحفلت المؤلفات الأولى عن طبقات الشعراء والنقد الأدبي القديم، بالكثير من السجال حول هذا الموضوع الذي أطلقت حوله الكثير من المفاهيم النقدية مثل السرقة والاقتباس والتوارد والتضمين والتناص... وغيرها، إلا أنه بظهور وسائل التواصل الحديثة وشبكة الإنترنت أصبح الأمر أكثر سهولة سواء من حيث الوصول إلى البحوث والكتب، أو من حيث اكتشاف السرقات عن طريق محركات البحث الإلكترونية.
فإذا كانت الشبكة العنكبوتية العالمية قد حققت حلمًا لم يكن متوقعًا من قبل، إلا أنها في الوقت ذاته قد جرت معها لمجتمع المعلومات الرقمي العديد من المشكلات التشريعية والأخلاقية والاجتماعية، من حيث الخصوصية والحماية وحقوق الملكية الفكرية، وبعض التجاوزات، بما في ذلك السرقة والتجسس والإرهاب الإلكتروني والتلاعب بالمعلومات، وذلك نظرًا لضخامة هذه الشبكة العملاقة، وكونها شبكة حرة بعيدة عن سيطرة دولة بعينها.
فمع تزايد استخدام الإنترنت ظهرت أنماط جديدة من التحديات لم تكن معروفة من قبل، وظهر جيل جديد من المجرمين المحترفين الذين يمتلكون المهارات والمعرفة التقنية، ويحتاجون بالتالي إلى أساليب ونظم خاصة للتعامل معهم، مما زاد في استفحال الظاهرة، وجعل معها عددا من المهتمين والمتخصصين يدقون ناقوس الخطر، نظرًا لانعكاساتها السلبية المباشرة على الجامعات ومراكز البحث العلمي، واعتماد أعداد كبيرة من الطلبة على الإنترنت في تقديم بحوثهم الجامعية.
أن الأمر لم يقف عند مجرد تغيير بعض البيانات أو الاقتباس والنسخ الجزئي القصير؛ بل الادعاء بملكية بحث كامل منشور باللغة الإنجليزية أو بعد ترجمته إلى اللغة العربية، أو بأطروحة معتمدة على نتائج مقتبسة بالكامل.
لقد انتشرت هذه السرقات بين الباحثين وطلاب الدراسات العليا، لسهولة النشر باللغة العربية مما يغري الباحث إلى ترجمة مجمل أو جزء من البحث المنشور باللغة الأجنبية والادعاء بملكيته، وهو أسلوب شجعه عدم وجود آليات للكشف عن السرقات الفكرية عند الناشرين العرب وضعف أسلوب مراجعة الأقران وضعف المستويات العلمية للمراجعين العلميين وعدم ارتباطهم اليومي بالعلم العالمي، وكذلك في ضعف اللغة الأجنبية، وفي عدم توفر المصادر وصعوبة الاطلاع عليها، كما أن عدم وجود برامج لكشف السرقة والانتحال بالعربية البلاجياريزم Plagiarism، يجعل من اكتشاف السرقات العلمية للمواضيع المترجمة للغة العربية عملية صعبة للغاية وتحتاج إلى وقت كبير.
أن الأمر لم يقف عند حد طلاب الماجستير والدكتوراة والبعض من صغار الباحثين، ولكن الأخطر أن يمتد إلى بعض الاساتذة وأعضاء هيئة التدريس ممن هم حراس البحث العلمى والقدوة والمشرفين على بحوث شباب الباحثين وطلاب الدراسات العليا، اما بصورة مباشرة من خلال سرقة أفكار أو كتابات الآخرين ونسبتها للذات دون ذكر المصادر، أو بطريقة غير مباشرة من خلال الموافقة اومباركة قيام طلابه بممارسة تلك الرذيلة، وبتسترهم على بعض الدخلاء على الحقل العلمى نظير المال، والذي تحول تدريجيًا إلى عصابات منظمة يمكن أن نسميها بلطجة فكرية وأدبية، ومن خلال ما يعرف بمراكز خدمات الطالب أو مكاتب اعداد رسائل الماجستير والدكتوراه والأبحاث العلمية، التي انتشر في بلادنا العربية، واصبح الإعلان عنها متاح في الأماكن والمواقع واعتبرتها الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (نزاهة) بالمملكة العربية السعودية من مراكز الفساد العلمي والسرقات العلمية، وتركز في علمها على إفساد الطلاب.
والواقع أنه رغم أهمية قضية السرقات العلمية وحيويتها بل وخطورتها على الأمن الفكري، فإنها لم تنل ما تستحقه من المعالجة، وتوقيع العقوبات على السارق أو المنتحل، فإن الأمر لا يخلو من وساطات تحاول تقديم الاعتبارات الإنسانية على المقتضيات العلمية، لتبرئة المخطىء والسارق والتسامح معه، وهو خلط يضر بأكثر مما ينفع، ويضرب في مقتل مبادئ النزاهة والجدارة والإنصاف، بل اننا بذلك نخالف مبدأ تكافؤ الفرص حين نضع على قدم المساواة الباحثين الجادين والمُجدين (وهم موجودون في جامعاتنا وأغلبهم من المعيدين) مع الباحثين الغشاشين أو الهزليين غير الجديرين بأرفع درجة علمية تمنحها الجامعات المصرية، مما يوحي بأننا بحاجة ماسة إلى المزيد من الدراسات العلمية في هذا الصدد، التي تسعى إلى إخضاع القضية للمنهج العلمي، ومعالجة حقوق المؤلف في ضوء التحديات المعاصرة، ومصداقية البحث العلمى ونتائجه.
وانطلاقا من أن تلك الظاهرة اصبحت تسيء إلى نبل الرسالة العلمية، وتعمق أزمة الجامعة، في ظل انتشار ظاهرة الانفلات في منح درجتى الدكتوراه والماجستير، وصور واشكال الغش والصورية المتعددة في منحها بطريقة مقنعة، لا يدركها سوى المشرف الذي وافق على صلاحية الرسالة، وسوء وشكلية التحكيم العلمى لها وللبحوث والدراسات المقدمة للنشر في كثير من المجلات والمؤتمرات العلمية، يصبح على كل أستاذ جامعى، التزامًا أخلاقيًا ومهنيًا واجتماعًيا، أن يطرح هذا الموضوع للنقاش بين كل المهتمين والغيورين على مصداقية التكوين والبحث العلمي الجامعي من أجل التفكير معا في وضع استراتيجيات عملية دقيقة على غرار كل جامعات العالم المتطور للحد من هذه الظاهرة المسيئة لسمعة الجامعة والبحث العلمى.
أن خطورة تلك الظاهرة تقتضى من الجهات المسئولة بوزارات التعليم العالى والبحث العلمى إصدار تعليمات واضحة تتعلق بالسلوك العلمي وأخلاقيات البحث وبحيث تشمل مفهوم السرقة العلمية والفكرية وسوء استخدام المعلومات العلمية وشروط التأليف والإشارة للمعلومات المنشورة والاقتباس، ويجب أن تتضمن التعليمات عقوبات رادعة ومحددة ضد المخالفين، من سن التشريعات والقوانين واللوائح التي تنظم ذلك وتحدده، يكون الغرض منها تقديم توضيحات بهذا الخصوص لردع الاقتباس غير المشروع، وبشكل إيجابي من أجل الحفاظ على النزاهة في البحث العلمي والالتزام الأخلاقي في الممارسات، لأن مثل هذه التعليمات تشكل ردع لظواهر تسطيح البحث العلمي وتؤدي إلى زيادة الاهتمام بالتفاصيل والبيانات الدقيقة بما في ذلك دفع الباحث إلى تقديم الأدلة النوعية والكمية باستخدام التقنيات الإحصائية وتزيد من مصداقية الشهادات ونتائج البحث العلمي عند الجمهور.
وستساعد هذه التشريعات التعليمات والتوجيهات في الحفاظ على أعلى المعايير الأخلاقية في مجال البحث العلمي ومنع الممارسات غير الأخلاقية من تلفيق وتزوير أو انتحال، كما ستساعد هذه التعليمات في إضفاء صورة حسنة على الجامعة لأنها تظهر جديتها والتزامها في عدم قبول أي نوع من السلوك غير العلمي في البحث أو النشر، ولابد لهذه التعليمات من إعطاء صورة واضحة عن السرقة العلمية وما يمكن أن يؤدي الكشف عنها بالنسبة للباحث من عقوبة، ويجب أن يعرف الباحث بان الاقتباس المشروع يجب أن لا يتعدى بضعة كلمات أو عبارات قصيرة، وعندما يتعدى الاقتباس أكثر من هذا يجب أن يوضع النص بين أقواس ويشار إلى المصدر الأصلي، ومن المهم للتعليمات أن تؤكد على ضرورة عدم النشر في المجلات الزائفة والتي عادة تشجع النشر دون مراجعة أقران ودون التأكد من التزام الباحث بأخلاقيات البحث العلمي والسلوك العلمي في مقابل أخذ أجور باهظة للنشر.
واذا كان الجميع يتفق على أن الأمن الفكرى يدخل ضمن منظومة الأمن الشامل للحفاظ على وحدة وتماسك المجتمع وتنميته، بل أنه أسمى أنواع الأمن وأساسه، فان الأمر يتطلب ضرورة العمل على توفير كل أسباب حمايته واستقامته والمحافظة عليه، وكذلك العمل على رصد ودراسة كل ما من شأنه التأثير على سلامته واستقامته، بل تهديده، واذا كانت مصادر تهديد الأمن الفكري تعددت واختلفت باختلاف مروجيها خاصة في عصر المعلوماتية والانفجار المعرفى، يجب أن تبدأ معالجة الانحرافات الفكرية بمعالجة الأسباب والعوامل المؤدية لها والوقاية منها.
واذا كانت الدراسات تنظر إلى أن ظاهرة السرقات العلمية تعد من اخطر مهددات الأمن الفكرى، خاصة ما يطلق ما يتعلق منها بما يسمى السرقات الادبية والفكرية، التي ابتلي بها الوسط الثقافي في مصر والدول العربية، مع الانتشار الواسع للمنتديات والمجلات الإلكترونية على شبكة الإنترنت من خلال قيام السارق بنقل الإنتاج الفكرى كاملًا ونسبته لنفسه، أو اغتصاب النتاج العقلي أيًا كان نوعه "أدبيًا ـ علميًا ـ عامًا" ونشره دون الإشارة للمصدر الأصلي، فإن الأمر يتطلب مزيد من الجهد والإجراءات للقضاء على تلك الظاهرة الخطيرة، حفاظا على امننا الفكرى الذي يشكل أساسًا لوحدة المجتمع وتماسكه.
إنها دعوة بل هي صرخة إلى كل المفكرين والمهتمين بالبحث العلمى والمحبين لهذا الوطن إلى إعطاء هذه الظاهرة مزيد من الاهتمام والدراسة لتقديم حلول وإجراءات عملية لمواجهة تلك الجريمة بصورة حاسمة والقضاء عليها أو على الأقل التخفيف من حدتها، تحقيقًا لجانب مهم من جوانب الأمن الفكرى لمجتمعنا العربى.
أ. د. جمال علي الدهشان
أستاذ أصول التربية
عميد كلية التربية- جامعة المنوفية