رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"علي حرب".. العقل الإسلامي بين الانغلاق والانفتاح

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ونعود إلى علي حرب لنقرأ معه.. «لا مراء فى أن الناس يختلفون فى نظرتهم إلى الآخر وفى طريقتهم للتعامل معه، ونعنى بالآخر هنا كل من ينتمى إلى هوية مجتمعية أخرى، والعقول تتراوح بين موقفين على طرفى نقيض: فإما انغلاق كلى وإما انفتاح أقصى. فالمنغلق ينظر إلى غيره من خلال هويته الدينية العقائدية أو القومية اللغوية أو الحضارية الثقافية، وهو يحاكمه ويحكم عليه على هذا الأساس، فإن كان يتفق معه فى العقيدة أو المذهب أو العرق أو الثقافة أو النمط الحضارى، قبله وتماهى معه، وإلا نبذه، متهما إياه بالبدعة والكفر أو العمالة والخيانة أو التخلف أو الهمجية أو أى اسم آخر يدل على المغايرة الكلية». ثم يقول: «إن المنغلق ينفى الآخر ولا يعترف له بحق الاختلاف. إذ الاختلاف فى نظره هو نقيض الهوية، ولهذا فالآخر لا حقوق له كإنسان» (ص١٠١)، ويرى على حرب أن «المنفتح، وهو نادر الوجود، ينظر إلى غيره من ذوى الهويات الأخرى نظرة أخرى، فهو يتقبله ويرى فيه مكملا أو مماثلا، فهو يملك هوية واسعة ومركبة لها وجوه مختلفة وأبعاد متعددة». ويقول على حرب: «إن أى معتقد أو جماعة ثقافية لا تخلو من صنف من هذين الصنفين، وإن قلنا إن أصحاب العقول المنفتحة كانوا على مدى تاريخ العلماء والمفكرين المسلمين أقلية نادرة» (ص١٠٢)، هكذا يمايز على حرب بين نفسه وبين الآخرين، ويقول: «فأنا أصنف العلماء والمفكرين تصنيفا مغايرا لتصنيف أهل الملل والنحل، فأنا لا أقوم بفرزهم على أساس أيديولوجى عقائدى، وإنما أصنفهم إلى صنفين منغلق أو منفتح».
ويبدأ على حرب بابن تيمية كنموذج للمنغلق، ذلك أن ابن تيمية يقول جازما: «إن العلم الموروث عن النبى هو وحده الذى يستحق أن يسمى علما، مستبعدا كل علم لا تكون النبوة مصدره، وابن الصلاح أفتى بأن (الفلسفة أساس السفه والانحلال ومادة الحيرة والضلال)، أما الغزالى فهو الأسبق والأكثر فاعلية فى صياغته للموقف المنغلق، فهو الذى اتهم الفلاسفة بالكفر. وحتى ابن خلدون العلامة الفذ ومكتشف علم العمران، وقف هو أيضا ضد الفلسفة والفلاسفة، متحدثا بالتفصيل عما سماه معايب الفلسفة وأخطارها على العقائد الإيمانية». ويمضى على حرب قائلا: «وهكذا استبعد الأشعرى الإمامى من الإسلام، واستبعد الظاهرى الأشاعرة، واستبعد الإمامى كل من عاداه، ومواقف هذا الصنف لا تتفق مع الفطرة، وهى تصادر العقل لحساب المعتقد، فضلا عن أن القرآن يرفضها، فقد نص على النظر والتفكر وإعمال العقل، وفى الحديث الشريف (ما قسم الله للعباد شيئا أفضل من العقل)» (ص١٠٥). وبعد ذلك يقدم إلينا على حرب النموذج الآخر المنفتح، وكان ابن رشد نموذج أهل الانفتاح على الثقافات وعلوم الغير، وكان فقيرا وقاضيا وفيلسوفا فى قرطبة، وقد صاغ موقفا سمحا ومرنا وفكرا عقلانيا بناء، فقال فى كتابه «فصل المقال»، متحدثا عن مواقف الآخرين من أهل المعتقدات الأخرى وأفكارهم: «ما كان منها موافق للحق قبلناه وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق حذرنا منه وعذرناهم فيه»، ولعل الفارابى سلف ابن رشد قد أتى برؤية أكثر انفتاحا على ثقافات الغير، ذلك أنه لم ينطلق فى موقفه من منطلق شرعى فقهى، ولم يقدم نفسه بوصفه منتميا صراحة إلى ملة من الملل، فهو إن كان له انتماء فقد انتمى إلى الفلسفة وانحاز إليها، فهو لم يفاضل بين الأمم والديانات والعقائد، بل أقر بوجود أكثر من ملة فاضلة وغير فاضلة. أما ابن عربى فقد خطا خطوات أوسع وأكثر جرأة، إذ رأى الحق فى كل صورة، وتماهى مع كل معتقد، متهما بالجهل كل ذى معتقد يتعصب لمعتقده.
وكذلك الشريف الرضى، وهو فقيه للمذهب الشيعى الإمامى، إضافة إلى كونه شاعرا، فقد كان منفتحا على الآخر حتى لو كان غير مسلم وعلى غير مذهبه، وقد تجلى ذلك فى رثائه لصديقه الذى كان على مذهب الصائبة، إذ رثاه بقصيدة شهيرة يبرز فيها مناقبه ومطلعها:
أعلمت من حلموا على الأعواد/ أرأيت كيف خبا ضياء النادى. وأهاج ذلك كثيرا من الشيعة الإمامية على الشريف الرضى، فقد تصوروا أنه لا يجوز امتداح شخص غير شيعى إمامى، ذلك أنه يكون بالضرورة أدنى مرتبة ولا يستحق الإشادة به. وقد وصل الأمر بالشيعة أن قال ابن بابويه عن أحد الأئمة فى كتابه «علل الشرائع»: «إن السنة لا يفوزون برضوان ربهم يوم القيامة ولو كانوا من أهل الطاعة، فى حين أن الشيعة يفوزون برضوانه ولو كانوا من أهل المعصية، ذلك أن الله يبدل حسنات أهل السنة سيئات، وسيئات أهل الشيعة يبدلها حسنات»، وبناء على هذه الرواية سماه الشيعة بـ«الصدوق».
ويختتم على حرب دراسته قائلا: «أنا أدعو إلى الانفتاح، لكن لا أنفتح على أهل الانفتاح انفتاحا غير محدود، وإلا انقلب انغلاقا، فإن قراءة هوية ما، ذاتا كانت أم فعلا من خلال مقولة واحدة وحيدة تؤدى إلى الاستبعاد والانغلاق، لأنه لا مقولة واحدة تستغرق كينونة أى كائن. فالمنفتح قد ينقلب منغلقا بانفتاحه الأعمى. إذ إنه لا هوية إلا ويتبدى فيها الانفتاح والانغلاق فى آن واحد».