الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

نقض الإسلام السياسى.. أزهريًا

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تنقل كتب التاريخ أن أحد المتمردين الخوارج قال للحسن البصرى: ماذا تقول فى الخوارج؟ فأجاب الحسن: يحاربون السلطان طلبًا للدنيا. فرد الخارجى: بل من أجل الدين. فسأل الحسن: هل منعك السلطان من الصلاة والصوم والحج والزكاة؟ فقال الخارجى: لا. فرد الحسن: «إذن أنتم طلاب دنيا». 
هذه القصة على بساطتها تقول أمورًا كثيرة إلا أن أول المعانى التى تؤكدها بوضوح تام هو أن الإسلام السنى منذ فترة مبكرة رفض فكرة القفز على السلطة والتنازع عليها حتى ولو كانت الأهداف أو المبررات التى تقدم لذلك نبيلة كالعدل، ورفض الجور، وغيرهما، فهذا الحسن البصرى سيد التابعين الذى تربى على أيدى الصحابة الكرام لم يستسغ صراع الخوارج مع الأمويين، واعتبره طلبا للدنيا رغم أن الحسن كان من أشد الرافضين والمعارضين للسياسة الأموية، لكن رفض السياسة شيء والصراع والقفز على السلطة شيء آخر.
وهكذا كان تصور الإسلام السنى على مر العصور، فنفس الموقف تجده عند الإمام ابن تيمية الذى يتهم الآن - كذبًا وزورًا - أنه الأب الروحى لداعش وغيره من تنظيمات العنف، ففى إحدى جولات التتار التى استولوا فيها على الشام هرب الوالى المسلم، وسيطر التتار على الشام، فما كان من ابن تيمية إلا أن جهز الجماهير وحشدهم للجهاد ضد المغول، وبعد أن طردهم أعاد الوالى الهارب إلى السلطة. هذا رغم أن ابن تيمية كان لديه تصور ما عن العدالة، وما يجب أن يكون عليه مسار الحكم والسلطة، وبتعبير معاصر كان لدى ابن تيمية مشروع سياسي وقانوني متكامل لكنه لم يفكر أن يستحوذ على السلطة ليطبق هذا المشروع، وسار وفق الرؤية السنية التى ترى أن علاقتها بالسلطة هى النصيحة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بالقول.
ولِمَ نذهب بعيدًا ولدينا فى مصر المثال الأبرز وهو الأزهر، فشيوخه وعلماؤه شاركوا وقادوا ثورات وانتفاضات شعبية ضد الولاة والسلاطين فى عصور مختلفة، ولم يفكر أحد منهم أن يصل للسلطة حاكمًا أو زعيمًا بل عندما ثار المصريون على الوالى العثمانى خورشيد باشا اختار شيوخ الأزهر، وأعيان مصر محمد على باشا وهو عسكرى ألبانى ولم يسند الأمر إلى علماء الأزهر أو شيوخ الطرق الصوفية مثلًا.
قارن التصرف السابق للأزهر بسلوك ملالى طهران فى عام ١٩٧٩م عندما ثار الإيرانيون ضد الشاه، واختطف الملالى الثورة أو استغلوا ثورة الشعب للوصول إلى السلطة والحكم.
هذا الاختلاف بين الأزهر والملالى ليس مجرد اختلاف ظاهرى عارض بل هو امتداد للاختلاف بين التصور السنى والتصور الشيعى الاثنى عشرية، حيث يرى الاثنى عشرية الإمامة والسياسة، ركنا من أركان الإسلام والعقيدة، ومن ثم يحتاج الأمر إلى طبقة من رجال الدين ترجع إليهم شئون الدولة والحكم. باختصار التصور الشيعى للحكم هو صورة من صور الحكم الدينى الذى سيطر على أوروبا فى العصور الوسطى.
أما عند الإسلام السنى فالحكم وإدارة شئون السلطة، أمر مصلحى تدبيرى فنى وموقف فقهاء الشريعة منه لا يختلف عن موقف النخبة والمثقفين، فإذا كان للمثقف أن يقدم رؤية لما يجب أن يكون عليه شكل الحكم، ومساره فمثله فى ذلك الفقيه له أن يقول رأيه دون أن يكون لهذا الرأى قدسية، أو فضل على غيره فالأفضلية والتقديم للنافع والمفيد دنيويًا.
لذلك كان طبيعيا أن من يؤسس ويروج لفكرة الإسلام السياسى فى مصر هو حسن البنا خريج التعليم المدنى العلمانى وليس شيوخ الأزهر.
هناك مثال آخر يمكن استدعاؤه من صدام دولة يوليو ٥٢ مع الإخوان فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين، لتأكيد أن التصور السنى يرفض تسييس الدين، حيث يلحظ قارئ تاريخ هذا الصدام أن قممًا أزهرية أمثال الباقورى وسيد سابق ومحمد الغزالى انحازت للدولة ولم تنحز للإخوان، وتعاونت مع النظام ووصلت لأعلى المناصب فى حين تحول الصراع إلى صراع دينى عقائدى لدى أصحاب التعليم العلمانى، أمثال سيد قطب وزينب الغزالى والهضيبى وغيرهم.
تداعت كل أولئك الأفكار السابقة إلى ذهنى، وأنا أطالع الرسالة الموجزة التى أصدرتها مكتبة الإسكندرية، مؤخرًا بعنوان «رؤية وبنية الدولة فى الإسلام» للمفكر الأزهرى اللبنانى دكتور رضوان السيد. الدكتور رضوان خريج كلية أصول دين جامعة الأزهر قسم عقيدة وفلسفة بكلية أصول الدين - حصل على العالمية عام ١٩٧٠م - ثم بعد ذلك أكمل دراسته فى ألمانيا كلية «توبنغن» حيث حصل على دكتوراه الفلسفة عام ١٩٧٧م، ومنذ ذلك الحين خصص مشروعه الفكرى للتأكيد على أن الإسلام السياسى خارج على المذهب السنى، وأنه امتداد بشكل أو بآخر للتصور الشيعى الاثنى عشرية أو للخوارج أو للمعتزلة فى بعض صورها. 
يمكن تلخيص أبرز أفكار رسالته الموجزة، والمشار إليها سابقًا فى النقاط التالية:
أولًا: السلطة أو النظام فى المجتمع المسلم - أغلبيته مسلمة - ذات طبيعة سياسية وليست دينية ويستدل على ذلك بالوثيقة التى كانت بين الرسول - ص - واليهود، فقيام اتفاق بين المسلمين واليهود يعنى أننا أمام نظام سياسى وليس دينيًا. 
ثانيًا: مهمة الدولة مهمة دنيوية وليست دينية ويستشهد بقول الإمام على - رضى الله عنه - : «لاَبُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِير بَرّ أَوْ فَاجِر، يَعْمَلُ فِى إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ، وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ، وَيُبَلِّغُ اللهُ فِيهَا الأجَلَ، وَيُجْمَعُ بِهِ الْفَيءُ، وَيُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ، وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ، وَيُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ، حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ، وَيُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِر».. فكلام الصحابى الجليل رابع الخلفاء يقول إن مهمة ولى الأمر ليست إدخال الناس الجنة وإبعادهم عن النار بل إدارة شئونهم ومصالحهم بشكل دنيوى نافع.
ثالثًا: يرصد مفكرنا الأزهرى تبلور المذهب السنى كتيار مختلف عن بقية التيارات الفكرية الأخرى خلال الحقبة العباسية، حيث سعت كل التيارات لتبرير أو لتأصيل وصولها وسعيها للخلافة بأسانيد دينية، فى حين سار التيار السنى فى الاتجاه المعاكس، مؤكدًا أن المكان الحقيقى للإسلام هو المجتمع والأمة والسواد الأعظم وليس فى السلطة أو النظام السياسي.
رابعًا: عندما حاول الخليفة العباسى المأمون تحويل السلطة إلى نظام دينى عبر محاولته فرض «خلق القرآن» على الأمة تصدى لذلك الإسلام السنى ممثلًا فى أحمد بن حنبل، معتبرا أن ذلك تدخل من السلطة فى شأن دينى ليس لها، لأن مهمة النظام هو إدارة الشئون الدنيوية وليس فرض تصورات دينية. هذه أبرز النقاط التى يمكن الوقوف عندها فى هذه الرسالة الموجزة، تبقى نقطة أخيرة وهى إذا كانت مصر تخوض حاليًا معركة شرسة ضد تيارات الإسلام السياسى معتمدة فى ذلك على مؤسسة الأزهر، فلماذا لا تتم الاستفادة من كتابات رضوان السيد، سواء بتدريسها فى الأزهر أو فى المدارس أو إعادة نشرها بشكل موسع حتى يتضح للجميع أن ما دعا إليه حسن البنا هو ابتداع فى الدين وخروج على الإسلام السنى. وإذا كانت هيئة كبار العلماء تضم بين ظهرانيها علماء وأسماء غير مصرية فلماذا لا يكون رضوان السيد عضوًا فى الهيئة؟ فالرجل أزهرى فضلا عن أن كتاباته تكشف عن تقدير وإكبار لمصر ودورها فى حماية الإسلام المعتدل على مر العصور.