الأحد 16 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

حكايات "الناس اللي ورا السد"

 السد العالي
السد العالي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«رحت اشتغلت فى السد لأن كان نفسى أشترى قميص، فى الوقت ده كان القميص بربع جنيه، ويوميتى ربع جنيه، بياخد منها المقاول قرشين صاغ وكنا بنقبض كل ١٥ يوم، فى أول قبض اشتريت كل اللى نفسى فيه وبقى معايا فلوس، بس الأهم إن أبوى بقى يعاملنى كراجل بعد ما كنت مهمل، لما اشتغلت فى السد إخواتى البنات عرفوا الألوان بعد ما كانوا بيقضوا السنة بجلابية سودة، الأسود ستار والألوان فضاحة».. كانت هذه إحدى شهادات العمال الذين ساهموا فى بناء السد العالي، بمعنى أدق أحفاد من حفروا قناة السويس، لكن هذه المرة كان عرقهم وحياة من قضى منهم لأجل أولادهم ومستقبلهم.
ربما كان «حراجى القط» أشهر من عرفناهم من بناة السد البسطاء الذين أصبحت أسماؤهم فى غياهب النسيان، نظرا لانشغال المؤرخين بكتابة تاريخ الحكام والقادة فحسب، وعلى غرار هذا تم تجاهل معظم تاريخنا الحقيقي، تاريخ المهمشين من المصريين، سواء بما عاشوه أو عايشوه من أحداث، أو بما أملوه بأن يكون فيما يطلق عليه المؤرخون مصطلح «التاريخ المأمول».
فى كتابه «التاريخ الإنسانى للسد العالي»، يقدم الكاتب والروائى «يوسف الفاخوري» السد العالى كائنا حيا من لحم ودم، يستعيد سيرته الأولى الحقيقية التى طمرتها كتب التاريخ وهى تسعى وراء كل ما هو رسمى وفردي، غافلة صناع التاريخ الحقيقى الذين لم يكن لهذا الإنجاز أو غيره أن يمر إلا إذا ارتوى من عرقهم وامتزج بدمهم ودموعهم وتلون بآلامهم وأفراحهم، فهذا مثلا «عربى أبو عبدالله»، عبر ترحيله تنقل مشيا على الأقدام من الأقصر إلى العريش ومنها إلى أسوان رحلته الأخيرة، حيث عمل فى السد العالى كعامل حجار، كان عمله يبدأ بعد التفجير، حيث يتم ربطه من وسطه بالحبال وعليه معالجة الأحجار التى شرخت ولم تسقط، وذلك بواسطة سن العتلة فى الشرخ، والضغط إلى أن يسقط الحجر أسفل الجب.
هذه المهنة كانت من أشق المهن، فمن يسقط من ارتفاع خمسين مترا مصيره محتوم، وقد سقط العديد من العمال. يقول عبدالله فى أول حواره مع الفاخوري: «هما فى الأول لما ابتدوا فى السد كانوا عايزين يعملوه بالكرابيج،» وحين سأله الفاخورى إن كان قد رأى الكرابيج بعينه، أكد أنه رآها فى المخازن ثم انتفض وقال: «بس الريس عبدالناصر الله يفتح عليه قال لا متضربوش الناس، كتروا الورادى وكتروا الفلوس والناس حتشتغل»، يقول الفاخوري: «رحت أتقصى الأمر، لكن الجميع أكدوا أن ذلك لم يحدث»، وقال أحد الموظفين الذين عملوا فى العلاقات العامة فى السد: «رأيت فعلا هذه الكرابيج فى المخازن لكنها لم تكن للعمال، قبل أن يبدأ العمل أثناء فترة الرفع المساحى كان المهندسون يستخدمون البغال لأن الطرق الممهدة لم تكن موجودة».
أما الأسطى «سنوسى عباس» فيقول فى شهادته: «إنه سمع لأول مرة عن السد سنة ٦٣ وكان وقتها فى مدرسة «الصنايع»، وصدر قرار جمهورى بتكليف جميع طلبة دبلوم ثانوى صناعى بترك المدارس والانتظام فى العمل فى السد، وكان السبب أن القيادة التنفيذية فى السد أخطرت القيادة السياسية أنهم يحتاجون لعمالة فنية، وقيل وقتها إن عبدالناصر قال: «مش مستعد أفرغ كل مصانع مصر وأستورد عماله فنية من الخارج، طلبة دبلوم الصنايع يتفضلوا يشتغلوا فى السد». وبدأت الناس تيجى من المحافظات وسكنوهم وقسموهم إلى مجموعات، فى بعض الأقسام مش محتاجين ليها بدأ يعملها تحويل تدريبى لمدة ٦ شهور فى مركز تدريب السد العالى ويلحقوا بالشغل، مع نهاية السنة كل الطلبة يعتبروا ناجحين فى العملى بمجاميع كبيرة لأنهم ما امتحنوش نظري، ده أدى إلى أن الطلبة دول انضموا للمعهد العالى الصناعى، وفيهم اللى بعد ما اتخرج رجع تانى السد العالي، حاليا فيهم رؤساء قطاعات ومديرون عموم، الممارسة العملية إدته فكرة بقى أكثر كفاءة من بتاع كلية الهندسة».
وعن الحياة والإعاشة اليومية للعمال يواصل سنوسى شهادته: «كل شيء فى السد كان لصالح العاملين خلال ٣ سنين اللى اشتغلت فيها، فى الأول كنت أروح فى ميعاد الغدا أدفع ٣ قروش ويدينى تذكرة، الراجل يدينى صينية مقسمة عيون وملعقة دول عهدة، وآخد خضار وحتتين لحمة أو ربع فرخة ورز وعيش وفاكهة، العمال والمهندسون زى بعض بسعر واحد»، وعن الرعاية الصحية يقول سنوسي: «كان الأطباء العسكريون معينين فى السد العالي، وكان الاهتمام بالعامل المريض غير عادي، وأذكر فى سنة ٦٧ كانوا بيعملوا كتلة أسمنت خليط يصبوه علشان يتحط على الأنفاق، الأسمنت ده بينزل على خوص، فيه فنى المفروض معاه مسدس فيه مسمار، بيطلق المسمار يخش فى الخوص ويمسك عشان يبقى زي جانش، وهو بيضرب الطلقة مدخلتش فى الخوص ويبدو أن الطلقة جاءت بعيد فصدت تانى وضربته فى دماغه، زمايله جابوه واتعملت له أشعة واكتشفنا أن المسمار فى دماغ الراجل متماس مع المخ، نقل المريض للقاهرة بالطيارة مع دكتور مرافق، الجراح وقتها طلب ألفين جنيه فقالوا له خد شيك على بياض، الدكتور كان متردد لما إدوله الشيك اللى على بياض، واستدعى زميلا له من لندن، وتم إجراء العملية للعامل خلال ٣ أيام، وما زال حيا يرزق».
وعن العلاقة بين العمال والمهندسين والخبراء الروس يقول سنوسي: «مرة كان فى «كمرة» عايزين نشيلها، وفوجئت بالراجل الروسى بيمسك معانا ويرفع، وماكنش عندهم شغلانة عيب والمهندسين القدام كنا نحفظهم بالاسم، أما صدقى سليمان كنت تلاقيه فى أى وقت، فى صلاة الفجر داخل النفق، والعمال يقولون له إنت الريس تؤمنا فى الصلاة، ومكنش فى وقت معين بيمر فيه، ممكن الساعة ١٢ أو واحدة صباحا، وكان مدى تعليمات لمكتبه فى القاهرة إن أى حد جاى من السد العالى مفيش حاجة اسمها انتظار يستأذن من السكرتارية ويدخل على طول».