السبت 01 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

حمدي أحمد.. وداعا للفنان المثقف "المعجون بطمي النيل"

 الراحل حمدي أحمد
الراحل حمدي أحمد
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يشكل الفنان المصري الراحل حمدي أحمد نموذجا مضيئا للفنان المثقف بقدر ما تكشف إبداعاته في السينما والتليفزيون والمسرح عن أصالة تكوينه الثقافي الإنساني ومعنى الانتماء لتراب الوطن ودفاعه عن قضايا شعبه وأحلام مواطنيه.
ومن هنا استقبل المصريون نبأ رحيله عن الحياة صباح أمس "الجمعة" عن عمر تجاوز ال 82 عاما بحزن بالغ، وهم الذين تابعوا في الأشهر الأخيرة تطورات الحالة الصحية لهذا الفنان المبدع وصاحب أكثر من 35 مسرحية و25 فيلما سينمائيا و89 مسلسلا تلفزيونيا و3000 ساعة إذاعية.
ولد حمدي أحمد في التاسع من شهر نوفمبرعام 1933 بمركز "المنشأة" في محافظة سوهاج بجنوب مصر،وبدأ مسيرته الفنية فور تخرجه من معهد الفنون المسرحية عام 1961، وشغل منصب مدير المسرح الكوميدي عام 1985 فيما عرف بمواقفه السياسية الملتزمة بالدفاع عن قضايا شعبه المصري وأمته العربية وانتخب كعضو في مجلس الشعب عام 1979.
وإذا كانت الثقافة الغربية ماضية قدما في تنظيرات للسينما وكتابات حول تاريخ هوليوود مثل تلك الدراسة لفرانسين بروس التي تطرق فيها لأفلام هوليوود كأداة فاعلة للقوة الناعمة الأمريكية، فإن تاريخ السينما المصرية لابد وأن يتوقف بما فيه الكفاية أمام إبداعات حمدي أحمد كفنان مصري كبير كانت آخر أعماله السينمائية المعروضة فيلم "صرخة نملة" عام 2011، فيما كان آخر مسلسل تليفزيوني له بعنوان:"في غمضة عين" عام 2013.
ولئن تأملت العين العديد من أعمال حمدي أحمد لاكتشفت أنها تحمل شحنة ثقافية إبداعية بعمق وبساطة في آن واحد،كما أن الكثير من أعماله كانت في الأصل نصوصا لكتاب من أصحاب القامات العالية وفي مقدمتهم نجيب محفوظ الذي جسد حمدي أحمد شخصيته الباقية أبدا في الذاكرة السينمائية "محجوب عبد الدايم" في فيلم القاهرة 30، كما لن ينسى عشاق الفن السابع دوره في فيلم "الأرض" الذي أخرجه يوسف شاهين عن رواية لعبد الرحمن الشرقاوي.
وكشف حمدي أحمد النقاب - في مقابلة صحفية - عن أنه ناقش شخصية محجوب عبد الدايم مع مبدعها نجيب محفوظ الذي اتفق معه في الرأي على أن هناك عوامل في واقع الحياة والظروف الطبقية في الفترة التي تتناولها الرواية أدت إلى أن يكون مثل هذا الشخص بكل هذا السوء، وأن نجيب محفوظ طلب منه التعبير عن تلك الرؤية وهو يؤدي الدور بأدواته كممثل في فيلم "القاهرة 30" دون أي تغيير في السيناريو.
والصورة الذهنية والحقيقية للفنان حمدي أحمد هي صورة "الفنان الملتزم" منذ أن استهل مسيرته الفنية بالعمل في فرقة التليفزيون المسرحية ليشارك في مسرحية "شيء في صدري" بقيادة المخرج الكبير نور الدمرداش، فيما جاء رحيله بعيد خسارة أخرى للفن المصري عندما رحل فجأة فنان ينتمي لجيل أصغر سنا من جيل حمدي أحمد وهو الفنان الكبير ممدوح عبد العليم الذي كان بدوره فنانا مثقفا وصاحب حساسية فنية عالية.
والساحة الفنية المصرية عرفت دوما مثقفين وأصحاب رؤى عميقة مثل المخرج الراحل يوسف شاهين والممثلة محسنة توفيق والراحل العظيم محمود مرسي والممثل المبدع يحيى الفخراني ناهيك عن نور الشريف الذي رحل في العام الماضي وها هو العام الجديد يبدأ بفقد الفنانين ممدوح عبد العليم وحمدي أحمد.
وفيما كان حمدي أحمد قارئا من الطراز الأول، وعرف بعشقه للكتب التي كان يقضي ساعات طويلة يوميا في صحبتها، فإن مسيرته الفنية المبدعة تعبر عن الارتباط العضوي والخلاق بين السينما والمسرح والتليفزيون والأدب، وهي علاقة تتجلى بوضوح لكل من شاهد إبداعات فنية مثل "القاهرة 30" و"الأرض" و"الشوارع الخلفية" لعبد الرحمن الشرقاوي ومسلسل"الوسية" عن قصة للدكتورخليل حسن خليل وكذلك مسلسل "شارع المواردي" للمؤلف محمد جلال.
وهناك أيضا مسلسل "بوابة المتولي" المأخوذ عن رواية لأسامه أنور عكاشة، فيما كتب السيناريو والحوار محمد حلمي هلال ومسلسل "قافلة الزمان" لعبد الحميد جودة السحار فضلا عن مسرحية "أدهم الشرقاوي" التي اعتمدت على ملحمة من ملاحم الأدب الشعبي المصري ومسرحية "الرجل الذي فقد ظله" عن رواية للكاتب الكبير فتحي غانم، كما شارك حمدي أحمد في فيلم "قاهر الظلام" الذي يروي قصة حياة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين.
ولا جدال أن حمدي أحمد كان من الفنانين الذين جمعوا ما بين إبداعات الفن وقضايا السياسة، حتى أنه اعتقل وهو في السادسة عشرة من عمره أثناء مشاركته عام 1949 في مظاهرة ضد الاحتلال البريطاني وتعلم حب القراءة خلال فترة اعتقاله التي دامت نحو شهرين وعرف على مدى سنوات كصاحب مقالات وطروحات هامة في عدة صحف حول السياسة والثقافة والفن.
وفيما حضر هرم الرواية المصرية والعربية النوبلي نجيب محفوظ في أشهر عمل سينمائي لحمدي أحمد وهو "القاهرة 30" الذي عرض لأول مرة عام 1966 فإنه كان من الفنانين المفضلين لدى اثنين من عمالقة الإخراج السينمائي في مصر والعالم العربي وهما صلاح أبو سيف ويوسف شاهين، كما قدمه المخرج السينمائي الكبير توفيق صالح والصديق المقرب لنجيب محفوظ في فيلم "المتمردون".
ومن علاماته السينمائية أيضا دوره في فيلم "أبناء الصمت" للمخرج محمد راضي، فضلا عن "دوره الصامت" في فيلم "عرق البلح" للمخرج الراحل رضوان الكاشف وقبل ذلك دوره في فيلم "العصفور" للمخرج يوسف شاهين.
وتكشف أدواره المتنوعة حقا ما بين الانتهازي والوصولي والناقم والمغلوب على أمره والساذج الريفي عن قدرة فذة في عالم التمثيل سمحت له بأداء كل هذه الأدوار وبعضها بالغ التركيب بإتقان فيما يمكن القول دون مبالغة أن حمدي أحمد "موهبة حقيقية معجونة بطمي النيل قدمتها ارض الكنانة لعالم الفن والإبداع".
ولم يكن من الغريب أن يتخذ فنان مثقف وصاحب رؤية مثل حمدي أحمد مواقف لا تعرف المهادنة حيال ما يسمى "بأفلام المقاولات" التي تفسد الذائقة العامة للمتلقين وأن يؤكد دوما على أن الفن "ليس قبلات وعري".
ومن الضروري في هذا السياق إيضاح أن فنانا كحمدي أحمد لم يكن مغرورا أو يتعالى على زملائه عندما يتخذ مواقف حادة،وإنما كان في الواقع ينتصر لقيم الفن وقيمة الفنان ولأنه صاحب ذائقة ثقافية وفنية رفيعة المستوى فقد كان من الدال بعد إعلان نبأ وفاته أن يتداول بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت مقطع فيديو من آخر لقاء تليفزيوني له وهو يستمع باكيا لقصيدة يغنيها الفنان التونسي لطفي بوشناق.

ولأنه مثقف حقيقي فهو من "أصحاب المواقف" حيث كلفته بعض هذه المواقف الكثير وقلصت أحيانا قسرا من حجم حضوره الفني وأثرت سلبا على فرص مشاركته المستحقة في أعمال فنية سواء كانت أفلاما أو مسلسلات تليفزيونية ومسرحيات.
ومع ذلك فهذا الفنان الراحل العظيم كان لا يهتم بحجم دوره في أي عمل فني وإنما يهتم كل الاهتمام بالرسالة التي ينطوي عليها هذا العمل الفني وأهدافه وتأثيره في المجتمع ولايتردد في التنديد بأعمال منسوبة للفن ويراها تشكل عدوانا على الفن الحقيقي والمجتمع ككل.
وتظهر حالة الاهتمام الجماهيري سواء على مستوى الشارع أو مواقع التواصل الاجتماعي بنبأ رحيل الفنان حمدي أحمد تقديرا لا جدال فيه لمسيرة هذا الممثل الذي يحق وصفه بأنه ينتمي "للسلالة المباركة من الفنانين المثقفين وأصحاب الرؤى الإبداعية" كما أنه كان يؤكد دوما على أن السينما من أهم أدوات القوة الناعمة المصرية ومن ثم فينبغي النهوض مجددا بصناعة السينما التي عانت في السنوات الأخيرة من جملة إشكاليات.
وبين أحلام التغيير والانطلاق والمعوقات والسلبيات فإن حمدي أحمد الذي تضرب جذوره في أرض الجنوب، بدا دوما منحازا "للفن السابع الحقيقي المناويء للإسفاف والانحدار وغياب المفاهيم أو التنصل من المسئولية الأخلاقية".
فأغلب أعمال هذا الفنان المصري الكبير عبرت من منظور ثقافي عن "إعلاء للقيمة وشعور بالمسئولية وإدراك للدور والرسالة" وهذا النموذج مطلوب بإلحاح لمواجهة ممارسات الانفلات وحالة الهزال الإبداعي والثقافي في بعض أفلام المرحلة بقدر ماهو ضروري لمواجهة أفكار التطرف والعقل التكفيري.
ومطلوب أيضا تشجيع الفنانين من الجيل الشاب والصاعد للتأسي بنماذج مثل نموذج حمدي أحمد بثقافته العميقة ورؤاه الفكرية التي تجلت في خضم العملية الإبداعية للسينما أو الدراما التليفزيونية ناهيك عن المسرح "أبو الفنون".
حمدي أحمد: ستبقى بإبداعك المعجون بطمي النيل في قلوب وعقول وأرواح المصريين..مثلك لايستبيحه الغياب أو يتحول لمجرد صرخة أو دمعة في صباح حزين ثم يهوى في انكسار الوقت!..ستبقى حاضرا في الذاكرة المصرية والعربية علامة ثقافية وفنية مضيئة للمبدعين من الأجيال الشابة في كل وقت.