الأحد 16 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الوضوح محرك التطور الآمن

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يتلقى أطفالنا منذ البداية عددا هاما من الدروس، نشترك جميعا في تلقينهم إياها في بيوتنا ومدارسنا ومساجدنا وكنائسنا، وفي مقدمة تلك الدروس أن صاحب القرار ليس ملزما بتقديم تفسير لقراراته، وليس مطالبا بالإجابة عن السؤال "لماذا؟"، بل إن مجرد استخدام هذا الأسلوب الاستفهامي قد يعتبر في حد ذاته إهانة لصاحب القرار خاصة إذا ما تعلق الأمر بقرار يبدو ظالما بصورة أو بأخرى، إننا ندرب الطفل بل والكبير على أن المطالبة بالشفافية والتفسير تعد نوعا من الاجتراء على صاحب القرار، ويرسخ هذا المفهوم لدى الجميع سواء من يتخذون القرارات أو من تتخذ حيالهم.
الأمثلة حولنا تفوق الحصر، فكثيرا ما نعتبر مجرد التظلم أي التساؤل عن مبرر العقاب أو الحرمان أو عدم المساواة إهانة موجهة لصاحب القرار، كثيرا ما نشاهد راشدا يعاقب طفلا  أو رئيسا يعاقب مرءوسا، فإذا ما تساءل الطفل أو المرءوس عن السبب فيما يعتبره ظلما أو أبدى عدم اقتناعه بالمبررات المطروحة، استشاط الكبير غضبا وازداد شدة في عقابه وتناثرت منه تعبيرات من نوع "كيف تجرؤ على الرد علي؟". أما إذا جرؤ الطفل أو المرءوس على طلب تفسير ما يراه تمييزا في المعاملة، فإنها الطامة الكبرى.
لقد صادفت يوما واحدا من طلبة الدراسات العليا يستفسر عن سبب رسوبه في مادة أقوم بتدريسها رغم إنه على ثقة من تميز إجابته، وحين أوضحت له أنني لا أستطيع الإجابة عن استفساره، و نصحته بأن يقدم طلبا مكتوبا لإعادة التصحيح، واستخدمت تعبير "عليك أن تتقدم للعميد بتظلم رسمي حتى يمكن السماح لي بالاطلاع على ورقة إجابتك". كانت استجابته لاقتراحي استنكار أن يصدر عنه مثل ذلك السلوك المعيب "العفو!! هل يعقل أن أشكو حضرتك؟".
إن انتشار التساؤل عن الأسباب يعد بمثابة المحرك لتقدم المجتمعات علميا واجتماعيا. لقد كانت التساؤلات المندهشة حيال أمور تبدو طبيعية معتادة بمثابة الومضة الأولى بالنسبة للعديد من أعظم الاكتشافات العلمية التي ننعم باستخدام تطبيقاتها التكنولوجية في عالم اليوم، كذلك فإن التساؤل عن الأسباب، و خاصة أسباب الحرمان، كان عبر التاريخ بمثابة القوة الدافعة للتقدم الاجتماعي حيث يمثل الشرط الأساسي لاكتشاف المظالم والوعي بها ومن ثم البحث عن سبيل لتجاوزها.
فيبدو للوهلة الأولى أن حصول المحروم أو المظلوم على إجابة تفسر السبب لما يشعر به أمر مفيد للمظلومين الذين يعانون حرمانا فحسب، و حقيقة الأمر أن مثل تلك الشفافية أو المكاشفة تكون مفيدة للجميع كأفراد وكمجتمع على حد سواء، فقد لا يكون الظالم واعيا بظلمه فيتراجع عنه عند اكتشافه تائبا معتذرا، فضلا عن أنه قد يتبين أسباب ارتكابه لذلك الظلم. وفي بعض الحالات قد يتبين المحروم أو المظلوم أن حرمانه أو إخفاقه كان له ما يبرره ومن ثم يتحمل مسئوليته عنه ويعدل بالتالي من سلوكه الخاطئ. لقد كنت منذ سنوات في زيارة علمية للجزائر، و ذات مساء بينما أهم بالجلوس في أحد المقاهي فوجئت بمن يضع أمامي إبريقا من العصير المثلج، و أبديت اندهاشي لأنني لم أطلب شيئا بعد، و فوجئت بأن من يقدم لي المشروب أحد العاملين بالمقهى الذي عرفني بنفسه. إنه مصري كان ضمن طلبتي منذ سنوات بعيدة. وشعرت بنوع من الزهو إذ كنت واثقا أن هذا الطالب الوفي إنما يعبر لي عن امتنانه لحصوله على درجة مرتفعة في المقرر الذي درسه على يدي، و إذا بي أفاجأ بالعكس. لقد كان ذلك المقرر هو المقرر الوحيد الذي رسب فيه. وتبين لي من خلال المناقشة أن ذلك الود الذي أبداه لي إنما يرجع لأمر آخر غاب عني. لقد أحس حين ظهرت النتيجة أنه مظلوم. وكنت قد اعتدت أن استهل العام الدراسي الجديد بأن اجتمع بطلابي الذين لم يوفقوا في اجتياز امتحان العام السابق، و أن أناقش معهم أسباب عدم توفيقهم. كان صاحبنا واثقا من صواب إجابته وبدا عليه عدم الاقتناع بتفسيراتي العامة. آنذاك كانت ثقة إدارة الجامعة في نزاهة الأستاذ الجامعي موفورة كما يفترض دائما، ومن ثم كان ممكنا في القسم الذي أنتمي إليه على الأقل أن أسترد ورقة الإجابة من الكنترول لإعادة النظر فيها، و ذلك ما حدث بالفعل. عرضت للطالب إجابته من واقع ورقة الإجابة كما عرضت له نماذج من أوراق أخرى لطلاب ناجحين. عندها فقط تبين له عدالة الدرجة التي حصل عليها، وظل بعد أعوام طويلة يحفظ لي ما أسماه "احترام الطلاب"، وما أسميه "التزام صاحب القرار بمكاشفة المتضررين من قراراته".
يصدق ذلك على الصغار والكبار. على القرارات القومية الكبرى والقرارات اليومية الأسرية الصغيرة. المكاشفة والتفسير ضمان لصاحب القرار قبل أن تكون حقا للمتظلم.