الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

صيحات التجديد الديني ( 47 )

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الآن آن لى أن أكتب محاذراً وأن تتردد الكلمات خاشية المبالغة فى المديح . فالآن أنا أكتب عن صديق عزيز عشنا زمناً نتحدث يومياً تليفونياً نتبادل الهموم والأفكار والنكات ونلتقى كثيراً جداً ، وظللنا أحياناً كثيرة نقتسم الكلمات والأفكار والعبارات والمواقف . وفى أحيان كثيرة نقتسم الخوف من هجمات الإرهاب المتأسلم والإصرار أيضاً على تحدى الخوف وتحدى التهديدات وتحدى التأسلم الفكرى والعملى أى الارهابى . أنا الآن أكتب محاذراً .. فأنا أكتب عن فرج فودة .
وفرج فوده بدأ جهده الفكرى فى عالم الزراعة وحصل فيها على درجة الدكتوراة . لكن العقل ذلك الإيحاء الجبرى الذى لا يعصيه إلا العصاة استدرجه ثم غرسه فى ساحة الاستنارة ومنها الى ساحة المواجهة الفكرية ضد التأسلم فكرسه داعية للفكر المستنير وللعقل والعلم . وفى جلسة حوارنا الأولى فى ندوة لجماعة التنوير التى شاركت فى تأسيسها أخرج من جيبه قصاصه ورق قبل البدء فى الحوار ووجه كلامه لى وقرأ "اجتمع متكلمان فدعا أحدهما الآخر للمناظرة فقال أقبل على شروط : لا تغضب ولا تعجب ولا تشغب ولا تحكم ، ولا تلتفت لغيرى وأنا أكلمك ، ولا تجعل ادعاءك دليلاً ضدى ، ولا تعطى لنفسك الحق فى تأويل آية لتبرر بها رأيك إلا إذا سمحت لى بتأويلها على مذهبى ، وأن تؤثر التصادق إلى السعى للتعارف ، وعلى أن يكون كلام كل منا سعياً نحو الحق والرشد والعقل" فأجبته ضاحكاً أوافق على شروط وهى أن نتكاتف معاً للسعى نحو العقل والاستنارة وأن يشد أحدنا أزر الآخر ويرشده ويشجعه للسعى نحو مجتمع مستنير خال من التأسلم الارهابى .
وضحكنا وضحك الحضور وبدأنا . فقط أريد أن أتذكر مع القارئ أنها كانت أيام عاصفة بالإرهاب والتهديدات لكلينا وفى زمن تراجع فيه الكثيرون عن المواجهة واكتفوا إما بالصمت أو بالدعوة الخائفة نحو التصالح مع التأسلم . ولم يبق سوى سوانا .
وكان فرج فوده حزيناً دوماً ، مضى حزيناً ورحل حزيناً نلتقط قطرات حزنه من صفحات كتبه ففى "قبل السقوط" [1985] نقرأ الإهداء "إلى ولدى ياسر الذى لم أدخر له إلا المخاطرة" وفى المقدمة التى أرخها – القاهرة – 19 يناير 1985 . نقرأ "لا أبالى إن كنت فى جانب والجميع فى جانب آخر ، ولا أحزن إن ارتفعت أصواتهم أو لمعت سيوفهم ، ولا أجزع إن خذلنى من يؤمن بما أقول ، ولا أفزع أن هاجمنى من يفزع لما أقول ، وإنما يؤرقنى أشد الأرق أن لا تصل هذه الرسالة إلى من قصدت ، فأنا أخاطب أصحاب الرأى لا أرباب المصالح ، وأنصار المبدأ لا محترفى المزايدة ، وقاصدى الحق لا طالبى السلطان ، وأنصار الحكمة لا محبى الحكم ، وأتوجه إلى المستقبل قبل الحاضر . وحسبى إيمانى بما أكتب ، وضرورة أن أكتب ما اكتب ، وبخطر ألا أكتب ما أكتب" .
ويمضى فرج ليسجل مزيداً من قطرات الحزن فى مقدمة كتاب آخر هو "الحقيقة الغائبة" "هذا حديث سوف ينكره الكثيرون لأنهم يودون أن يسمعوا ما يحبون ، فالنفس تأنس لما تهواه ، وتتعشق ما إستقرت عليه ، ويصعب عليها أن تستوعب غيره حتى لو ثبت أنه الحق ، أو توسمت أنه الحقيقة . وأسوأ ما يحدث لقارئ هذا الحديث أن يبدأ ونفسه مسبقة بالعداء ، أو متوقعة للتجنى ، وأسوأ منه موقف الرفض مع سبق الاصرار للتكفير ورفض استعمال العقل" [صـ1] . وعقب قراءتى لمخطوط لهذا الكتاب فقد سبق أن تعاهدنا على تبادل مخطوطاتنا قبل طباعتها قلت له "لا تنزعج فالأفكار لا تبلى بل تبقى يخيل لأصحابها أنها ستكون بلا أثر ولخصومها أنها يجب أن تدفن لأنها شديدة الخطر لكنها تبقى لتزف الحقيقة إلى المستقبل . وقلت "هذا على الأقل ما أكده د. شبلى شميل . فسأل وأجبت ثم أحضرت له مجموعة أعمال د. شميل فى مجلدين ، أختفى فرج ولم يتصل ولم يجب على تليفوناتى لأسبوعين ، ثم صاح تليفونياً لقد تفرغت لشبلى شميل حتى قرأت مجلديه . والتقينا وبدأنا نقرأ معاً بعضاً مما قاله شبلى شميل . فبعد أن أصدر كتابه عن نظرية داروين كتب "ولما قمت أبث هذا المذهب، لم يكن له أتباع ولا مؤلفات فى اللغة العربية بل كان أنصاره حتى فى أوربا نفسها لا يتجاوزون عدد الأصابع" لكن شميل صاح فى وجه الجميع كما صاح فرج فوده "لست اخشى تخطئة الناس لى إذا كنت أعرفنى على حق ، ولا يسرنى تصويبهم لى إذا كنت أعرفنى مخطئاً" ثم يقول "فهذه الرجة التى أحدثها كتابى هى المقصودة منى فى ذلك الحين لإيقاظ الأفكار من نومها العميق والحركة مهما كانت خير من السكون" [شميل – فلسفة النشوء والارتقاء – صـ د من المقدمة] ثم يقول "وما كنت أطمع أن أرد الناس لى فى هذا الزمن القصير ، وأنا لا أجهل ما يحول دون ذلك من الصعوبات ، بل إنى قصدت مباغته الأفكار للفتها إلى غير مألوفها وإن كنت لا أجهل أن إلقاء حجر فى المستنقعات الراكدة لا يقلق الضفادع المطمئنة إلا أنى أيضاً لا أجهل فعل الخمير المخمر، فإن أقل ما يعلق فى العقول ينمو فيها غالباً بفعل سرعة الاختمار نفسها" [المرجع السابق – صـ28] قرأنا صفحات وصفحات من كتابات شبلى شميل وكان لها فى عقلينا فعل السحر ، وأدركنا أن لما نكتب أثر سيبقى مهما قل الانصار أو حتى القراء ومهما تكاثر هجوم الخصوم وإتهاماتهم بالتكفير وتهديداتهم بالقتل وتكاتفنا وتعاهدنا ومضينا معاً .
وكتب فرج فودة كثيراً فترك أثر كبيراً .
فماذا قال ؟