الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

صيحات التجديد الديني (43)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

فى كتاب صارخ وحاد الكلمات لكنه قادر على قدر لا بأس به من الإقناع يصرخ المؤلف د. محمد النويهى بعنوان يقول "نحو ثورة فى الفكر الدينى"، وقد صدر الكتاب فى أعقاب النكسة [1967]  محاولاً أن يضمد جراح الفكر المصرى المستنير ويحدد الكاتب أسباب النكسة قائلاً: إنها لم تكن "سوى الحاصل النهائى لضعف عام عميق شمل كل نواحى كياننا المادى والروحى والسياسى والاجتماعى والاقتصادى والفكرى والدينى والاخلاقى" والحل هو "البناء الحضارى الشامل لجميع أركان حياتنا المعاصرة". وهذا المفتتح للكتاب ليس للمؤلف ولكنه اقتبسه من خطاب لعبدالناصر، لكن المؤلف يكمل ليؤكد "لا سبيل إلى الانتصار بل لا سبيل إلى الاحتفاظ بمجرد البقاء إلا إذا أقبلنا على البناء الحضارى الشامل ، وهو بناء يزيل كل مخلفات القرون المظلمة ، ويتطرق إلى كل أركان حياتنا"(صـ19) والمؤلف يطلب ذلك كله من فئة واحدة يحددها هى المثقفين، ولكنه يحذر "لكن مثقفينا لكى يقوموا بهذه الثورة الفكرية الشاملة يحتاجون إلى قدر عظيم من الشجاعة والاستعداد للتضحية حتى يقابلوا ما سيرميه بهم المجتمع المحافظ من التهم وما سيثير عليهم من العداوات" (صـ49) ولأن الكتابة تنتمى إلى الحقبة الناصرية فإن المؤلف لم يشأ أو لم يستطع أن يشير إلى بؤس المثقف الذى يعانى من سيف المعز وذهبه فإن أبى كان السجن والمطاردة فى الرزق، ورغم ذلك نمضى مع المؤلف الذى يحث المثقفين على ضرورة "الدخول فى جدل ضد الخرافات والأوهام التى تختلط بالعقائد الدينية الصحيحة، بل وتتغلب عليها فى أذهان الكثرة الغالبة من المجتمع، ومع التفسيرات والتأويلات القديمة لبعض مسائل الدين التى ربما كانت صالحة لبيئات وأحوال ماضية لكنها لم تعد صالحة للمجتمع الحديث" ويضيف: "ولم يميز أفراد المجتمع بسهولة بين ما هو خرافات تلبست بالدين، وما هو عقائده الصحيحة، ولا بين ما هو من الأسس التي لا تقبل التغيير وما هو تأويل وتفسير يجوز أن يتغير بل ويجب أن يتغير"[صـ50] . وإلى هنا يشير المؤلف إلى إشكالية شديدة الخطورة وهى أن البعض من المتشددين ومن البسطاء قد يتصورون أن هذه الدعوة للأخذ بالتجديد هى معاداة للدين ذاته ومن ثم يتهمون أصحابها بالباطل، ومن ثم فإن على المجددين فى أمر الدين أن يؤكدوا وأن يواصلوا التأكيد أنهم إنما يحاولون إنقاذ فهم الدين وفهم مراميه الحقيقية من براثن المتاجرين به ودعاة الرجعية والتخلف، ومن ثم يقتنع الناس: "إن نهضتنا المطلوبة تتطلب التخلي عن كل فهم زائف لمواضيعنا، وتقديس مفرط أو مغرض لكل ما هو متخلف من مفردات تراثنا الذى يتضمن كثيرا مما هو جيد وعاقل لكن البعض لا يختار إلا ما هو خرافي وغير معقول ومندس فى هذا التراث فيقتاد عامة الناس نحو التفكير الخرافى وغير العقلانى بحيث يسهل التأثير عليهم واقتيادهم نحو التخلف والمزيد من التخلف".

ويمضى المؤلف ولو أن هؤلاء المتشددين ودعاة الفكر الخرافى وغير العقلانى "قد اقتصروا فى تقييدهم لحرية الفكر على مراقبة الآراء التى تتناول مسائل الدين أصلية وفرعية لربما هان الخطب، لكنهم اعتقدوا أن الدين يسمح لهم بالتدخل فى العلم والطب والفلك والطبيعة والإحياء وسائر المعارف العلمية مقررين أى آرائها يطابق الدين وأيها يخالفه" ثم يقول: "وخلاصة القول إنه لا يكاد يوجد رأى علمى جديد إلا وقامت عليه قائمة رجال الدين بحجة انه يخالف الدين، والذى يعنونه فى الحقيقة أنه يخالف فهمهم الخاص للحياة والكون والعقل والعلم". [صـ58] ومن ثم فإن المؤلف لا يمل من المطالبة مراراً بضرورة أن "نقاوم كل محاولة لكبت الرأى الجديد بأسم الدين ، ولا بد أن نسمح لهذا الرأى بأن يدافع عن نفسه ، فمن يدرى بمدى صحته ، لأنه لن يحق الحق ويزهق الباطل إلا بالدرس والنقاش والجدل". [صـ59]. ثم يقتادنا المؤلف إلى موقع آخر أكثر إثارة للجدل إذ يقول "لابد أن نلح فى تأكيد أن الإسلام بكل مصادره لم يحاول قط أن يدعى أنه قد وضع للناس نظاماً دنيوياً كاملاً، ولا يقبل التغيير . فالتغيير وضروراته أصل من أصول التشريع نفسه، ولولا ذلك لما تقرر الأخذ بالقياس والإجماع وهما مصدرين أساسيين للتشريع الاسلامى منذ عهد مبكر جداً. ومغزى ذلك المبدأ هو الاعتراف بنشوء حالات ليس فيها تشريع فى كتاب ولا سنة . بعضها يشبه حالات نشأت من قبل فنأخذ فيها بالقياس ، وبعضها لا يشبه شيئاً ظهر من قبل فيكون حله بأجتهاد أهل الرأى ، وما يتفقون عليه من أحكام جديدة يعتقد أصحابها أنها صالحة نافعة" [صـ61]. ويأخذنا المؤلف الى حديث الرسول الكريم إلى أهل المدينة "انتم اعلم بشئون دنياكم" فإذا كان أهل المدينة على زمن الرسول ورغم وجوده بينهم وما يأتيه من وحى وحكمة أعلم بشئون دنياهم فماذا عن زماننا الذى يتباعد كثيرا بل كثيرا جدا عما كانت عليه بساطة الحال فى زمن الرسول . وماذا عن حقنا فى أن نكون أدرى بشئون دنيانا نحن بمستجداتها العلمية والفكرية والتكنولوجية وتشابكات الأوضاع المستجدة والمتجددة دوما وبلا توقف ؟ .
ثم يحاول المؤلف أن يضع يده على الجرح الحقيقى قائلاً: إن منشأ المشكلة هو أن الوعى الاخلاقى والفكرى والعقلى والعلمى لمعظم أفراد المجتمع يتخلف عن ملاحقة التطور المادى والسياسى والفكرى الذى يطرأ على المجتمع وعما يقتضيه هذا التطور من تغيير فى المواقف والقيم والتشريعات ثم هو إذ يدعونا إلى التجديد يحذرنا "بأن المجتمع كجدول الماء إن وقف مكانه دون تجديد تعفن" (صـ114]) وهو يشير إلى شجاعة عمر بن الخطاب الذى أسقط حد القطع عن السارق فى عام المجاعة ووافقه أحمد بن حنبل والأوزاعى، وكيف أن ابن الخطاب طالب الأغنياء بإعطاء ما طلبه خوفا من استيلاء الفقراء على أموالهم.
وتمضى الكتابة لتستوجب الشكر للكاتب الذى حاول مواجهة التخلف والجهالة وإغلاق أبواب العقل فى هذا الزمان المليء بالظلام لكن المهم هو أن المفكر المجدد قد عالج فيه ما اعتقد أنه أحد أسباب الهزيمة العسكرية "ليوضح لنا خطر تأثير إغفال العلم والعقل فى فهم الواقع المتجدد والتعامل معه".