رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

العقاد.. عملاق هزمه الحب

العقاد
العقاد
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
"لا أحب الكتب لأنني زاهد في الحياة، ولكنني أحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني". هكذا كتب الأديب الراحل الكبير عباس محمود العقاد، الذي نتذكره اليوم فى ذكرى مرور 125 عامًا على ميلاده، و50 عامًا على رحيله. روى العقاد عن نشأته أنه نشأ في صعيد مصر بمدينة أسوان، وُلِدَ في يوم الجمعة الموافق 28 من يونيو 1889، لأب يعمل موظفاً بسيطاً في إدارة المحفوظات، تلقّى تعليمه الابتدائي بمدرسة أسوان الأميرية، وحصل منها على الشهادة الابتدائية سنة 1903م وهو في الرابعة عشرة من عمره.
وفي أثناء دراسته كان يتردد مع أبيه على مجلس الشيخ أحمد الجداوي، وهو من علماء الأزهر الذين لزموا جمال الدين الأفغاني وكان مجلسه مجلس أدب وعلم، فأحب العقاد القراءة والاطلاع، وكان مما قرأه في هذه الفترة "المُسْتَطْرَف في كل فن مستظرف" للأبشيهي، و"قصص ألف ليلة وليلة"، وديوان البهاء زهير وغيرها، ثم ازداد إقباله على مطالعة الكتب العربية والإفرنجية، وبدأ في نظم الشعر.
ألمّ بقدر غير قليل من مبادئ اللغة الإنجليزية حتى نال الشهادة الابتدائية بتفوق وأتاح له ذلك قراءة الأدب الإنجليزي مباشرة. وقال حينئذ عن نفسه: "عرفت قبل أن أبلغ العاشرة أني أجيد الكتابة وأرغب فيها، ولم ينقطع عني هذا الشعور بعد ذلك إلى أن عملت بها واتخذتها عملاً دائماً مدى الحياة".
ولم يكمل تعليمه بعد حصوله على الشهادة الابتدائية، بل عمل موظفًا في الحكومة بمدينة قنا سنة 1905م، ثم نُقِل إلى الزقازيق سنة 1907م وعمل في القسم المالي بمديرية الشرقية، وفي هذه السنة توفي أبوه، فانتقل إلى القاهرة واستقر بها.
اشتغل بالصحافة وانتخب لعضوية مجلس النواب مرتين وعين في مجلس الشيوخ مرتين، وكان عضوا في مجامع اللغة العربية بالقاهرة ودمشق وبغداد.
حصل على عديد من الأوسمة والجوائز منها جائزة الدولة التقديرية عام 1960م.
توفي العقاد في الثاني عشر من مارس سنة 1964م بعد أن ترك تراثاً كبيراً.

العقاد أميرًا للشعراء
بايعه طه حسين بإمارة الشعر بعد موت شوقي، وحافظ إبراهيم، قائلا: "ضعوا لواء الشعر في يد العقاد، وقولوا للأدباء والشعراء أسرعوا واستظلوا بهذا اللواء، فقد رفعه لكم صاحبه".
بدأ إنتاجه الشعري قبل الحرب العالمية الأولي وكان أول ديوان بعنوان "وهج الظهيرة"، وتوالت بعد ذلك مجموعاته الشعرية والتي بلغت عشرة دواوين هي: يقظة الصباح، أشباح الأصيل، أعاصير مغرب، بعد الأعاصير، أشجان الليل، وحي الأربعين، هدية الكروان، عابر سبيل.
وقد وصف الدكتور زكي نجيب محمود شعر العقاد بأنه أقرب ما يكون إلى فن العمارة والنحت، وكان العقاد صاحب نظرية في الشعر تقوم على مراعاة الصدق، وتحقيق الوحدة العضوية، والتعبير عن الذات والاهتمام بالعقل والفكر إلى جانب القلب والعاطفة، وقد خاض معارك شديدة ضد أنصار القديم تتمثل في كتاب نقدي صدر له مع إبراهيم المازني بعنوان "الديوان" 1921، فهو يعتبر أحد أهم رواد تلك المدرسة الرومانسية في النقد الأدبي.

عدو المرأة
يعتبر العقاد من أشهر الكتاب الذين تعرضوا للمرأة في كثير من كتاباتهم والذي اتهمه الكثيرون أنه عدو للمرأة باعتبار أن آراءه مناهضة للمرأة.
احتلت المرأة عناوين الكثير من كتب ومقالات العقاد، وقد أوضح العقاد رأيه في عمل المرأة معتبراً أن عملها الأساسي هو حفاظها على بيتها وأولادها وتربية النشء، فقال ضمن سؤال وجه إليه: ماذا يحسن أن تستبقي المرأة الشرقية من أخلاقها التقليدية؟ "يجب أن تظل المرأة الشرقية كما كانت في كل عصر ملكة البيت الحاكمة المحكومة يسكن إليها الرجل من متاعب الحياة ولا يزال عندها -صغيرا كان أو كبيرا- طفلا لاعبا يأوي منها إلى صدر الأمومة الرفيق وأحضانها الناعمة رضيعا ويافعا وفتى وكهلا إلى أن يشيخ ويفنى، ويستدعي ذلك أن تعيش هي في ظله وتعتمد في شئون العالم الخارجية عليه".
ويقول العقاد في قضية المساواة بين الرجل والمرأة: إن العدل هو المساواة بين حقوق الفرد التي له والواجبات التي عليه ومن الظلم الكبير التسوية بين فردين مختلفين في الحقوق التي لهما والواجبات التي عليهما.
ورأى أن النواح على الميت من عادات المرأة من قديم الزمان ورغم ذلك لم تخرج المرأة لنا يوما قصيدة رثاء تضاهي قصائد الرثاء لفحول الشعراء العرب.
ومن القضايا المهمة التي تحدث فيها العقاد قضية حجاب المرأة وهو يستمد رؤيته في هذه القضية من أحكام الشريعة الإسلامية، فقد أوضح القرآن الكريم أن المرأة لا يجوز أن تخرج بزينة جسدها لتجد الغواية بين الغرباء وتختلط بمن تشاء وقتما تحب.
ولكن يرى بعض النقاد أن معارك العقاد الصحفية مع بعض النساء كانت تتميز بالسخونة الشديدة التي تفوق أحيانا سخونة أسلوبه مع بعض مناظريه من الرجال.

العقاد والصحافة
اتجه العقاد إلى الصحافة بعد أن ضاق ذرعاً بحياة الوظيفة وقيودها، وكان أول اتصاله بها في سنة 1907م حين عمل مع محمد فريد وجدي في جريدة "الدستور" اليومية التي كان يصدرها، وتحمل معه أعباء التحرير والترجمة والتصحيح من العدد الأول حتى العدد الأخير.
وبعد توقف الجريدة عاد العقاد عام 1912م إلى الوظيفة بديوان الأوقاف، لكنه تركها ثانية واشترك في تحرير جريدة "المؤيد" التي كان يصدرها الشيخ علي يوسف، وسرعان ما اصطدم بسياسة الجريدة، التي كانت تؤيد الخديو عباس حلمي، فتركها وعمل بالتدريس فترة مع الكاتب الكبير إبراهيم عبد القادر المازني، ثم عاد إلى الاشتغال بالصحافة في جريدة الأهالي 1917م، ثم تركها وعمل بجريدة الأهرام عام 1919م واشتغل بالحركة الوطنية التي اشتعلت بعد ثورة 1919م، وأصبح الكاتب الأول لحزب الوفد والمدافع عنه أمام خصومه من الأحزاب الأخرى، ودخل في معارك حامية مع منتقدي سعد زغلول زعيم الأمة حول سياسة المفاوضات مع الإنجليز بعد الثورة.
وكان العقاد يكتب الافتتاحيات السياسية في جرائد مثل "البلاغ"، و"الجهاد"، وأصبح أحد كتاب الحركة الوطنية إبان ثورة 1919م.
سبق للكاتب الكبير أن رفض استلام جائزة الدولة التقديرية، معتبرا أنه أكبر منها، ومن قبلها رفضه لقاء الرئيس "جمال عبد الناصر" في القصر الرئاسي؛ منتظرا أن يأتيه الرئيس في بيته!

العقاد والحب
عاش العقاد معظم حياته وحيدا، فهو لم يتزوج وبالتالي لم تكن له عائلة خاصة وأولاد، لكن قلب هذا المبدع الكبير قد ذاق طعم الحب أكثر من مرة، حيث كان له في الحب ثلاث تجارب كبيرة على الأقل، فكانت التجربة الأولى هي حبه للأديبة مي زيادة، وكان حبا هادئا ليس فيه عنف ولا توتر، ويمكن القول إنه كان حبا روحيا لم يتجاوز حدود التعبير عن نفسه بلطف ونعومة في بعض الرسائل والقصائد الوجدانية.
الحب الثاني في حياة العقاد كما يروي الناقد رجاء النقاش في كتابه "أجمل قصص الحب من الشرق والغرب" كان حبا عنيفا، ولكنه انتهى نهاية حزينة جعل العقاد يقول عن نفسه "إن الناس الذين يشيرون لي بأصابعهم لا يعلمون أنني من أشقى الناس وأتعسهم".
كتب العقاد قصة هذا الحب في روايته الوحيدة "سارة"، وجاءت النهاية الحزينة لأن العقاد امتلأ بالشك في حبيبته وظن أنها تخدعه وتخونه مع غيره، ولم يحتمل احتمال علاقة تعاني من الشك، فانقطعت الصلة بين الحبيبين.. كانت الحبيبة تعيش مع عائلتها في مصر، وكان اسمها "إليس".
بعد أن انتهت قصة "إليس" وفي عام 1940 تعرف العقاد على فتاة سمراء جميلة تدعى "هنومة خليل"، فوقع في حبّها، وكان هو في الخمسين من عمره وهي في العشرين، وقد أدرك العقاد من البداية أن هذا الفارق الكبير في العمر لا يتيح لهذا الحب أن يستمر أو يستقر، ومع ذلك فقد عاش في ظل هذا الحب سنوات عديدة ذاق فيها السعادة.
لكن ما كان يخشاه العقاد فقد حدث، حين تعرفت هذه الحبيبة إلى النجم السينمائي أحمد سالم، فاختطفها فورا للعمل في السينما وتزوجها بعد ذلك، وسرعان ما أصبحت نجمة مشهورة هي الفنانة مديحة يسري.
كان العقاد يعترض على عمل مديحة، حيث كان يرى أن ذلك يضع نهاية للحب الذي ملأ قلبه، لكنها لم تتراجع عن عملها بالسينما، وسرعان ما أصبح لها جمهور كبير من المحبين والمعجبين، وأدرك العقاد أنه لن يستطيع تحمل هذه العلاقة فقرر أن يقطعها نهائيا، لأنه لو استمر في هذا الحب فلن يكون أكثر من واحد بين عشرات من الذين يلتفون حول النجمة ويقدمون لها الإعجاب والورود.
دخل العقاد في معركة هائلة مع نفسه وعواطفه، فلا هو قادر على أن ينسى حبيبته، ولا قادر على أن يتقبل وضعها الجديد ويرضى أن يكون واحدا من المعجبين، فاهتدى إلى فكرة عجيبة يرويها تلميذه وصديقه الفنان صلاح طاهر فيقول:
"ذات مرة كنت مع الأستاذ العقاد في شقته، ودخلت غرفة لأتحدث في الهاتف، فناداني العقاد بلهفة: يا صلاح.. تعالَ لا تتصل الآن، ورجعت إليه فوجدت الدموع في عينيه، فأخبرني أنه ينتظر على أمل أن تتصل به محبوبته الممثلة التي قاطعها منذ أربعة شهور.
ووجدت مدى تأثره بفراقها رغم قدرته الخارقة على التحمل والكتمان وتناقشنا في كيفية نسيانها، واقترح عليّ أن أرسم لوحة فنية عبارة عن تورتة شهية جدا وقد تهافت عليها الذباب، وبالفعل أنجزت اللوحة المطلوبة ووضعها العقاد على الحائط مقابل سرير نومه، وكلما استيقظ رأى اللوحة التي ساعدته على النسيان، وأذكر أنه في تلك الفترة كتب قصيدة "يوم الظنون" والتي يقول فيها:
وبكيت كالطفل الذليل أنا الذي/ ما لان في صعب الحوادث مقودي
وقد استعان العقاد باللوحة الفنية حتى ينسى أكبر قصة حب عاصفة في حياته.

مآخذ على العقاد
يقول كثير من المتحفظين على بعض ما يمثله العقاد من أفكار إنه لم يمتلك ما يعتبرونه فضيلة الشك وكان صدره يضيق بمخالفيه في الرأي وإنه أورث هذا العناد إلى أنجب تلاميذه سيد قطب المعروف بتحولاته الجذرية من النقد الأدبي إلى التنظير "الإسلامي" لمجتمع جديد يختلف عما أطلق عليه مجتمع الجاهلية. وسجل قطب تصوره في أكثر من كتاب آخرها (معالم في الطريق) قبل إعدامه في أغسطس 1966 بتهمة محاولة قلب نظام الحكم.
ويأخذ مثقفون مصريون على العقاد الذي حمل في شبابه لواء حركة التجديد في الشعر رفضه في شيخوخته محاولات تجديد شكل الشعر على أيدي جيل جديد، فحين كان رئيسا للجنة الشعر كتب على إحدى قصائد الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي "تحول إلى لجنة النثر للاختصاص" بحجة أن القصيدة التي كانت تلتزم الوزن لم تكن مقفاة كما يريد.

في صالون العقاد
كان العقاد يحرص على المواعيد والالتزام، ولا يسمح لأحد بحضور صالونه الأدبي، إن جاء متأخرا مهما كانت درجة صداقته به، وفي إحدى المرات اتصل به أحد الأدباء الشباب، واستأذنه في حضور جلسات الصالون، ولكن الشاب أتى متأخرا، فلقنه العقاد، على الباب، درسا في ضرورة الالتزام بالمواعيد.
اشتهر العقاد بصالونه الأدبي الذي كان يعقد في صباح كل جمعة، يلتقي بتلامذته ومحبيه الذين يعرضون لمسائل من العلم والأدب والتاريخ دون الإعداد لها أو ترتيب، وإنما كانت تُطْرح بينهم ويُدلي كل منهم بدلوه، وعن هذه الجلسات الشهيرة ألّف أنيس منصور كتابه "في صالون العقاد.. كانت لنا أيام".
تجاوزت كتُبُ العقاد مئةَ كتاب، بالإضافة إلى مقالاته العديدة التي تبلغ الآلاف في الصحف والدوريات، وكتب العقاد في موضوعات مختلفة، في الأدب والتاريخ والاجتماع، ووضع في الدراسات النقدية واللغوية مؤلفات كثيرة أشهرها: كتاب "الديوان في النقد والأدب" بالاشتراك مع المازني، وكتاب "ابن الرومي حياته من شعره"، وشعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي، ورجعة أبي العلاء، وأبو نواس الحسن بن هانئ، واللغة الشاعرية، والتعريف بشكسبير.
وله في السياسة عدة كتب يأتي في مقدمتها: "الحكم المطلق في القرن العشرين، هتلر في الميزان، وأفيون الشعوب، وفلاسفة الحكم في العصر الحديث - الشيوعية والإسلام - النازية والأديان - لا شيوعية ولا استعمار".
تجاوزت مؤلفاته الإسلامية أربعين كتابًا وفي العقيدة الإسلامية له ثمانية كتب هي: (الفلسفة القرآنية - الديمقراطية في الإسلام -الإسلام في القرن العشرين - مطلع النور - التفكير فريضة إسلامية - حقائق الإسلام وأباطيل خصومه - الإنسان في القرآن الكريم- ما يقال عن الإسلام).
وفي مجال الإسلاميات أيضا كتب العقاد سلسلة العبقريات التي استهلها بـ"عبقرية محمد"، ثم توالت باقي السلسلة التي ضمت "عبقرية الصديق"، و"عبقرية عمر"، و"عبقرية علي"، و"عبقرية خالد"، و"داعي السماء بلال"، و"ذو النورين عثمان"، و"الصديقة بنت الصديق"، و"أبو الشهداء وعمرو بن العاص"، و"معاوية بن أبي سفيان"، و"فاطمة الزهراء والفاطميون".
وله العديد من التراجم لأعلام من الشرق والغرب، مثل (سعد زغلول، وغاندي وبنيامين فرانكلين، ومحمد علي جناح، وعبد الرحمن الكواكبي، وابن رشد، والفارابي، ومحمد عبده، وبرنارد شو، والشيخ الرئيس ابن سينا).
وأسهم في الترجمة عن الإنجليزية بكتابين هما "عرائس وشياطين، وألوان من القصة القصيرة في الأدب الأمريكي". كما كتب رواية واحدة بعنوان " سارة " قبل أن يتجه إلى الفلسفة والدين.
ونشر له بعد وفاته: حياة قلم- أنا (ترجمة ذاتية له)- رجال عرفتهم.
تُرجمت بعض كتبه إلى اللغات الأخرى، فترجم كتابه المعروف "الله" إلى الفارسية، ونُقلت عبقرية محمد وعبقرية الإمام علي، وأبو الشهداء إلى الفارسية، والأردية، والملاوية، كما تُرجمت بعض كتبه إلى الألمانية والفرنسية والروسية.
ولا تخلو مؤلفاته من الفكاهة، ومن أعماله الفكاهية الجزء الأول من ديوان "بين محمد وعزوز" ، وقصيدة "احتفال بميلاد الكلبة فلورا" وحتى مقالاته السياسة كان فيها الكثير من السخرية والفكاهة منها: "علوبة يكره الأوباش"، و"يد من حرير ولكن بذراع من حديد".