الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

المسلم بين الإيمان الحق .. والتأسلم (15)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

وفي غمار التحالفات المجهضة التي حاول بها مصطفى وفريد إيجاد ولو ثقب إبرة بحثًا عن دعم لهما في معركتهما ضد الاحتلال؛ كان الميل باتجاه الخلافة العثمانية. فالولاء للخليفة العثماني يعني نفي مشروعية الاحتلال البريطاني، وفي هذا المناخ الشديد التعقيد، وفيما كان الإنجليز يضربون المثقف المصري الباحث عن وظيفة في السلم الإداري بمنح الأفضلية لأي مسيحي شامي؛ بما أشعل حالة من التشدد الإسلامي.
والحقيقة أن الحزب الوطني، إذ اقترب من دولة الخلافة، كان يقترب بنزعة إسلامية ووطنية في آن واحد. غير أنه لم يكن موحدًا في هذا الصدد، فقد تنازعه تياران، تيار “,”متأسلم“,” يتمسك بالخلافة كنقيض حتمي للنزعة الوطنية التي يعتبرها خروجًا عن الملة؛ ذلك أنه “,”لا وطنية في الإسلام“,”، وأن “,”إضاعة الخلافة إضاعة للذات“,”. وتيار ثان يرى أن فكرة الخلافة مناهضة للنزعة الوطنية الخالصة. وأن شعار “,”مصر للمصريين“,” هو الشعار الصحيح.
ومن هنا كان تحليل د. أنيس صايغ، الذي قال: “,”إن الحزب الوطني كان مثل مصطفى وفريد، مصريًّا أولاً، وإسلاميًّا ثانيًا“,” [د. أنيس الصايغ – الفكرة العربية في مصر – صـ 49].
وكان مصطفى واعيًا تمامًا لحقيقة المنزلق الذي اضطر إلى السعي نحوه، فهو يصرح لجريدة “,”لكلير“,” الفرنسية، قائلاً: “,”ومحصلة القول أن البحث في المسائل الشرقية على مبدأ الدين من أكبر الوسائل لتوليد الأحقاد والضغائن وتأجيل توطيد السلام العام“,” [علي فهمي كامل – المرجع السابق – صـ351].
وكان فريد يمتلك هو أيضًا تحفظات ضد الأتراك، ونقرأ في مذكراته يوم 17 فبراير 1894: “,”وينتظر تغيير المديرين الذين من الطبقة القديمة، والاستعاضة عنهم بشبان متعلمين يدركون معنى الوطنية وحقوق الوطن عليهم، ولا يكتفون بالرواتب والأبهة والعظمة واضطهاد المصري واحتقاره، كالباشوات الذين من أصل تركي أو يدعون ذلك“,”، ويصف الباشوات الأتراك “,”بأنهم لا يفقهون في أمر البلاد إلا قولهم إن الدواء للفلاح هو الكرباج“,” [مذكرات محمد فريد – القسم الأول – تاريخ مصر ابتداء سنة 1891 مسيحية – تحقيق د. رءوف عباس – صـ217].
وعندما أصدر فريد في عام 1894 كتابه “,”تاريخ الدولة العلية العثمانية“,”، وأشار في مذكراته إلى أن هذا الكتاب قد أثبت “,”فضل الدولة في إبقاء الإسلام والدفاع عنه، مع مقاومة جميع دول أوروبا المسيحية، وبرهن على أن المسألة الشرقية دينية لا سياسية“,” [مذكرات – المرجع السابق – صـ193].
ويقول فريد في مذكراته: “,”لا خلاص لمصر من استيلاء الإنكليز عليها إلا بتقوية عرى التابعية للدولة العلية، أو يجعل مصر حرة مضمونة من كافة الدول، لكن الأولى لحفظ نفوذ الإسلام هو التابعية للخلافة المحمدية“,” [المذكرات – المرجع السابق – صـ 186]. لكن ذلك كان مؤقتًا وغير ملتزم بفكرة الخلافة، وإنما هو تكتيك سياسي.
وينشر مصطفى كامل في الأهرام حوارًا جرى بينه وبين شقيق لورد كرومر تحت عنوان “,”حديث ذو شأن“,”، ويقول: “,”وقد بدأ حضرته بالكلام على خلاف عادة الإنكليز فقال: هل أنت مصري أم عثماني؟ فأجبته: مصري عثماني، فقال وسمة التعجب بادية عليه: وهل تجتمع الجنسيتان في أحد؟ فقلت: ليس في الأمر جنسيتان، بل هي في الحقيقة جنسية واحدة؛ لأن مصر تابع للدولة العلية، والتابع لا يختلف عن المتبوع في شيء من أحكامه“,” [الأهرام – 28-1-1895].
وعلى أيه حال التقط الخليفة العثماني الخيط المتمثل في زعامة مصرية وليدة معادية للإنجليز وتؤمل خيرًا في تحالف معه. ويشير فريد في مذكراته بزهو بالغ: “,”حضر الفاضل مصطفى كامل، الوطني الغيور، من الأستانة يوم الأحد 5 نوفمبر 1896، بعد أن أقام بها نحو أسبوعين، وأحسن العثمانيون لقياه، وأهداه السلطان علبة سجائر من الذهب مرصعة بالألماس، وهذا دليل قاطع على ارتياح مولانا الخليفة عن عمله ومساعيه“,” [المذكرات – المرجع السابق – صـ 273].
وهكذا تمضي سياسة التقارب غير المعبر عن صداقة فعلية. تمامًا كما كان الطرفان المصري والعثماني أيام الثورة العرابية. فالطرفان يقفان معًا ضد الإنجليز، لكن كل طرف يحاذر من الآخر، ويسعى كل منهما لتحقيق مصلحة متناقضة مع أهداف الطرف الآخر.
وعندما كان مصطفى في باريس [يوليو 1899] اتصل به سفير تركيا ليبلغه رغبة السلطان في رؤيته للمرة الثانية، فوصل الأستانة، وفي 20 أغسطس، حيث أنعم عليه السلطان بالنيشان المجيدي الثاني، ثم بالأول، فانهالت علية الصحف المأجورة تكيل له التهم“,” [أحمد رشاد – مصطفى كامل – حياته وكفاحه – مطبعة السعادة – صـ151]. إنها نفس الأدوات العثمانية التي استخدمت مع عرابي. ويربط الكثيرون بين هذه الزيارة وبين تمويل عثماني لإصدار جريدة اللواء. فبعد الزيارة بثلاثة أشهر صدرت اللواء في 2 يناير 1900“,” [أحمد رشاد – المرجع السابق – ص 153].
.. وتمامًا -كما كان مع الثورة العرابية- ما لبثت الصراعات أن وضحت معالمها. ففريد خاض معركة شديدة ضد الشيخ عبد العزيز جاويش ودعوته للخلافة، وما لبث أن طلب صناعة دبوس يعلقه أعضاء الحزب الوطني على صدورهم مكتوب عليه “,”مصر للمصريين“,”.
وعندما أعلنت بريطانيا الحماية على مصر. شعر فريد بخطر مناورات الخلافة العثمانية، فسجل في مذكراته: “,”هذا دليل جديد يضاف إلى غيره مما سبق ذكره على أن العثمانيين يداعبون الحزب الوطني ليساعدهم على فتح مصر، وبعدها ينفذون إرادتهم الاستبدادية في بلادنا“,” [المذكرات – 14-12-1914].
وفي اليوم التالي يكتب: “,”إنني أخشى أن يكون نصيبنا الشنق لو دخل جمال باشا بجيشه إلى مصر“,”. وفي يناير 1916، وفيما الحرب العالمية الأولى مشتعلة، ولم تتضح فيها الكفة الراجحة، تحدث فريد إلى الهر زمرمان، وكيل الخارجية الألمانية [حليفة الدولة العثمانية في الحرب] قائلاً: “,”لا يجوز للترك أن يتدخلوا في إدارة مصر لجهلهم البلاد وأهلها، بل لجهلهم الإدارة أصلاً، كما هو مشاهد في سوريا وغيرها. ولا نقبل أن نكون تحت إدارتهم؛ لأننا أرقى منهم كثيرًا، وبلادنا أكثر انتظامًا من قبل دخول الإنجليز، وبالاختصار فإن الأتراك يريدون أن يأكلوا مصر. ولكننا لا نقبل أن نؤكل بسهولة، فنحن قاومنا الإنجليز، ونقاوم كل من يريد أكلنا؛ لأننا نسعى للاستقلال، وغاية ما نقبله أن نكون مع الأتراك مثل المجر مع النمسا، على شرط المساواة في الحقوق والاستقلال التام“,” [عبد الرحمن الرافعي – المرجع السابق – صـ433].
.. وتتفرق السبل، مصر تمضي في طريقها نحو الاستقلال رافضة أي وصاية أو تدخل باسم الخلافة.. ويفترق السبيلان. حتى تكون ثورة الاستقلال الوطني في 1919. وتسقط دولة الخلافة العثمانية. وكما أتت في تركيا تسقط في تركيا.