الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

المسلم بين الإيمان الحق .. والتأسلم (13)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كانت علاقة العرابيين بالخليفة العثمانى معقدة وملتبسة . فما من مصرى فى ذلك الزمان إلا وأعتقد بقدر أو بآخر أن الخليفة العثمانى هو رمز للإسلام وأن الولاء له – ولو إسمياً – هو ولاء للإسلام . ولكنهم كانوا ككل المصريين أيضاً يمتلكون بغضاً شديداً لتصرفات الولاة العثمانيين الذين نهبوهم واستغلوهم ومارسوا ضدهم ظلماً لا يطاق ومن ثم كان الاقتراب المصرى من مقام الخلافة مغلفاً على الدوام بالهتاف عند الضرورة “,”يا رب يا متجلى أهزم العثماللى“,” .
وحتى نابليون عندما وصل الى القاهرة وزع بياناً قال فيه “,”أن الفرنسيس هم أيضاً مسلمون مخلصون ، وإثبات ذلك أنهم نزلوا رومية الكبرى وخربوا فيها كرسى البابا الذى كان دائماً يحث النصارى على الحرب ضد المسلمين ، كما أن الفرنساوية فى كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثمانى ، وأعداء لأعدائه أدام الله ملكه“,” [عبد الرحمن الجبرتى – مظهر التقديس فى زوال دولة الفرنسيس – صـ12] ويقول الجبرتى “,”إن سارى عسكر الفرنسيس عندما دخل القاهرة دعا المشايخ العلماء والقضاه والأئمة طالباً منهم أن يشكروا الله سبحانه وتعالى لانقضاء دولة المماليك فقالوا بصوت عال: أدام الله إجلال السلطان العثمانى وأدام الله إجلال العسكر الفرنساوى ولعن الله المماليك“,” [عبد الرحمن الجبرتى – عجائب الآثار فى التراجم والأخبار] .
وهكذا أدرك حتى الأجانب قيمة اللعب على الوتر الدينى فى محاولة احتلالهم لمصر ونقرأ لادوارد ديسى “,”إن الدين الاسلامى يمثل مكاناً هاماً وغير عادى فى حياة المصريين بحيث أن تجاهله يعتبر تجاهلاً لأحد العناصر الحاسمة فى المسألة المصرية“,” [p 179 – 1907- London – Egypt of the Future – Edward dicey].
وهكذا كان العرابيون فى تناولهم لمسألة الخلافة . وكان الخليفة أيضاً . إنها لعبة خداع متبادل . ففى 22 فبراير 1882 تلقى عرابى رسالة سرية من راتب باشا جاء فيها “,”أن جلالة السلطان قد أبدى أسفه لأنه تأثر فى الماضى بالترهات التى قيلت عنك وقد أمرنى جلالته أن أبلغك برضاه السامى عنك“,” ثم ألمح له “,”أن الباب العالى لا يتمسك بخديوى معين لحكم مصر لكن المهم هو أن يكون الخديوى شخصاً قادراً على حماية مصر ومستقبلها“,” ثم رسالة ثانية من الشيخ ظافر أحد رجال الباب العالى جاء فيها “,”والآن أبلغك خبراً غاية فى السرية هو أن جلالة السلطان لا يثق فى إسماعيل ولا حليم ولا توفيق وأن رجل المستقبل بالنسبة لمصر هو أنت“,”
[wilfrid Blunt - Secret History of the English Occuption of Egypt .p.258]
وبالمقابل كان عرابى يناور فيقول لبلنت “,”إننا جميعاً أبناء السلطان نعيش كأفراد أسرة واحدة فى بيت واحد ، وكل منا له أقليم من الإمبراطورية ، أى له حجرة مستقلة فى المنزل ، وهى حجرة خاصة بنا نتصرف فيها وفقاً لإرادتنا ويجب ألا نسمح لأحد بأن يعبث بسيادتنا ، لقد حصلنا على وضعنا المستقل من خلال نضال مستميت ، ولسوف نناضل للحفاظ عليه“,” [Blunt- ibid -p170] .
ويكتب صابونجى لبلنت قائلاً “,”أنهم يتملقون السلطان ويعلنون ولاءهم له كخليفة للمسلمين لكن الحقيقة هى أن السلطان لا يعينهم فى شئ ، إنهم يستخدمونه طالما أنه مفيد لهم ، لكنهم لن يلبثوا حين يحسون بقوتهم أن يعلنوا تمردهم عليه ، وإقامة جمهورية مستقلة فى بلادهم لقد قرروا ذلك منذ البداية . لكنهم ينتظرون الوقت المناسب“,” [ibid – [p.347 .
ويتواصل النفاق المتبادل . فالسلطان منح عرابى رتبة الباشوية فمنح الثورة قوة دفع عندما أحس الفلاحون أن الخليفة يمنح عرابى دعمه . وينزعج مستر كارترايت ويوجه رسالة الى لورد غرانفيل وزير الخارجية البريطانية “,”أن النيشان الذى منحه السلطان لعرابى قد أعلى من مقامه فى أعين الجميع ، وأعلى كلمته ، وشد من عزائم الجهادية وجعل عرابى هو المشار إليه والمعنى بالأمر“,”[سليم خليل نقاش – مصر للمصريين – الجزء الخامس – صـ 34] وفى نفس الوقت يكتب صابونجى الى بلنت “,”كنت أركب عربة حنطور مع عبد الله النديم وإذا به عندما وصل بنا الحديث إلى تركيا يصيح “,”كم أتمنى أن ينهدم عرش السلطان فوق رأسه“,” . وكان شاعر تركى مرافق لوفد السلطان برئاسة درويش باشا يهجوا عرابى شعراً عقب معركة الإسكندرية
أحرقت أعرابى ثغر بلادنا .. والله قد حاطت بك الآثام .
فإنظر جزاء الله يأتى عاجلاً .. يا بن الزنا ما هذه الإجرام [سليم نقاش - المرجع السابق – جـ 5 – صـ242] .
ونعود إلى بلنت فبعد جلسة عقدها مع ضباط العرابيين قال “,” لقد أعربوا عن تحيزهم للنظام الجمهورى ، وقد ظل محمود باشا سامى البارودى يعدد لى مزايا إقامة حكومة جمهورية فى مصر ، وقال أننا منذ البداية نريد أن نكون دولة جمهورية مثل سويسرا لكن بعض العلماء والمشايخ يرفضون هذه الفكرة فهى شئ جديد على مجتمعنا وقد كلفنا عبد الله النديم أن يعد أذهان الجيل الجديد لذلك“,” [ibid – p.344] . وفى 10 مايو 1882 أبرق قنصل فرنسا الى وزير خارجيته “,”أنهم حكومة ثورية يرغبون فى خلع الخديوى وعندما أقترح أحدهم أسم حليم باشا بدلاً عنه غضب عرابى وقال أننا نريد أن نتخلص من أسرة محمد على كلها“,” [لمزيد من التفاصيل عن مراسلات القناصل مع حكوماتهم حول ذلك الموضوع راجع : د. رفعت السعيد – الأساس الاجتماعى للثورة العرابية – الطبعة الخامسة – صـ 170 وما بعدها].
وفى نفس الوقت كان أنصار السلطان فى الداخل يهاجمون عرابى فيكتب فتح الله حمزة فى مجلة الاعتدال معدداً مخالفات عرابى للسلطان قائلاً : أمره درويش باشا بقبول اللائحة الانجليزية فرفض – وأمره بعدم الرد على النيران فرفض – وأمره بالحضور إلى الإسكندرية فرفض – وأمره بإخلاء الطوابى فرفض . بل إن مراسل جريدة استاندرد يقول “,”أن عرابى يعتبر العساكر العثمانية إذا وصلت الى مصر كعساكر أجنبية“,” [الاعتدال – يوليو 1882] وتكون المفارقة أنه ما أن بدأت قوات عرابى فى الرد على مدفعية الانجليز حتى خرجت جموع المصريين كما يقول دومريكر قنصل النمسا فى جماعات تحمل العصى والسيوف هاتفين فى الشوارع النصر للسلطان وعرابى“,” Viscont Milner – England in] [Egypt (1907) p.15 .
وفى ظل هذا التجاور المليئ بالخداع والمناورات . وفيما تتقدم الجيوش البريطانية بعد معركة كفر الدوار قام كبار الملاك العقاريين من أمثال سلطان باشا وزمرته باستجلاب أعداد كبيرة من مجلة “,”الجوائب“,” وهى الجريدة الرسمية للباب العالى الناطقة باللغة العربية وكانت تحمل فى صدر صفحتها الأولى “,”بيانامه“,” بإرادة سيدنا ومولانا السلطان المعظم أمير المؤمنين خليفتنا الأعظم إشعاراً لجميع المسلمين بأن الأفعال التى أجراها عرابى وأعوانه ورفقاؤه فى مصر مخالفة لإرادة الدولة العلية السلطانية ومغايرة لمصالح المسلمين ، وبناء على ذلك تقرر أن عرابى وأعوانه عصاه بغاة وبهذه الصفة تجرى معاملتهم“,” [راجع النص الكامل فى سليم نقاش – المرجع السابق – صـ201] .. وتسارع الجنود والفلاحون الذين هتفوا آلاف المرات النصر للسلطان وعرابى .. إلى الانفضاض عن حرب يصف الخليفة أمير المؤمنين ، حامى حمى الإسلام والمسلمين ، خاقان البرين والبحرين ، القائمين بها بأنهم بغاة عصاه .
.. وأستسلم عرابى . وردد المصريون فى مرارة “,”الولس هزم عرابى“,” ورددوا أيضاً “,”يا رب يا متجلى أهزم العثماللى“,” .