الخميس 30 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

"المدخل الثقافي" هام لوأد الفتنة في "الأرض الطيبة" والفوز في معركة تستهدف روح مصر

مجافظ اسوان
مجافظ اسوان
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وسط حالة من الصدمة التي اعترت المثقفين المصريين حيال "الفتنة في الأرض الطيبة" بأقصى جنوب مصر فإن هناك اتفاقا عاما على أهمية "المدخل الثقافي" لوأد هذه الفتنة والفوز في المعركة التي تحتدم حول روح مصر وهويتها وتنوعها وثراء حضارتها.
وإذا كانت أسوان قد اشتهرت لغويا بكلمة "ماسكاجرو" وهى مفردة نوبية تعني "مرحبا" فالسؤال الذي يتردد الآن كيف حدث ما حدث وسال الدم في الأرض الطيبة ؟!..أين الأسطورة وأين الحقيقة ؟!.
وبعيدا عن الإيغال والإفراط في "نظرية المؤامرة" فإن ثمة اتهامات "للأيادي الخفية للجماعة الإرهابية" التي استغلت طيبة أهل هذه المنطقة في أقصى الجنوب لإشعال فتنة تحصد الأرواح وتروع الآمنين فيما يسقط أبناء قبيلتي بني هلال والدابودية في "فخ الثأر" وصراع الدم.
ومن المثير للتأمل ما ذكره خبراء في هذا السياق من أن محافظة أسوان لم تشهد جريمة ثأر واحدة منذ القرن ال(18) فيما وقعت الأحداث الدموية الأخيرة ومحاولات إشعال فتنة عرقية في توقيت بالغ الحساسية وحافل بالتحديات للوطن الذي يستعد لاستحقاق الانتخابات الرئاسية.
واللافت أيضا تلك الأبواق الناطقة بألسنة أعداء مصر والشامتة في الدم المصري المراق بالأرض الطيبة في منطقة "السيل الريفي" والسعي بالشر لإذكاء الفتنة فيما تسارع لترويج الأكاذيب و"ميراث الغضب المدجج بالأسلحة" بقصد النيل من المؤسسات الوطنية التي انحازت للإرادة الشعبية في ثورة 30 يونيو.
وضمن حلول مطروحة لمواجهة الفتنة في الأرض الطيبة تتوالى الدعوات لتدخل الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف وكبار علماء الدين ورموز ثقافية وطنية وتوظيف الجوانب الإيجابية في الموروث الاجتماعي فيما يتوجب على وسائل الإعلام بمختلف توجهاتها مراعاة حساسية الأزمة الحالية والإحجام عن نشر أي صور أو محتوى من شأنه تأجيج الغضب في النفوس الملتهبة بما يكفي!.
وكان الأزهر الشريف قد عبر عن أسفه "لآثار العصبية البغيضة وخطوات الشيطان التي تسيطر على مجرى الأحداث في ارض يعرف عن أهلها منذ القدم طيبة النفس وشهامة الخلق" كما عبر عن ألمه الشديد من التهوين والاستخفاف بالدماء التي تنزف على الأرض وطالب أطراف النزاع أن يحقنوا دماءهم ويجلسوا إلى حكمائهم لإزالة أسباب الكراهية والبغضاء بينهم.
وإذا كانت المنطقة التي دارت فيها الأحداث الدموية الأخيرة ذات طبيعة ثقافية-اجتماعية تتسم بالخصوصية فإن هناك حاجة بالفعل لاستخدام مدخل ثقافي لوأد الفتنة التي يسعى أعداء مصر لتوظيفها في الحرب ضد وطن أصبح الناطق المعبر عن التحولات العميقة للحاضر العربي بقدر ما تدور معركة أخرى حول "روح مصر".
وفيما استخدم تعبير "المحنة الثقافية"، قال المحلل والمعلق السياسي الدكتور أسامة الغزالي حرب "في أسوان قصر للثقافة فاخر ومشرف وفي أسوان أيضا ما لا يقل عن ستة بيوت للثقافة كانت يوما ويمكن أن تكون دائما منارات للإبداع الفني والأدبي وللتفاعل الفكري بين مواطني أسوان بكل انتماءاتهم فماذا فعلت تلك القصور والبيوت"؟!.
وإلى جانب المسائل المتعلقة بالآداء الأمني و"معدل البطالة المفزع الذي ضاعف منه شلل النشاط السياحي"، يضيف الدكتور أسامة الغزالي حرب قائلا "ولكن علينا أن نعترف بأن المحنة في أسوان هى محنة ثقافية في المقام الأول"، موضحا "هى الواقع المؤلم للقيم والتقاليد والممارسات التي تكرس للقبلية بعيدا عن روح المواطنة".
وطالب أسامة الغزالي في جريدة الأهرام بضرورة التصدي "للقيم والتقاليد البالية التي فرضت نفسها في غياب أي جهد ثقافي مخطط ومدروس طوال السنوات الماضية"، وقال "أدعو أن يذهب إلى أسوان شخصيات أسوانية ونوبية لها مكانتها مثل علاء الأسواني ومحمد منير".
وأضاف "علينا أن ننبه أبناء النوبة وأسوان إلى أن ما يحدث يدمر بلدهم وسمعتها ويضرب في مقتل النشاط السياحي الذي هو عصب الاقتصاد في أسوان والأهم من ذلك أنه يصيب أو يهين روح مصر التي لم تعرف أبدا ذلك العنف العرقي المشين وسوف تلفظه بسرعة بإذن الله".
وواقع الحال أن هذه المنطقة التي اندلعت فيها الفتنة شاهد أصيل على مدى الثراء والتنوع في روح مصر وانسجام مستويات هويتها الحضارية فيما تسعى قوى الشر في المعركة على روح مصر لتغذية عوامل الفرقة والانقسامات العمودية والأفقية في الجسم الاجتماعي مستعينة في ذلك "بمسلسل من الأفخاخ المتتابعة لإنهاك المؤسسات الوطنية التي انحازت لإرادة شعب مصر في 30 يونيو 2013".
ومن هنا لا يجوز النظر لما حدث في "السيل الريفي" بأقصى الجنوب المصري بمعزل عن الحرب التي يتعرض لها شعب مصر منذ إسقاط حكم جماعة باغية اتبعت مخطط التدمير المنهجي لكيان الوطن وشعبه وحضارته وهويته فيما تعمد تلك الجماعة الآن ومن يقف خلفها وخاصة من أصحاب العقد التاريخية للقيام بكل ما من شأنه "إسقاط الدولة الأقدم في التاريخ".
وفي لحظة التغيير المفصلية والاستحقاقات الكبرى ورهانات المصير، فإن منطقة النوبة تحظى بأهمية في قدرة تاريخ مصر على إعادة استحضار مكتسباته الثقافية والحضارية فتلك أرض لا تقرأ إلا بحواس الفن كاللون الثامن المستحيل في قوس قزح بين الماء الصافي والدفقات الملونة وشجن النيل وتجاويف الخيال.
أرض تفتح عمقا وتمنح الإبداع .."ماسكاجرو"!..مرحبا أنت في أسوان..في النوبة..في مصر الطيبة..في أرض الطيبين حيث يسكن الفن تحت سماء الدهشة!..إنها الخصوصية التي تشكل جزءا بديعا من المشهد الثقافي المصري المتعدد الأبعاد والمستويات متماهيا في ذلك مع ثراء الهوية المصرية وتنوعها ورحابتها فيما فجر الحنين لأرض الأجداد أو مسقط الرأس الكثير من الطاقات الإبداعية للنوبيين المصريين.
والمشهد الثقافي النوبي ثرى بالفعل فيما يطغى المكان بصورة لافتة على الرواية النوبية التي أثرت الإبداع الروائي المصري وشكلت رافدا من روافده خاصة منذ رائعة "الشمندورة" التي كتبها محمد خليل قاسم عام 1964 ونشرت عام 1968.
ويعتبرها كثير من النقاد رواية "الشمندورة" ومن أبرزهم الراحل الدكتور شكري عياد علامة فارقة وفتحا إبداعيا في عالم الرواية النوبية بقدر ما تظهر أن "المكان هو البطل الجوهري للنص".
ورأى الناقد الكبير الدكتور شكري عياد الذي قضى عام 1999 أن من أهم سمات الإبداع الروائي النوبي كإثراء حقيقي للأدب المصري سمة "البكارة".
ويبدو أن الحنين للمكان مبرراته الدرامية القوية في ضوء معاناة النوبيين من هجرات متعددة لأرضهم في النوبة القديمة بما انطوت عليه من تحولات تاريخية وجغرافية في أوجه الحياة بدءا من عام 1902 عندما أقيم خزان أسوان ثم في عام 1913 وقت التعلية الأولى للخزان فعام 1933 وقت التعلية الثانية وصولا للتهجير الأخير مع بناء السد العالي عام 1964وغرق النوبة القديمة وهو ما رصده إبداعيا يحيى مختار في روايته :"جبال الكحل".
هذا الإبداع المصري الأصيل في تجلياته النوبية وبمفردات الشجن والحنين لأرض الأجداد ومسقط الرأس يختلف كثيرا عن النظرة الغربية الاستشراقية للنوبة في امتداداتها الأفريقية العميقة والتي تستخدم مقاربات أخرى ولها مآرب أخرى.
نظرة يعبر عنها كاتب غربي مثل جيفرى جيتلمان في طرح بالإنجليزية نشرته "نيويورك ريفيو" بعنوان :"الحرب على النوبة" وهو في الحقيقة يتحدث عن منطقة النوبة السودانية في خضم تقسيم السودان وظهور الدولة المستقلة للجنوب.
إنه يركز على ما يسميه بالمنطقة الحادة النتوءات التي تبلغ مساحتها 1357 ميلا بين دولتي السودان ويصفها بأنها باتت المنطقة الأكثر إثارة للخلاف في أفريقيا .. مضيفا أنه في سياق هذا الخلاف الشائك قد تكون منطقة جبال النوبة التي يصل ارتفاعها إلى ثلاثة ألاف قدم هى الأشد عنادا واستعصاء على الحل كما أنها سبب لكثير من العنف والمعاناة للسودانيين.
جيفرى جيتلمان يصور عادات النوبيين في السودان كأناس ينزعون للعنف ويعشقون لعبة المصارعة الحرة مستندا في ذلك لكتاب صدر عام 1973 عنوانه :"نهاية النوبة" للينى رايفينيستال وهو مخرج سينمائي ألماني شهير كان مقربا من الزعيم النازي الألماني ادولف هتلر وجذبته جبال النوبة بتراثها وعادات أهلها بما في ذلك شغفهم بالمصارعة.
لكن جيتلمان لا يكتفي بالتأكيد بهذا الكتاب وإنما يروي مشاهداته في جبال النوبة السودانية التي تجول بها ولم تخل هذه المشاهدات من الميل الغربي المعهود للنظرة العجائبية والحديث عن القرود والمرأة البلغارية المفرطة في التدخين والتي تقيم في العاصمة الكينية نيروبي وتقود طائرة وتنقذ القرود والشمبانزى من جحيم العنف بين البشر.
وعندما قارب جيفرى جيتلمان الثقافة في جبال النوبة السودانية كان له أن يقول إنها ثقافة مميزة للغاية في السودان ولها خصائصها المختلفة عن غيرها من الثقافات هناك وأن السكان حتى سبعينيات القرن العشرين لم يستخدموا النقود في تعاملاتهم وإنما اعتمدوا على نظام المقايضة كما أنهم لايكترثون كثيرا بارتداء الملابس فيما يخلص من تحليله الثقافي- السياسي لنتيجة فحواها أن منطقة جبال النوبة لن تنعم بالسلام الدائم جراء ما يسميه "بالتاريخ الذي يقطر سما".
إنها النظرة العجائبية الأمريكية والغربية بمآربها وأغراضها ومصالحها أما النوبة المصرية فكلها شجن وحنين وود ومحبة..ومثلما هو الحال في الأدب تتميز فنون النوبة بالثراء والخصوبة كلحن أصيل في موسيقى الحضارة المصرية وهذه الأرض التي يعبر سكانها عن عشق ثقافة المكان.
وكان متحف النوبة الذي أقامته وزارة الثقافة قد حصل على جائزة اليونيسكو لأجمل معمار فيما يتميز الأدب النوبي بخصوصيته التي لا تعني بأي حال من الأحوال انعزالية عن التيار الدافق للأدب المصري بتنوعاته وتنويعاته.
ونوه "بالشخصية الأسوانية التي تحمل البشاشة وحسن الاستقبال والترحاب بالضيوف والطيبة والسماحة وكان رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب قد أكد أن الفترة المقبلة ستشهد مشاريع تنموية كبيرة لخدمة أهالي النوبة والصعيد.
وتقول الكاتبة والباحثة القانونية الدكتورة ليلى تكلا إنها سمعت الكثير عن النوبة من زميل باليونيسكو يعتبرها من كنوز مصر الثقافية والإنثربولوجية فيما قامت بزيارتها لتقصي الحقائق حول أماكن توطنهم التي هجروا إليها.
وأشارت إلى ارتباط النوبي بمسقط رأسه حيث يعود إليه في الأجازات والمناسبات ويستقر به في المعاش .. مؤكدة أن "النوبة جزء أصيل من أرض مصر بل من أعرقها" حيث يرجع تاريخها للعصر الحجري.
واستعرضت ليلى تكلا تاريخ النوبة التي خاض ملوكها حروبا ضروسا ضد الفرس والآشوريين والرومان وأطلق على سكانها "الفراعنة السود" تعبيرا عن انتمائهم لمصر وأعادت للأذهان أنها خلال زيارة تقصي الحقائق "سعدت بمصريتهم وأخلاقهم وهدوء أسلوب تقديم مطالبهم" .. مضيفة "لم أسمع أبدا حديثا أو تلميحا أو تهديدا عن انقسام أو انفصال".
وفيما يؤكد الروائي حجاج ادول الذي حصل على جائزة الدولة التشجيعية عن "ليالي المسك العتيقة" أنه "لا يمكن الفصل بين ينابيع ذاته فهو كل لا يتجزأ" فإنه يقول إنه "يغضب عندما يشير إليه الناس باعتباره أديبا نوبيا فهو أديب مصري" وإن كان يعبر عن حلم العودة لأرض الأجداد وهى أرض مصرية تحمل اسم النوبة.
وعلى نفس المنوال يرفض الروائي يحيى مختار "مصطلح الأدب النوبي"، موضحا أن "الأدب هو اللغة التي يكتب بها ومادام الأدب الروائي الذي يكتبه مع زملائه يكتب باللغة العربية فلا يمكن تسميته بالأدب النوبي..بل هو إبداع له خصوصيته يثري الأدب المصري".
ويقول الشاعر النوبي محيي الدين صالح إن أدب النوبة الحديث بدأ منذ 300 عام برواية لزينب كودوت عن الأساطير غير أنه يؤكد أن رواية الشمندورة لمحمد خليل قاسم هى أهم علامة من علامات الرواية النوبية حتى أنه يتم تصنيفها "بما قبل الشمندورة وما بعدها".
وواقع الحال إن الأدب النوبي يحفل بروايات وقصص وقصائد يسري عبر سطورها حلم العودة للأرض العتيقة ومسقط الرأس وهو ما يتجلى مثلا في إبداعات الروائي حجاج ادول، فضلا عن إدريس علي صاحب "دنقلة" ويحيى مختار وقصيدة "العودة" للشاعر مصطفى عبد القادر.
ومن الطريف أن الروائي النوبي يحيى مختار يتحدث في روايته "اند وماندو" التي تعني "هنا وهناك" عن كاتب يحاول مع عروسه الفنانة التشكيلية إعادة بناء القرية النوبية التي شبا فيها عن الطوق واضطرا لتركها مع الأهل عند بناء السد العالي في مكان أخر بعيد عن النوبة وهى منطقة "المرج" ربما لأنها كانت تضم الكثير من النخيل كما تعانق النهر مثل مسقط رأس الكاتب في بلدة "الجنينة والشباك".
وفيما قالت الدكتورة ليلى تكلا، "إن أهالي النوبة حماة مصر..كانوا هكذا وسيظلون أبدا" .. نفى الروائي يحيى مختار صحة أي أقاويل حول تهميش الإبداع النوبي أو المثقفين النوبيين ضاربا المثل بنفسه حيث حصل على جائزة الدولة التشجيعية وكذلك زميله حجاج أدول فيما فاز حسن نور بجائزة اتحاد كتاب مصر عن مجموعته القصصية "خور رحمة".
ولم لا وهم أبناء ارض مصرية يسكنها الإبداع تحت سماء الدهشة ؟!..إنها الطزاجة والبكارة والعفوية الهادرة ونزق الفن ومغامراته وغبطته وفضاءاته البعيدة بانشطارات النشوة..الفن للإنسان والأرض والنهر. النهر أنهارا وشموسا وأزمنة وغناء!..من ينسى شجن أغاني الراحل محمد حمام..من لا يتذوق المذاق البالغ العذوبة والخصوصية لفن محمد منير ؟!..فنانو النوبة قصة حب لمسقط الرأس وللوطن المصري.. من هنا خرجوا للدنيا كلها..من خبيئة حكمة وصبارة مجد للوطن وأجمل بقاع النهر العظيم على لوحة مصر الجميلة العارفة سر الحياة ومعنى الخلود.
من هنا ساروا في الطريق المتفرد بلذة المغاير عكس الإيقاع الرتيب والملامح والتفاصيل العادية..إنها الروح النوبية حيث تتجذر الطيبة ويأتي الفن متدفقا من سماء إلى سماء منسابا لدنيا رحبة.."ماسكاجرو" سيظل النوبي يقولها لضيوفه فتبتسم الدنيا لهذا الكريم المضياف..نحيلا مثل تباشير أغنية وهمس نشيد ..جميلا مثل صباح يتجدد في أرض من خيال !..
"ماسكاجرو" وغدا تنتصر مصر بكم ولكم وتوئد الفتنة..أايتها الأرض الطيبة الطاهرة الرفات لا تجهشي بالبكاء فغدا ينحسر الليل عن وجهك الجميل وتأتي هيبة النهار وغدا تتجدد روعة الحياة.