الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

هذا ما قاله والدى عن الفرق بين اليهود والصهاينة!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

 

بينما كنت أتابع القصف الإسرائيلى الوحشى على غزة، تذكرت حكايات والدى عن اليهود وكيف كان فى طفولته وصباه يفرق بينهم وبين الصهاينة حتى عايش أحداثا صدمته وغيرت قناعاته واكتشف أن لا فرق بينهما إلا حالات معدودة على الأصابع إذا كانوا حقًا يعارضون الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين وما يرتكبه من قتل وقمع وسلب وتدمير، والأهم أيضًا أن يرفضوا الهجرة إلى هناك. كان والدى تاجرًا فى سوق القماش بالعاصمة التونسية، ولديه قصة عن انتمائه للعروبة ورحلات جدوده فى مصر ليس هذا محلها. المهم أن عدد اليهود التوانسة وفقًا لرواية والدى فى الأربعينيات بلغ عشرين ألفًا، بينما تفاوتت رواياتهم حيث كان البعض يردد أنهم مائة ألف يهودي. كان أغلبهم يحمل الجنسية الفرنسية مع التونسية بعد احتلال الاستعمار الفرنسى للبلاد وقد استخدموا تلك الجنسية الفرنسية للخروج من تونس سواء نحو فرنسا أو من فرنسا نحو فلسطين المحتلة فى موجات بعد الحرب العالمية الثانية. 

كان هذا الموقفُ غريبًا والذاكرة الشعبية لا تنساه ولا تغفره، خاصة أن اليهود عاشوا فى تونس كمواطنين آمنين طيلة عقود بل قرون، وتمتعوا بالمساواة المدنية والدينية منذ 1857 عندما أدخل محمد باى إصلاحات جذرية ألغت اعتبارهم من أهل الذمة. وكان أغلبهم يعيش فى تجمعات يهودية فى العاصمة وجزيرة جربة حيث كنيسهم الأشهر الذى يحجّون إليه سنويًا، ولم يعانوا من سلوك تمييزى ضدهم، بل بالعكس تميزت تونس بالانفتاح المبكّر حيث لا تُسجّلُ الديانة فى الأوراق الثبوتية، واختلطوا ببقية التونسيين وتميزوا فى أعمالهم، بل وتقلّدوا المناصب الوزارية، مثال على ذلك ألبير بسيس وزيرًا للتخطيط العمرانى والإسكان بعد منح الحكم الذاتى لتونس عام 1954 وخلّفه أندريه باروش عند الاستقلال عام 1956. كل ذلك لم يمنع تفضيلهم الهجرة من وطنهم الأم فى ثلاث موجات: بعد إنشاء الكيان الإسرائيلى 1948، وبعد استقلال تونس 1956 وبعد حرب 1967. وهذه الموجات كانت علامات استفهام كبيرة لدى والدى والتونسيين وليس لها تفسير فى الواقع بل تعود لمؤامرات الحركة الصهيونية ودعايتها لأرض الميعاد!

 قد يقول قائل إن ما أكتبه هنا مجرد ذكريات جمعتها من حكايات والدى وليس تاريخًا موثقًا يمكن التعويل عليه. لكنّ التاريخ يضع الذاكرة فى حسبانه حيث أنها أحد مصادره رغم كونه لا يحبس نفسه فى حدودها الضيقة.

أعود للتواجد اليهودى القوى فى تونس إلى أن قامت الحرب العالمية الثانية، واحتلت قوات ألمانية وإيطالية تونس فى 9 نوفمبر 1942، وذلك ردًا على غزو الحلفاء للجزائر والمغرب. واستمرت السيطرة النازية على تونس لمدة ستة أشهر. وأنشأ الألمان العشرات من معسكرات العمل واحتاجوا اليد العاملة ففرضوا على اليهود العمل لصالحهم. فى 6 ديسمبر حل الألمان مجلس الطائفة اليهودية وأمروا موشيه بورغل بتشكيل مجلس مؤلف من تسعة أعضاء خلفا له. وطالبوه بحشد ألفى يهودي. لكن لم يستطع المجلس تعبئة أكثر من 120 شخصًا. وكان رد الألمان احتجاز الرهائن من الطائفة واعتقالات فى الحى اليهودى ووسائل المواصلات. وخبأ التونسيون اليهود فى مزارعهم بعيدًا عن أنظار الألمان. 

وحكى والدى قصة بقيت محفورة فى ذاكرتنا. كان صبيًا يافعًا واستقل القطار بصحبة والده وكان يجلس بجانبهم جارهم شاب يهودى يعمل تاجرًا فى نفس السوق. وأُوقف القطار عنوة من قوات المحور وصعد الألمان يبحثون عن اليهود فى العربات. نظر والدى إلى جاره فوجده فى حالة يرثى لها من الخوف لدرجة أن بوله انساب من بين رجليه على أرضية القطار. وما كان من أبى إلا أن نزع "الكبوس" الأحمر من فوق رأس جدي، وهو غطاء الرأس الذى يلبسه المسلمون، وألبسه لجاره اليهودى. كما انتزع برنسه الشتوى ووضعه على أكتافه. وهكذا مر الموقف بسلام.

موقف والدى وجدى لم يكن استثناء بل هو سلوك غالب للتونسيين بما فى ذلك الباي، حيث لم يؤيد أحمد باى الثانى (1929-1942) السياسة التمييزية ضد اليهود خلال الاحتلال الفرنسى وحاول إبطاء تنفيذ القوانين التمييزية لحكومة "فيشي" وحرص على تقليد بعض اليهود ذوى المكانة الرفيعة فى مجال الطب والتعليم والإدارة أرفع وسام، عُرف باسم "نيشان الافتخار". وحتى بعد وفاته، استمرت تلك المعاملة العادلة فى فترة خلفه منصف باى الذى لم يشارك خلال فترة حكمه القصيرة فى النشاط الألمانى ضدّ يهود تونس.

لكن بمجرد انتهاء الاحتلال الألمانى فى مايو 1943، بدأت الجالية اليهوديّة فى التخطيط لمستقبل مختلف، رغم حسن المعاملة، وبدأوا موجات الهجرة إلى إسرائيل، خاصة بعد نكبة 48. وانتبه والدى إلى نشاطات مشبوهة لشبيبتهم، فى تهريب الذهب والآثار، وهو ما يسمى بـ"الكنطرة". وفوجئ والدى ذات يوم بجاره اليهودى الذى أنقذه من الألمان يعرض عليه شراء محله مدعيًا أنه لم يجد أفضل منه ليبيعه إياه. وبالفعل اتفقا على الثمن ودفع والدى المبلغ إلا جزءًا هينًا لحين تسجيل العقد فى اليوم الموالي. ولم يأت البائع اليهودى مطلقًا واحتال على والدي، وسافر إلى فرنسا ومنها إلى إسرائيل دون إتمام إجراءات البيع. تكرر هذا الموقف مع آخرين اشتروا أراضٍ ومنازل ومحلات بنفس الطريقة. ليس ذلك فحسب بل إن اليهود المهاجرين سجلوا ممتلكاتهم لدى لجانهم السرية مبيتين النية لرفع قضايا تعويضية يومًا ما عندما تحين الفرصة. هل عرفتم الآن الفرق بين اليهودى والصهيوني؟!.

*صحفية متخصصة في الشؤون الدولية