الأربعاء 08 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

محمود حامد.. جندى مجهول فى بلاط الصحافة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

عرف كثير من الصحفيين محمود حامد، منذ بدأ العمل فى المطبوعات العمالية، خاصة فى بداية الثمانينيات. وتعرف عليه البعض الآخر، منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، أى بعد أن أصبح المحرك الرئيسى للصحيفة التى يصدرها حزب التجمع اليساري، بغض النظر عمن يتولى رئاسة تحريرها. 
كانت صحيفة الأهالى تتوسع، وتنتشر، وتنافس صحفًا معارضة أخرى. وأخذ محمود حامد ينقب عمن يصلح للعمل التحريري. لا فرق لديه بين من يأتى من مدينة صحراوية نائية، أو مدينة ريفية قريبة. المهم.. الفيصل للقدرة على إنجاز موضوعات متكاملة وصالحة للقراءة. بمجرد أن يستشعر فيك الحس الصحفي، يبدأ فى فتح عينيك على عديد القضايا الإنسانية التى تستحق الكتابة. إن الصحافة ليست مستنقعًا سياسيًا فقط. 
والأهم أنك يمكن أن تتعلم من محمود حامد- وفعل ذلك بشكل غير مباشر- كيف تتحول الموضوعات التى تهم الناس إلى عناوين رئيسية فى واجهة الصحيفة. ماذا يهم المواطنين؟ رغيف الخبز. ما مدى جودته؟ هل مناسب لهم أم لا؟ هل يشترونه من الفرن، مثل كثير من سكان المدن، أم يصنعونه من الطحين فى الريف؟ وما الأسعار؟ وهكذا.. هذه موضوعات سياسية، لكنها توضع فى قوالب حياتية تهم غالبية المصريين. 
أقول هذا لأنه بالنسبة لصحيفة حزبية، كانت دائمًا هناك عراقيل شتى. فكثير من مسئولى الحزب فى المحافظات، يظنون أن هذه المطبوعة ينبغى أن تمثل وجهة نظر كل منهم على حدة، بغض النظر عن اختلاف أذواق القراء. وبعد صدور الصحيفة يوم الأربعاء، تنهال الانتقادات من المحافظات على هذا الموضوع أو ذاك. ويجد محمود حامد نفسه فى غابة من رؤساء التحرير الصغار الذين لم يمارسوا العمل الصحفى من قبل، ناهيك عن رئيس التحرير الأساسي، الذى دائمًا ما يصاب بالرعب، ويترك مهمة الرد على مسئولى المحافظات لمحمود حامد.  
هنا فرق كبير بين ما يستحق الكتابة وما لا يستحق. وبين ما يستحق النشر وما لا يستحق.. فلا معنى لتخصيص نصف صفحة عن كلمة أمين الحزب فى المحافظة الفلانية. لا معنى على الإطلاق لمثل هذه الأحلام اليسارية! وبدلًا من ذلك، يبحث محمود حامد عن أصل الموضوع. إن كلمة أمين المحافظة تدور عن نقص مياه الشرب. هنا يبعث محررًا للتحقيق فى القصة. ويواجه المحرر رئيس مرفق المياه، ويأتى بأقوال الناس، وأسباب نقص المياه، وكميتها المفترضة، وغيرها من تفاصيل. 
مثل هذا التناقض بين جوهر العمل الصحفي، ورغبات مسئولى الحزب، كان محور النقاش لأيام. وبعدها انتقل محمود حامد، من مقر الصحيفة القديم فى شارع عبد الخالق ثروت، إلى مقرها الجديد فى شارع محمود بسيونى «أو كريم الدولة»، وانتقلت معه المشاكل الأسبوعية نفسها. ومع ذلك يجلس مع الصحفيين فى اجتماع الإعداد للعدد الجديد، للبحث عما يهم الناس، وللتأسيس للصحافة الحقة. 
لم يكن يبخل على أى صحفي. محمود حامد هو محمود حامد.. مرة رئيسًا لقسم التحقيقات، ومرة رئيسًا لقسم المحافظات، ومرة رئيسًا لقسم الأخبار. لكنه فى الحقيقة، كان هو، دون تغيير. أى أنه كان، تقريبًا، كل الصحيفة.. يحرر كل شيء، ويعيد صياغة الموضوعات، سواء أكانت سياسية أو اقتصادية أو منوعات.. سواء أكانت تحقيقات أو أخبار أو مقالات.  
هو أول من يدخل المقر، وآخر من يخرج منه. إنه دينامو.. هو المحرك. لذا تراه يهدر ويزفر ويتنقل بين غرفة وأخرى؛ من غرفة رئيس التحرير إلى غرفة المونتاج، ومن مكتبه المتواضع، إلى مكاتب المحررين الكبار والصغار.. رغم أن الصحيفة كانت أسبوعية، إلا أنه لا يتوقف عن اللهاث وراء الوقت. وكلما اقترب يوم الثلاثاء، موعد إرسال أصل الصحيفة للمطبعة،  زاد غضبه وحرصه على إتمام كل شيء، ليكون على خير ما يرام.  
لقد كان فوق كل ذلك مدققًا أيضًا، ربما لكى يرد على منتقدى كل عدد من أعداد الصحيفة. كان يقوم بتعديل العناوين لكى تكون أقصر، ولكى تكون أكثر جاذبية. ويجادل رئيس التحرير. ويفعل ذلك أمام الصغار قبل الكبار.. لكى يتعلموا. لكى يتحملوا المسؤولية، وأكثر.. فمن أجل أن يرضى عن تمرير موضوع ما، لا بد أن تتحقق فيه الدقة والنزاهة والموضوعية، وإذا شعر أن هناك أى محاباة أو انحياز، تسمع صوته وهو فى نقاش محتدم مع رئيس التحرير، ومع كاتب الموضوع أيضًا. 
تحمس محمود حامد لعمل بعض المراسلين الأكفاء، ودفع بهم للتنقل بين المحافظات. لقد تمكن من توظيف شغف البعض بالاستكشاف. وعلى يديه استطاع كثيرون مقابلة كبار الملاك وصغار المزارعين فى الصعيد والدلتا، ومن الجلوس مع عوائل من ذوى أولئك الذين غدرت بهم أيدى الفساد والغل والإرهاب.. وفتح الأبواب واسعة لعمل موضوعات صحفية متنوعة، ودفع بعدد آخر لكى يغمس يديه فى المونتاج أيضًا، وليس فى الكتابة فقط.
منح محمود حامد كثيرين فرصة الاطلاع على الأعمال الصحفية، من بداية تكونها، إلى وضعها فى الأعمدة والقوالب، بجوار الصور.. كان يدور بعينيه على واجهات الصفحات بحثًا عن أى أخطاء، قبل الدفع بالنسخة إلى المطبعة. ورغم شقاء اليوم، لا يترك من كان ينهرهم أثناء العمل، إذ يجلس معهم فى الهواء الطلق لشرب الشاى والقهوة والمرطبات، وتبادل آخر الأخبار وآخر النكات أيضًا.
وبعد أن ظهرت موجة الصحف الخاصة، خلال السنين الماضية، كان عدد من القائمين عليها، من تلاميذ محمود حامد، فى التحرير وفى إعادة الصياغة، وفى المونتاج، وفى التدقيق، وغيره. لذا من حق كل من تعلم على أيدى محمود حامد أن يستغرب، وأن يتساءل: من المسئول عن ضرورة تكريم هذا الرجل الفذ. ومتى يتم الاحتفاء بهذا الجندى المجهول فى عالم الصحافة؟.